الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 319/كتاب في الدين الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 319/كتاب في الدين الإسلامي

مجلة الرسالة - العدد 319
كتاب في الدين الإسلامي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 14 - 08 - 1939


للأستاذ محمد بهجة البيطار

قرأت في الرسالة الغراء مقال نابغة الشام الأستاذ علي الطنطاوي في الإسلام وفهم الأصحاب والأعراب له من النبي ﷺ في مجالس معدودة، وصدورهم عنه معلمين ودعاة إلى الله أيام كانت أوعية العلم الصدور لا الكتب؛ ثم وصف ما يلاقيه في عصرنا طلاب العلوم والفنون من عنت في معرفة هذا الدين السمح بعد أن صرنا نملك ألوف الألوف من كتبه، واقترح أن يؤلف كتاب في الإسلام - عقائده وعباداته وأخلاقه - يشرح فيه حديث جبريل عليه السلام الذي سال فيه النبي (ص) عن الإيمان والإسلام والإحسان بأسلوب شائق مؤثر (لا هو بالأسلوب العلمي الجامد، ولا هو بالأسلوب القصصي الخيالي) كما قال. ودعا الكتاب إلى البحث في هذا الموضوع الجليل، واقترح علي حفظه الله أن اكتب في مبحث الأيمان بالله تعالى على الأساس الإسلامي لا المذهب الكلامي (المشحون بالألفاظ المبتدعة كالجوهر والجسم والأعراض والأغراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث وغيرها) لينشر على صفحات الرسالة الغراء، فلبيت شاكراً للأستاذ الطنطاوي غيرته، ممهداً بوصف كتب العقائد المتداولة بين الأيدي.

كتب العقائد المتداولة

لا يخفى أن الإيمان بالله تعالى هو توحيده على الوجه الذي أثبته لنفسه في كتابه، أو ورد عن المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى في بيانه. وإذا نظرنا إلى كتب التوحيد الدراسية التي تداولتها أيدي الخواص والعوام في معظم الأمصار الإسلامية، وصارت عمدة المدرسين والدارسين في المدارس الحكومية الرسمية وفي المدارس الأهلية والمعاهد الدينية أيضاً نجدها نوعين:

1 - كتب العقائد التي وضعت على طريقة الخلف، وأولت فيها نصوص الكتاب والسنة تأويلا صرفها عن مداولاتها اللغوية والشرعية، ونفي معانيها الوجودية الثابتة، بتأويلات جاءت على خلاف الوضع والشرع.

2 - كتب الدفاع عن الإسلام وتوحيده، واثبات أنه دين العقل والفطرة، وحاجة البشر في كل زمان ومكان، وقد انتشرت في زماننا شبه وشكوك في دين الحق لأقوام وأصناف، كبعثات التبشير أو التنفير، ومروجي الإلحاد والفساد، وكتب التحريف والتخريف؛ وفي ردود دعاة الإسلام وحماة الفضيلة دفع لباطلهم، وكبح لجماحهم، ولكن هذه الكتب التي تضمنت فلسفة التوحيد وحكمة التشريع، هي سلاح علمي نشهره في وجوه أعدائنا، لحراسة عقائدنا، والدعوة إليها، والنضال عنها، لا لتلقي علم التوحيد وعقائده منها، فهي على نفاستها وضرورة دراستها وكونها لا يستغني عنها في مثل هذا الزمن، ليست كتباً موضوعة في علم التوحيد، ولا هي قواعد لعقائده المستمدة من نصوصه المبنية عليها، بل هي فلسفة تحوم حول التوحيد، وإيضاح لمحاسن الدين ومزاياه.

وهنالك نوع ثالث وهو الكتب التوحيدية السلفية التي أثبتت معاني النصوص وحقائقها الشرعية من طريق المنقول والمعقول، وردت كلام المعطلة والمؤولة رداً لم يبق حاجة في النفوس.

