مجلة الرسالة/العدد 315/تلك سبأ!
→ من تاريخنا النسوي | مجلة الرسالة - العدد 315 تلك سبأ! [[مؤلف:|]] |
كتاب الأغاني ← |
بتاريخ: 17 - 07 - 1939 |
للأستاذ محمد عبد الله العمودي
هناك نحو الشرق من صنعاء عاصمة اليمن، على بعد خمسة أيام فوق متون المطايا؛ تمتد منطقة واسعة الأطراف، مترامية الأكناف، عامرة بأسرار تاريخ، وفيرة بخبيئة ماض بعيد، يجد فيها عالم الآثار مادة خصبة ومجالاً واسعاً فسيحاً لاختباراته وأبحاثه
في تلك البقعة الساحرة المسحورة التي فاضت عليها أنفاس الرياح الغرائب فطمرت معالمها، وأخفت ما شخص منها، ونسجت عليها أثواباً رقيقة شفَّافة من الطمي الأملس، تَلبد في ذمة التاريخ وتحت أنقاض العصور خرائب سبأ، مدينة الملكة العظيمة بلقيس عروسة سليمان ابن داود. . .
هذه بقاع منسية في جزء مهم من بلاد العرب، لعبت أدواراً خطيرة في مجال التاريخ القديم؛ تدل الآثار الضئلية التي قذفتها هذه الأراضي الضنينة التي جاءت من قبيل الصدف بأن ما تحويه في أحشائها يفوق الوصف، ويثير التاريخ!
ومعلوماتنا عن هذه البلاد السبئية ضئيلة؛ فبالرغم من كثرة الرواد الذين اجتاحوا هذه البلاد فإن خطراتهم بين خرائبها كانت سريعة خاطفة، فلم يعرف عنها إلا أشياء مقتضبة مشوَّهة لا تقوم على إسناد علمي يركن إليه الباحث، وتطمئن له نفس المنقّب؛ وهذا عائد إلى طبيعة الأرض وجفوة سكانها وقساوتهم ضد الأجنبي. . . وما عرفنا أحداً تغلغل في صميم هذه البقاع سوى ثلاثة من الأوربيين أتاحت لهم الظروف الوصول إلى قلب مدينة سبأ فجمعوا كتابات كثيرة جداً منقوشة على الصخر الأصم!
هؤلاء الأشخاص هم أرنود (1843) وهاليفي (1860) ثم (1888). وبعد هؤلاء الباحثين لم يتقدم أحد من الأوربيين مطلقاً. فبقيت أرض سبأ إلى هذه الساعة محتفظة بأسرارها الرهيبة الهائلة. . .
هناك في الناحية الغربية من مدينة بلقيس؛ بنى السبئيون في أحد الأودية العظيمة سداً عظيماً، متين البنيان، وطيد الأركان، مشمخر الأنف، تتجمع فيه أمواه السيول المنحدرة من أعالي الجبال فتسقي الأرض، وتحيي الضرْع؛ حتى غدت هذه البلاد مثلاً سائراً في خصوبة الأرض؛ وكرم التربة أما أبرز المظاهر الاقتصادية التي كان يتداولها سكان هذه البلاد مع الأمم التي تناوحهم فهي تلك الأعواد العطرية الفواحة، والنباتات الكريمة التي تتفوغ بها أوديتها العميقة وشعابها المشجرة المعطرة
وبناؤهم في غاية الفخامة والجلال؛ قصور شاهقة، وبناء محكم، وحيطان وسقف مموَّهة بالأحجار الكريمة، مرصعة بالعاج؛ وآنيتهم من الذهب والفضة الخالصين!. . .
ولكن السبئيين كانوا يعبدون الشمس والقمر والوعل والعجل؛ ولهم معابد فخمة واسعة منتشرة في كل الأنحاء؛ ثم لما بطروا بأنعم الله عاقبهم الله بانهيار السد، فغشى المدينة من الماء الجارف ما غشيها فجعل عاليها سافلها، وأهلك سكانها وأباد ضرعها وزرعها فكانت مثلاً
ويعدُّ انهيار السد حديثاً عظيماً في تاريخ الشعب العربي؛ ذكره (القرآن الكريم) في جملة ما ذكر من القصص؛ ومع كل هذه الحقائق التاريخية الثابتة أصلاً فإنها لم تؤثر في تفكير اليمنيين وتغير مجرى اعتقادهم في أن يعيدوا إلى الوجود وإلى ضوء الشمس آثار ذلك الماضي اللمّاع المجّسم في خرائب هذه المدينة ذات الجلال والإبداع، ولم يفكروا مطلقاً في استنطاق هذه الألواح الصخرية المنقوش عليها حرف (المسند) ليعرفوا حقيقة الماضي البعيد
أما علماء الآثار الذين مكنتهم الظروف فاخترقوا هذه الآفاق واستهدفوا لضروب من المتاعب والأخطار، فما استطاعوا أن يقدموا لنا عن هذه البلاد إلا معلومات ضئيلة لا تشفي غلة الباحث الصادي
نعم، إن إدوار غلازر نجح في مهمته، وتنكر في شخصية مسلم واستطاع إبان وجوده بصنعاء أن يتفق مع أحد أشراف مأرب ليكون له قائداً ودليلاً إلى حيث السد
فمن صنعاء أخذ الاثنان طريقهما في واد عميق يقع بين ذُرى بلاد نِهْم وخولان؛ ثم انحدرا إلى وادي شبوان فأخذا طريقهما إلى خرائب السد ومن هنا تابعا سيرهما في ثلاث ساعات إلى مركز الحضارة السبئية: مدينة بلقيس!
