الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 319/خليل مردم بك

مجلة الرسالة/العدد 319/خليل مردم بك

بتاريخ: 14 - 08 - 1939


وكتابه في الشاعر الفرزدق

لأستاذ جليل

فخر الفرزدق

فخرنا فصدِّقنا على الناس كلهم ... وشر مساعي الناس والفخر باطله

(وشعر الفرزدق في هذا الباب من حر الشعر وخالصه، ومن أحسن ما قال؛ يفحل ويجزل، ويقوى ويشتد، ويطول نفسه ويتسع مداه، ويحسن التصرف ويجيد التأويل والاعتذار:

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم)

وللبيت حكاية رواها الأستاذ في الصفحة (20) من (الكتاب) ومما أورده له في هذا الباب:

إذا مت فابكيني بما أنا أهله ... فكل جميل قلتِ فيّ يُصدَّق

وكم قائل مات الفرزدق والندى ... وقائلة مات الندى والفرزدق

أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا (يا جرير) المجامع

وكنا إذا الجبار صعر خده ... ضربناه حتى تستقيم الأخادع

ورواية (المجامع) هي التي في الديوان وفي كتب اللغة والأدب، وذكر الزمخشري (الجوامع) في البيت، قال في الأساس: (وجمعتهم جامعة أي أمر من الأمور التي يجتمع لها، قال الفرزدق: أولئك آبائي. . .)

وأورد الأستاذ قول الفرزدق:

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا

وروي عن أبي الفرج قصة تخبر بانتحاله البيت، وهو في شعر جميل، والظن أن شيطان الفرزدق الذي أوحى إليه (الفائية) أعطاه إياه. وفي هذه (العبقرية) يقول ابن غالب:

وما حل من جهل حُبا حلمائنا ... ولا قائل بالعرف فينا يعنف

وما قام منا قائم في نديِّنا ... فينطق إلا بالتي هي أعرف

وإني لمن قوم بهم تتقى العدى ... ورأب الثأَى والجانب المتخوف

لنا العزة الغلباء والعدد الذي ... عليه إذا عد الحصى يتخلف ولا عزَّ إلا عزنا قاهر له ... ويسألنا النصف الذليلُ فيُنصف

ومنا الذي لا ينطق الناس عنده ... ولكن هو المستأذن المتَنًصَّف

تراهم قعودا حوله وعيونهم ... مكسرة أبصارها ما تَصرَّف

وبنيان بيت الله نحن ولاته ... وبيت بأعلى إبلياء مشرف

لنا حيث آفاق البرية تلتقي ... عميد الحصى والقسوريّ المخندف

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

وهذا البيت يبدو في أبيات الفرزدق أخاً حتماً لها وهو في أبيات جميل كأنه ابن عم كلالة. وروايته في شعر صاحب بثينة هي:

نسير أمام الناس والناس خلفنا ... فإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

وإنه توارد الخواطر غير المستنكر، وإن كان قول الأخطل (نحن معاشر الشعراء أسرق من الصاغة. . .) لا ينكر

ومما يروى أفكوهة من الأفاكيه، وأضحوكة من الأضاحيك قول أبي هلال العسكري في كتابه (ديوان المعاني) وهو هذا: (وعند الناس قصيدة جميل أحسن وأسلس من قصيدة الفرزدق)

وأنا استعجب من أبي زيد محمد القرشي كيف لم يثبت فائية جميل مكان فائية الفرزدق في أول (الملحمات) في كتابه (جمهرة أشعار العرب)

الحق أن الأدباء قد يلفتون كلامهم وقد يهرئون بل قد يكفرون في الأحايين، وما قول العسكري هذا إلا من الكفر، والمختار من فائية جميل بثينة هو في الجزء الثامن من الأغاني، فليراجعه من شاء من الفضلاء ليرى كيف يجوز الحكم!

إن قصيدة جميل أحسن من قصيدة الفرزدق وأعظم منها وأفخم عند النسناس لا عند الناس. . .

ومن تخليط العسكري ما قاله في (كتاب الصناعتين) وقوله هو: (كان البحتري يفضل الفرزدق على جرير، ويزعم انه يتصرف من المعاني فيما لا يتصرف فيه جرير ويورد منه في شعره في كل قصيدة خلاف ما يورده في الأخرى، وجرير يكرر في هجاء الفرزدق الزبير وجعثن والنوار وانه قين لا يذكر شيئاً غير هذا. وسئل بعضهم عن أبي نواس ومسلم فذكر (أن أبا نواس أشعر لتصرفه في أشياء من وجوه الشعر وكثرة مذاهبه فيه، ومسلم جار على وتيرة واحدة لا يتغير عنها) وأبلغ من هذه المنزلة أن يكون في قوة صائغ الكلام أن يأتي مرة بالجزل، وأخرى بالسهل، فيلين إذا شاء، ويشتد إذا أراد. ومن هذا الوجه فضلوا جريرا على الفرزدق، قال جرير:

طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام

تجري السواك على أغر كأنه ... بَرَد تجدر من متون غمام

فانظر إلى رقة هذا الكلام، وقال أيضاً:

وأبن اللبون إذا ما لُزَّ في قرَن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس

فانظر إلى صلابة هذا الكلام!