وقد كان حوار سلفنا الصالح مفحما للفرق التي ظهرت في عصورهم، وشاعت مقالاتهم في الناس كالقدرية والخوارج، والجبرية والجهمية، والمرجئة والوعيدية. وكتب علم السنة الإمام أحمد بن حنبل، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من أئمة السلف اجل ما صنف في العقائد الصحيحة، وانفعها في النقض على هذه الفرق المنحرفة. وقد جدد عهدهم، وشرح مذهبهم، وبين أنه الأسلم والأعلم والأحكم شيخا الإسلام ابن تيمية، وابن قيم الجوزية في كتبهما، ثم من جاء بعدهما من أئمة الإسلام وأنصار العقيدة السلفية. ولكن كتب هؤلاء الأعلام الواسعة هي علمية تعليمية، لأنها في الغالب كتب حجاج ومناظرة، وتأييد لمداولات النصوص، ورد لشبهات الخصوم. فأنا أؤيد رأي أخي الطنطاوي فيما كتب، واقترح على حماة العقائد الصحيحة التي جاء بها القرآن أن يفتحوا باباً للتوحيد السلفي، وأن ينشروا فصولاً ملخصة مما كتبه الأئمة الثقات فيه، تكون تمهيداً لوضع سلسلة توحيدية تعليمية، مفرغة حلقاتها بأسلوب عصري مدرسي، تشرب القلوب حب السلف الصالح وأثارهم، وتطبع النفوس بطابع عقائدهم وأخلاقهم، وتغذي عقول النشء الإسلامي بلبان التوحيد الخالص المطهر من كل ما يخالطه من أدران البدع والزوائد، فتصح العقائد، وتزكو الأخلاق، وتتوحد المبادئ والغايات، فنضع هذا الاقتراح أمام أولي الكفاية والعزم من إخواننا السلفيين، لعله يجد مكاناً للاستحسان والتنفيذ إن شاء الله تعالى.

تعريف التوحيد

التوحيد في اللغة التفريد. تقول: وحدت الشيء وأحدته إذا فصلته عما سواه وأفردته. وفي الشرع: اعتقاد أن الله واحد احد، فرد صمد، لا ند له ولا ضد. والتوحيد أساس العلوم الدينية، وهو الذي نزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل، وتوارثه المجددون في كل عصر، وقاموا عليه خير قيام. وهو الذي يجب أن يكون رأس الدعوة، ويجاهد في سبيله كل من عاداه، حتى يكون الدين كله لله، وتترك العبادة لما سواه من حجر وشجر وبشر، وشمس وقمر، وملك وجن، وسائر ما عبد من دون الله في الملأ الأعلى أو الملأ الأدنى، وهذا هو مناط النجاة في الآخرة، وليست الدنيا إلا دار سباق لها.

أنواع التوحيد

التوحيد ثلاثة أنواع (1) توحيد الربوبية (2) توحيد الألوهية (3) توحيد الأسماء والصفات (فالأول): الإقرار بان الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر لجميع الأمور. (والثاني) هو إفراده تعالى بجميع أنواع العبادة، والتوجه إليه وحده بالدعاء والطلب. (والثالث) هو أن يوصف الله سبحانه بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله من الأسماء الحسنى، والصفات العليا. فمن الأسماء: الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، ومن الصفات: الرحمن على العرش استوى، بل يداه مبسوطتان، وكلم الله موسى تكليماً.

وقد دل القرآن وشهد التاريخ أن العرب قبل الإسلام كانوا مؤمنين بوجود الله، مقرين له بالوحدانية في الخلق والرزق، والتدبير والتأثير، والإحياء والإماتة، وتصريف جميع الأمور، وان ليس لآلهتهم شيء من ذلك. والنصوص في ذلك كثيرة وصريحة، قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله) وقال: (قل من يرزقكم من السماء والأرض، أمن يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الامر؟ فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون؟) وقال: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه أن كنتم تعلمون؟ سيقولون الله: قل فأني تسحرون) وهذا هو المسمى بتوحيد الربوبية الذي كان عليه أهل الجاهلية، وهو توحيد الرب بأفعاله.

