مجلة الرسالة/العدد 319/حول الوحدة العربية
→ جناية أحمد أمين على الأدب العربي | مجلة الرسالة - العدد 319 حول الوحدة العربية [[مؤلف:|]] |
كتاب في الدين الإسلامي ← |
بتاريخ: 14 - 08 - 1939 |
بين الحصري بك وطه حسين
للأستاذ عز الدين التنوخي
عدت مساء إلى منزلي فاستقبلتني غادة (الرسالة) بثوبها الأحمر القشيب، وهي أبداً بين المجلات قيد ناظري، ومهوى خاطري. ولا غرو في ذلك، فان الدماشقة خاصة، وأبناء العرب عامة، يفضلونها لروحها العربية، وبما تعمله على (توحيد الثقافة العربية)، على سائر المجلات المصرية. وكلما ازداد الإيمان القومي في العرب، ازداد هذا الحب الطبيعي للرسالة، وازداد معه بمقدار ذلك الهجر والإعراض عن غيرها. واكتفى بالمثال الواقعي التالي دلالة على صحة ذلك! فلقد شاهدت غداة أمس فتى عربياً في الترام يحمل مجلات بينها (الرسالة). فقلت له:
- أية مجلة تحبها مما تحمل؟
- مجلة (الرسالة)!
- ولماذا آثرتها بالمحبة؟
- لان روحها المصرية تمتزج بروحنا العربية، ولأنها. - وهنا أشار إلى الغلاف - تجمع على وحدة الثقافة أبناء البلاد العربية!
وحينما رأيت مساء مجلة (الرسالة)، نظرت إلى فهرسها فوجدت فيه موضوعاً يهمني - وأبناء العرب جميعاً - وهو رد الأستاذ ساطع الحصري على الفصل الجوابي الذي نشره الأستاذ طه حسين في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر).
اجل! كنت انتظر بصبر غير جميل من مثل أبي خلدون أن يعيد الكرة على صاحبه الذي أحاله في نقض انتقاداته على الفصل الجوابي. ذلك بأنا - ولا نكتم الدكتور طه حسين - كنا قد اعتبرنا هذه الإحالة يومئذ ضرباً من الفرار من معركة المناظرة، وقرأت اليوم كتاب الأستاذ أبي خلدون (إلى الدكتور طه)، فلا ادري ماذا عسى أن يراجع به هذا الأديب العربي الكبير ناقده بعد أن استشهد عليه بكلامه، وحصين منطقه؟
نعت الآن الدكتور طه حسين - بالأديب العربي - لا بالمصري، فحسب لان أدبه عربي بمصادره، عربي بلغته وألفاظه، عربي بمباحثه المبتكرة، وأساليبه المستعذبة! عربي على الرغم منه بروحه حينما يرسل نفسه على سجيتها، ويقول ما يقول غير منتصر للفرعونية، وغير مجامل لأنصارها!
أليس طه حسين هو الذي فضل أدبنا العربي القديم على معظم آداب أمم الحضارة القديمة في كتابه (حديث الشعر والنثر)؟ أليس طه حسين من اقدر العاملين على إحياء لغتنا العربية بإحياء آدابها بذلك الأسلوب العربي الرائع ببلاغته على سلاسته وبامتناعه على أطماعه؟ أو ليس هو المنادي بتوحيد الثقافة العربية التي إن ضمنها للأستاذ أبي خلدون، وضمنها لنا أيضاً، ضمنا له كل ما يبقى من ضروب الوحدة؟!
اجمل الدكتور طه حسين أن يكون أديب الأقطار العربية كلها من أن يكون في قطر واحد أديباً! وليته - أصلحه الله - جامل في المكشوف أدباء العرب الذين يتنافسون في اقتناء آثاره، ويتباهون بأنهم من أنصاره. أو ليته - وهو مسلم مصري - خاطب العرب بما خاطبهم به الأستاذ مكرم عبيد - وهو النصراني المصري - وهو لذلك اشد اتصالا منه بالفراعنة ذوي الأوتاد!