وترامت أخبارهما بين القبائل المتعصبة المتحمّسة فعقدوا العزم على ذبحه وذبح دليله. ولكن غلازر درى بحقيقة الأمر فاحتاط لنفسه كثيراً فكان يقوم ليلاً ويختفي نهاراً. . . ولما انتهى من أبحاثه وهم بالرجوع هاجمته جماعة من البدو المسلحين ولكنه نجا بأعجوبة!
وبالرغم من هذه المتاعب الكثيرة التي صادفت هذا المغامر، وبالرغم من افتقاره للآلات العلمية المتممة لأبحاثه فقد نجح هذا العالم الأستَرْيِى في طرق اختباراته فجمع ما يناهز 850 نقشاً حِمْيرياً وبان لعلماء الآثار أن هذه المنطقة، من أرض سبأ، غنية بآثارها عميقة في أسرارها!
أما الإمام يحيى فقد توعد بالعقاب الصارم كل من تحدثه نفسه ببيع هذه الحفريات للأجانب؛ كما أنه أقفل أبواب سبأ في وجوههم ولكن أحد هؤلاء المجازفين حاول الوصول إلى مأرب من حضرموت فاكتشف أمره وقبض عليه، ودفع إلى ما وراء الحدود!
ودفعت المغامرة غيره في وقت قريب، فوصل هذه الأرجاء فعثر على شظايا أثرية، وتماثيل عجيبة لدى جماعات من البدو فابتاعها منهم وشحن منها صناديق. . .
وكل من لاقيته في هذه البلاد وسألته عن أسباب هذه المتاعب الجسيمة التي يلاقيها الرحالة في أرض سبأ راح يشرح لي أسباباً كثيرة، وأموراً غريبة!
أخبرني أحد العلماء قال: (هناك في أرض سبأ تعيش قبائل مخيفة من البدو لا يعلمون عن العالم شيئاً، بل يجهلون كل الجهل من حولهم؛ يعبدون الله ولكن على صورة تخالف ما عندنا، ويأكلون اللحم النيئ؛ وفي قبائلهم تعيش جماعات من النبلاء والأشراف يستبدُّون بالضعيف، ويسخرونه في حرث الأرض، والدفاع عن الحوزة؛ لهذا ترى من الحكمة، وسداد الرأي، أن الإمام مصيب في منعه الأجانب من دخول هذه الأقاليم الرهيبة التي لا تعرف من سلطة الإمام إلا القليل. . .)
وتشرفت بالمثول بين يدي الإمام، وبما أنه معروف عن جلالته الطبع السمح. والخلق اللين؛ فقد بادهته بهذا السؤال:
- هل يأذن لي صاحب الجلالة في زيارة بلاد سبأ؟
ولشد ما كانت دهشتي عظيمة عندما رأيت ابن حميد الدين يستوي في جلسته ثم يصيح بي قائلاً:
- سبأ؟ أرى أن مشاهدتك واستكشافك هنا خير وأولى! أمكث في صنعاء إلى ما تشاء! وإذا لم يعجبك هذا فدونك ما حوالينا من القرى الجميلة، والأودية النضرة، فانهب من الجمال ما شئت واملأ ناظريك من محاسن الطبيعة اليمنية!