إنما كان شرك المشركين الأولين بتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة، ومن مظاهره الدعاء والخوف والرجاء، والذبح والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة التي كان يصرفها المشركون لمعبوداتهم من الصالحين وغيرهم لتقربهم إلى الله زلفى، وكانوا يقولون في حجهم: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك) فهذا الشريك هو الذي كان يشرك مع الله في العبادة فحسب، لا في الإيجاد ولا في الإمداد كما قال تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله).

كلمة التوحيد

أساس الدين وركنه الأعظم هو كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) فهي أصل الأصول، ودين الرسل من أولهم إلى آخرهم عليهم الصلاة والسلام (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون). فكلمة التوحيد هذه لابد من فهم معناها والعمل بمقتضاها، وهو ما بعث به النبي (ص) ودعا إليه: أله إلاهة وألوهة وألوهية: عبد عبادة، ومنه لفظ الجلالة وكل ما اتخذ معبوداً إله عند متخذه كما في القاموس، فمعنى إله في لغة العرب وفي الشرع هو المعبود بحق أو بغير حق. ولفظ الجلالة على المعبود بحق وهو الله عز وجل فكلمة (لا إله) نفي لكل معبود في الوجود وإبطال لعبادته، وكلمة (إلا الله) إثبات لعبادة المعبود بحق وحده، ذلك بان الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير) فكلمة التوحيد مسقطة لجميع آلهتهم، هادمة لأنواع عبادتهم، مثبتة العبادة كلها لله وحده الذي وحدوه بربويته ولم يوحده بإلهيته، فأقام عليهم الحجة بما أقروه على ما أنكروه، وبين أن من تفرد بالإيجاد والإمداد يجب أن يفرد بالعبادة، وهذه الحجة القاهرة من حجج الله على العالمين إلى يوم الدين

لما كان العرب في جاهليتهم يفهمون من كلمة (لا إله إلا الله) هذا المعنى الذي بيناه لغة وشرعاً كانوا يستكبرون عن النطق بها لأنهم علموا أن الإذعان لها كفر بالآلهة وإبطال لعبادتهم، كما قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون؛ ويقولون أإنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) وقال: (وإذا ذكر الله وحد اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وقال: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض؟ أم لهم شرك في السموات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا، أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) وقال: (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا، فالحكم لله العلي الكبير)

أما دعاة غير الله فقد سهل عليهم الأمر لأنهم فهموا من كلمة التوحيد ما يخالف الوضع والشرع وفسروها بمعنى توحيد الله بأفعاله، وبالقدرة على الإبداع الاختراع، واخرجوا كل ما ذكرناه عن معناه اللغوي والشرعي، كالدعاء والخوف والرجاء، والحب والتعظيم، والاستعانة والاستغاثة والاستعاذة، والتوكل والذبح والنذر، والخضوع والخشوع والالتجاء، وغير ذلك من أنواع العبادة، وأجازوا فعله كله لغير الله، بعد أن نحلوه لقب التوسل والاستشفاع.

التوسل الجاهلي

ليس الكلام في التوسل الخلافي المشهور بين العلماء المحصور في دعاء الله وحده مع التوسل إليه بصالحي عباده، وإنما الكلام في توسل آخر لا يعرفه إلا الغلاة والجهال، وهو دعاء أهل القبور أنفسهم، والاستنجاد بهم، وطلب الغوث منهم لإنقاذ الغرقى وشفاء المرضى، ورد الغائبين وإغاثة الملهوفين، وإعانة المستعينين؛ وهذا لا يسمى توسلاً بهم لا دينا ولا عقلاً ولا لغة، بل هو دعاء لهم وطلب منهم وهو خارج عن موضوع التوسل وليس منه في شيء.