وليسمع الدكتور طه حسين ما يقوله الأستاذ مكرم عبيد في عدد الهلال الممتاز (العرب والإسلام):
(سافرت في رحلة صيفية إلى سوريا، وتفضل إخواني السوريون في الشام ولبنان وفلسطين، فشملوني بترحيبهم وتكريمهم، فوقفت يومئذ وتحدثت عن الوحدة العربية وقلت: (المصريون عرب). وأبديت رأيي في هذه النظرية التي يؤيدها التاريخ، فنحن معشر المصريين جئنا من اسيا، ونحن أدنى إلى الرب منذ القدم من حيث اللون واللغة والخصائص السامية والقومية) إلى أن يقول: (نحن عرب! ويجب أن نذكر في هذا العصر دائماً أننا عرب قد وحدت بيننا الآلام والآمال، ووثقت روابطنا الكوارث والأشجان، وصهرتنا المظالم وخطوب الزمان. فأحدثت منا أمما متشابهة متماثلة في كل ناحية من نواحي الحياة).
ثم تكلم عن الوحدة العربية بقوله: (فالوحدة العربية حقيقة قائمة، هي موجودة لكنها في حاجة إلى تنظيم؛ والغرض من التنظيم إيجاد جبهة تناهض الاستعمار، وتحفظ القوميات، وتوفر الرخاء، وتنمي الموارد الاقتصادية، وتشجع الإنتاج المحلي، وتزيد في تبادل المنافع وتنسيق المعاملات. فكما أن أوربا خلقت شيئاً معنوياً ترتبط به وتلتف حوله أغراض سكانها على اختلاف أممهم، فكذلك نحن سيؤول مصيرنا إلى الالتفاف حول مثل أعلى يوفق بيننا فنصير كتلة واحدة وتصير أوطاننا جامعة وطنية واحدة، أو وطناً كبيراً بتفرع منه عدة أوطان - لكل منها شخصية لكنها في خصائصها القومية العامة متحدة متصلة اتصالاً قوياً بالوطن الأكبر).
وفي هذا البحث الممتع للأستاذ مكرم عبيد بشير آنفاً إلى رحلته الصيفية للديار الشامية وأنه كان يتحدث إلى المرحبين به قائلا: (المصريون عرب).
صدق والله، فقد كنت من جملة المرحبين بأخوته العربية في نزل أمية بدمشق، وسمعت هذه الكلمة الطيبة من فيه، لا فض فوه. ولا أزال اذكر ذلك يوم سألته عن تلك النعرة الفرعونية في مصر فقال لي ما معناه: نحن عرب في مصر ولا نمجد الفراعنة إلا لأنهم عرب!
الأستاذ مكرم عبيد فرعوني صميم، ومن نوابغ مصر في ثقافته وأخلاقه ووطنيته، والأستاذ طه حسين المسلم المصري يحكم والناس معه بالظن على فرعونيته، فلن يكون بذلك اصدق تفرعنا من مكرم عبيد، وإذا ما ادعى ذلك كان اشد فرعونية من فرعون نفسه، أو - اشد كما قيل - ملكية من الملك!
والأستاذ طه حسين الذي كان ينكر الوحدة العربية بأنواعها وشرائطها، ويعد من يقول بهذه الوحدة من أصحاب العقل القديم، قد اصبح ولله الحمد أخيراً قديم العقل كالأستاذ مكرم عبيد لقولهما بالوحدة العربية على شكل إمبراطورية جامعة أو اتحاد مشابه للاتحاد الأمريكي أو السويسري!
وأظن أخانا العربي الزيات قديم العقل أيضاً لقوله بالوحدة العربية، فما اجمل ذلك العقل القديم الذي يصل بين الأرحام المتقاطعة والأرواح المتناكرة والقلوب المتنافرة، ولخير لنا ألف مرة أن يجمع شملنا العقل القديم من أن يمزق ويفرق بيننا العقل الحديث.
(دمشق)
عز الدين التنوخي عضو المجمع العلمي العربي