- ولكن يا مولاي، أريد سبأ، فهل تتركني أذهب إليها؟
- لا! إن سبأ بعيدة المنال، صعبة الوصول، فأنا لم أرها منذ سنين، وزيادة على ذلك فما هناك طريق واضح؛ فهل من المعقول أن أتركك تذهب حيث لا طريق معبد؟ أنا أريد أن أراها ولكن لا سبيل إلى الوصول إليها. . . هناك حتى يومنا هذا لا يزال جزء عظيم من بقايا السد قائماً في شكل يثير الإعجاب! تصور جيداً أنه شيد كله من الصخر الأصم؛ وهذه الصخور تتألف من ثلاثة ألوان: خضراء وحمراء وشهلاء. . . وعلى مقربة من السد تقوم نقرة عظيمة حفرت جداول توزع منها المياه إلى الحقول والبساتين التي جمع منها السبئيون كل غناهم وجاههم!
- والمدينة يا مولاي؟
- حطمها السدّ وغزتها المياه من كل جانب فغمرتها رواسب كثيرة شفافة، وما زالت أطرافها شاخصة في عظمة واستكبار. . . فهناك على مساحة عظيمة تطفو على وجه الأرض أعمدة وأحجار؛ وأجل هذه الآثار شخوصاً (عرش بلقيس) ذلك المعبد العظيم الذي شيده سليمان لملكة سبأ. . . واليوم عزمت على تعبيد الطريق من صنعاء إلى مأرب فتخترقها السيارات بسهولة!
إن الآثار المدهشة التي تكشفت عنها بلاد العرب الجنوبية تراها اليوم موزعة بين متاحف أوربا؛ وليس لها أثر كبير في بلاد اليمن اللهم إلا أشياء ضئيلة في متحف صنعاء مجموعة في نظام يستدر الشفقة، ويبعث الحسرة!
ففي متحف تِرْمى بروما يمكنك أن تتمتع بمشاهدة آثار سبأ وحْمير وسائر ممالك اليمن القديمة. . .
فهناك نقوش كثيرة وقطع من الفن الهندسي الرائع، وتماثيل ضخمة منحوتة من الصخر جمعها الدكتور أنسالدي أثناء رحلته إلى بلاد اليمن أخيراً واستطاع أن يأخذها إلى إيطاليا بموافقة الإمام!
أما المتحف الذي أنشأه الإمام يحيى في العاصمة اليمنية فهو عبارة عن (غرفة!) من قصر خصِّص لنزول البعثات الأجنبية تتكدس في هذه الغرفة آثار اليمن القديمة! ولما كانت هذه الغرفة محروسة من المساند والمناضد فقد طرحت أرضاً هذه النقوش والقطع الأثرية؛ وبعضها مرصوص على جوانب الجدران؛ والجزء الأعظم من الآثار الصغيرة محشوٌ في أجواف صناديق النَّفْط. . .
والزائر الذي يأتي لمشاهدة هذه الآثار لا يسمح له بدخول هذه الغرفة بل يقوم الحارس بعرض بضاعته من الداخل فيطرحها على أرض الشباك بحيث يتمكن الزائر من المشاهدة والملاحظة وهو في الخارج؛ وفي أغلب الأحيان تَمْلُص من يدي الحارس بعض التماثيل فتهوي إلى الأرض محطّمة؛ وفي جلافة وعدم مبالاة، يركلها برجليه إلى إحدى الزوايا!
إن الله وحده الذي يعرف كم تحوي هذه البقاع اليمنية من الآثار والتماثيل ذات الجلال والسموّ. وما ذلك الفن السامي الذي ازدهر في هذه الربوع المتمثل في هذه الخرائب الأبدية وفي هذه التماثيل العديدة للنساء والرجال المفرغة في المرمر الحرّ والرخام المجزع، إلا صورة حية ناطقة لذلك الفن الرفيع العريق في هذه البلاد منذ أقدم العصور! يدلنا على هذا كله وجود تمثالين في متحف صنعاء بلغا حد الإتقان والإبداع.
أولهما (ش1) يمثل رأساً من البرنز لشاب أو شابة من أبناء تلك البلاد على وضع فني جميل يشبه إلى حد ما أحسن التماثيل الإغريقية القديمة، وقد وجد في غيمان
والثاني (ش2) تمثال عظيم مصوغ من البرنز وجد في خرائب النخلة الحمراء يمثل بطلاً عارياً منسجم الأعضاء جليل الصورة. ومما يدعو للأسف أن العمال الأغرار أثناء الحفر تناولوه بالتهشيم فذهب شئ كثير من روعته، ولكن الآن لحسن الحظ أعيدت صورته الأولى، وأجبرت كِسْراته وصقلت حواشيه، واستقام على قدميه بقوة أسلاك معدنية
والحق أن مثل هذه الآثار كثيرة الوجود تحت الأنقاض وفي بطن الأرض ولكنها تتطلب مجهوداً عظيماً يكلف كثيراً في بلد يقوم على هذا الوضع من الحياة والعزلة
(القاهرة)
محمد عبد الله العمودي