فان قلت إن الداعي لغير الله لم يرد بدعائه إلا الله، متوسلاً إليه بمن يدعوه، وإن قلبه منطو على عقيدة صحيحة لو كشف الغطاء لشهدت صحتها، وهلا شققت عن قلبه؟ (فالجواب) أن ما في القلب لا يعلمه إلا علام الغيوب، وأن الكلام منحصر في دائرة الأقوال والأفعال التي تناقض صحة العقيدة القلبية كل المناقضة، والشارع ناط الأحكام بالظاهر، والله يتولى السرائر. ولا يرد حديث: (هلا شققت عن قلبه) إلا على من يدعي معرفة الباطن، وأنه موافق أو مخالف للظاهر، وإنما البحث فيما يبدو للحس من قول أو عمل مصادم للشرع. وقد أنكر النبي (ص) على أسامة قتل من أتى بكلمة التوحيد ولم ينقضها بقول ولا عمل، فادعى أسامة (رضى الله عنه) أنه لم يأت بها عن عقيدة قلبية، فأنكر ذلك عليه صلوات الله عليه وقال: هلا شققت عن قلبه؟ وأين هذا من ذاك!

وصف القرآن أهل الجاهلية وفرعون الذي ادعى الربوبية والألوهية بأنهم كانوا إذا وقعوا في شدة كخوف الغرق في البحر مثلاً دعوا الله مخلصين له الدين، كما قال فيهم: (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) وقال في فرعون: (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين) أفيكون أولئك القوم وفرعون أولى بدعاء الله وحده في الشدائد ممن يتبجحون بالإسلام والتوحيد؟ وبدهي من عقيدة المسلمين أن جميع المخلوقات لا يملكون لأنفسهم - ولا لغيرهم بالأولى - في الرخاء ولا في الشدة ضرا ولا نفعا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا) فكيف تتفق هذه العقيدة المستندة إلى النصوص القطعية المجمع عليها مع دعاء غير الله تعالى في الرخاء وفي الشدة أيضاً؟

وإذا أضيف إلى ما سبق دعوى التصرف في الكون التي يدعيها العوام وأشباه العوام لبعض الصالحين، أو تقسيم الدنيا إلى أربع مناطق، وتخصيص كل قسم منها بواحد منهم، ودعوى وجود الله تعالى بذاته - تقدست وعلت - في كل مكان، أو دعوى انه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه، وما يضاف إليها من سلبه تعالى صفات كماله، ونعوت جلاله؛ فقد وقع الأشكال العظيم في التوحيد بأقسامه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. ونعوذ بالله من سوء الفهم والخذلان. الحق يقال: إن هذه العقائد قد عظم ضررها، وقبح أثرها، وكان من نتائجها خروج جماهير المتعلمين على الطريقة الفنية عن دائرة دينهم، وافتتانهم بما عند غيرهم. فما هو العلاج الشافي من هذه الأدواء الفتاكة يا ترى؟ وكيف يعود الناس إلى عقيدة الإيمان بالله - على الوجه الصحيح الذي جاء به الإسلام وجرى عليه أهل الصدر الأول علماً وعملاً واعتقاداً؟

خاتمة

إني والذي جعل العلماء ورثة الأنبياء - لأعجب كل العجب ممن يقفون على تاريخ الإسلام وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام وممن يعلمونها في المدارس، ثم يغفلون عن قضية من أهم قضايا التاريخ وأشدها ارتباطاً بعلم التوحيد وتأثيراً في تهذيب النشء الإسلامي بل الإنساني الحديث، وإنشائه صحيح العقل، سليم الفطرة، بعيداً عن كل لوثة وثنية أو جاهلية.

إن كل من أحاط بالسيرة النبوية وسيرة الصدر الأول للإسلام خبرا أنكر أشد الإنكار ما احدث الناس من البدع والجهالات والسخف والخرافات. وإني مورد طرفاً يسيراً من سيرة الصحب الكرام ولا سيما الخلفاء الراشدين الذين من تمسك بسنتهن نجا، ومن شذ عنها شذ في النار، لتكون لنا مناراً كمنار الطريق