وفحوى هذا الكلام أن ليس للتصرف في القول والتفنن فيه والإبداع قدر، وأن الشان كله في أن يلين القائل ويشتد أي أن ينسلخ العبقري من طبيعته التي فطره الله عليها ويتكلف الشدة أو اللين.

وقد روي ابن رشيق في (العمدة) قول البحتري الذي تهاون العسكري بجلالة خطره ثم قال: (فإذا كان هذا فقد حكم له (أي للفرزدق) بالتصرف، وبهذا أقول أنا وإياه اعتقد فيهما (أي في الفرزدق وجرير) وإذا لم يكن شعر الشاعر نمطاً واحداً لم يمله السامع.

وقول أبي هلال في لين القائل واشتداده أو في تليين الكلام وتصليبه ذكرنا بخطب في كتاب لا اسميه الآن كان صائغها يكد روحه وهو يصوغ كداً، ويزفر زفيراً، ويزحر زحير المرأة عند الولادة، ويدور ويجول ويقوم ويقعد. . . لكي تحاكي تلك الخطب المصوغة أقاويل الأولين السابقين فتجوز نسبتها إلى من عزبت إليه، وهيهات هيهات أن تجوز؛ إن تكلفها، إن تعملها، إن تصلبها، إن زخرفتها، إن فقدان الطبيعة فيها - فان كل ذلك ليصيح: قد صاغها صواغ. . .

هجا الفرزدق:

أني كذاك إذا هجوت قبيلة ... جدَّعتهم بعوارم الأمثال

وكنت إذا عاديت قوماً حملتهم ... على الجمر حتى يحسم الداء حاسمه

(والفرزدق في هجائه واسع الفطن فسيح المدى كثير الفنون لا يقف عند حد في مناضلة خصمه، يذكر المخازي ويصرح بالمثالب، ويفحش ويتهكم ويختلق ويذكر العورات، ويخصب خياله فيحكم التشبيه ويجيد الاستعارة ويعرض على الأنظار صوراً شتى تمثل خساسة المهجو في نفسه وأهله وعشيرته من غير أن يزعه دين أو يردعه حياء.

وبراعة الفرزدق في هذا الباب وإحسانه - إن صح أن يسمى إحساناً - ومقدرته مجموعة في النقائض).

وقد اقتضى البحث أن يروي (الكتاب) شيئاً من هجاء الخبيث فأورد طائفة، منها هذه المقطوعة:

ولو تُرمي بلؤم بني كليب ... نجوم الليل ما وضحت لسار

ولو يُرمى بلؤمهم نهار ... لدّنس لؤمهم وضح النهار

وما يغدو عزير بني كليب ... ليطلب حاجة إلا بجارِ

ومن هجائه المشهور قوله في خالد بن عبد الله القسري حين ولي العراق، أورده (الكتاب) في سيرة الشاعر:

ألا قطع الرحمن ظهر مطية ... أتتنا تخطى من دمشق بخالد

وكيف يؤم المسلمين وأمه ... تدين بان الله ليس بواحد

أبلغ أمير المؤمنين رسالة ... فعجلْ هداك الله نزعك خالدا

بني بيعة فيها الصليب لأمه ... وهدَّم من بعض الصلاة المساجدا

قال الكامل: (كانت (أم خالد) نصرانية رومية. ويروي عنه فيما روي من عتوه أنه استعفى عن بيعة بناها لأمه، فقال لملأ من المسلمين: قبح الله دينهم إن كان شراً من دينكم. . .! وكان سبب هدم خالد منار المساجد حتى حطها عن دور الناس أنه بلغة شعر لرجل من الموالي موالي الأنصار، وهو:

ليتني في المؤذنين حياتي ... إنهم يبصرون من في السطوح

فيشيرون أو تشير إليهم ... بالهوى كل ذات دل مليح

وفي رسالة هشام إلى خالد يوبخه: (فيها زوال نعمة عنك وحلول نقمة بك فيما ضيعت وارتكبت بالعراق من استعانتك بالمجوس والنصارى وتوليتهم رقاب المسلمين وجبوة خراجهم وتسلطهم عليهم؛ نزع بك إلى ذلك عرق سوء من التي قامت عنك). ويروى أن خالدا بني البيعة في ظهر قبلة المسجد الجامع بالكوفة، وكان يضرب لها الناقوس إذا أذن المؤذن. . .

(يتبع - الإسكندرية)

  • * *

اورت (اَلخَطَفَى) - في القسم الثاني - مشدد الياء، وهو مثل الجمزي كما ضبط ابن خلكان وكتب اللغة. وهناك (اجتزأ به) وهو: اجتزاء به. و (مجاله في الشعر) وهو ومحله. و (لطبع جريرا شبه) وهو: بطبع جرير و (فان اصبر قول الطهوى) وهو: فان أحبر