بقى النبي - بأبي هو وأمي (ص) - قبل الدفن ثلاثة أيام والنزاع قائم بين الصحب الكرام على أمر الخلافة حتى بايعوا أبا بكر (رض) ولم يسألوا النبي (ص) عمن هو الأحق بها من بعده. وكانت وقعة الجمل بين أم المؤمنين وابن عمه أبي السبطين الشهيدين، وسفكت دماء عزيزة عليه (ص) ولم يستفتوه قبل القتال ولا بعده وهو دفين في بيت عائشة بين سمعهم وبصرهم. وجرت وقائع صفين بين علي ومعاوية، وكانت أعظم هولاً وأشد فتكاً، ولم ينقل أن أحداً منهم استنجد بالنبي أو استغاث به، أو سأله عن حكم هذه الحرب أو التي قبلها، كما انهم لم يسألوا شهداء أحد عليهم الرضوان شيئاً من ذلك وهم سادة الشهداء. وجمع القرآن في عهد الصديق، ووقع الخلاف أولاً في جمعه، ولم يستفتوه في ذلك، وكانوا يسألون النبي (ص) عن كل ما يعرض لهم من الأمور فصار يسأل بعضهم بعضاً، ولم يجيئوا فيسألوه في قبره (ص) وقال عمر: الهم كنا إذا أجدبنا نستسقي بنبيك محمد (ص) فتسقينا؛ والآن نستسقي بعمه العباس، فطلبوا الدعاء من عمه ولم يطلبوه منه كما كانوا يفعلون في حياته بينهم. وقال عمر: ثلاث مسائل وددت لو أني سألت رسول الله (ص) عنها، ولم يسأله عنها بعد وفاته. وكانوا يضربون أكباد الإبل من الشام إلى المدينة ليسألوا عائشة عن حديث سمعته من النبي (ص) فكانت تجيبهم ولم يسألوه وهو في بيتها. ومضت القرون الثلاثة المفضلة وكل طبقة كانت تسأل من فوقها وتسفتيهم، ولم يسألوا سيد الأنبياء ولا سادة الشهداء الأحياء عند ربهم (شهداء أحد) عن شيء.

هذه هي أعمال الصحابة (رض) حينما هاجمتهم الخطوب، واستعرت بينهم نيران الحروب، ووقعت لهم مناظرات كالمناظرة التي جرت بين الشيخين في قتال ما نعى الزكاة، وكالخلاف الذي وقع في إرسال جيش أسامة بن زيد الذي عقد لواءه النبي (ص) ليسير إلى بعض جهات الشام، ولم يسألوا النبي (ص) عن شيء من ذلك أحوج ما كانوا إلى سؤاله، وأحرص ما كانوا على العمل بمقاله، وكان (ص) هو الذي يقسم بينهم الأعطيات والمغانم، ويكون فيهم في الغزوات ويرسل منهم السرايا، ولم يقع شيء من ذلك له بعد وفاته.

وجملة القول: أن النبي (ص) كان مرجعهم في الدين والدنيا في حياته، صاروا يرجعون إلى ما عرفوا من سنته بعد وفاته، وكل هذا معلوم من الدين والتاريخ بالضرورة، ومن العقل والحس والوجدان بالبداهة؛ ولكن مدرسي تاريخ المسلمين في الأمصار الإسلامية قد قصروا فيما يجب عليهم من البيان، وفي عدم الجمع بين حوادث التاريخ ومسائل الدين؛ والكتب الكلامية المذهبية المتداولة لم تبن العقائد فيها على قواعد الأدلة، ووصف ما كان عليه في القرون المفضلة أهل هذه الملة

وأنا قد أوردت في مقالي هذا شذرات من أعمال الصحب الكرام مقتبسة من هدى النبي الأمين ووحيه، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها كما قال مالك إمام دار الهجرة (رض)

قال رجال الدين والتاريخ والعلم الصحيح أوجه مقالي هذا راجياً أن يقرنوا العقائد الدينية بالشواهد التاريخية، رحمة بهذه الأمة، وليكون علم العقائد لدى الطلاب كسائر العلوم التي يطبق فيها العلم على العمل، لكي لا تضيع الثمرة المطلوبة من دروس العقائد والتاريخ التي يقضي الطالب في دراستها زمناً غير قليل، والله هو الموفق والمعين.

(دمشق)

محمد بهجة البيطار