مجلة الرسالة/العدد 315/من تاريخنا النسوي
→ ضرب من الفروسية في اليابان | مجلة الرسالة - العدد 315 من تاريخنا النسوي [[مؤلف:|]] |
تلك سبأ! ← |
بتاريخ: 17 - 07 - 1939 |
عائشة والسياسة
للأستاذ سعيد الأفغاني
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ولا يقعنّ في وهم أحد أن السيدة عائشة كانت تود أن يقتل عثمان، فالصحيح أنها لم تكن تتوقع كل هذا. ولعلها كانت تقنع باعتزاله، على رغم تصريح الكثيرين بأنها سعت في قتله. ومن هؤلاء المغيرة بن شعبة، فإنه دخل على عائشة بعد حادثة الجمل فقالت له: (يا أبا عبد الله، لو رأيتني يوم الجمل قد أنفث النصل هودجي حتى وصل بعضها إلى جلدي.) قال لها المغيرة: (وددت والله أن بعضها كان قتلك.) قالت: (يرحمك الله، ولم تقول هذا؟) قال: (لعلها تكون كفارة لك في سعيك على عثمان.) قالت: (أما والله لئن قلت ذلك لما علم الله أني أريد قتله. ولكن علم الله أني أردت أن يقاتل فقوتلت (تعرض بما وقع لها يوم الجمل) وأردت أن يرمى فرميت، وأردت أن يعصى فعصيت؛ ولو علم مني أني أردت قتله لقتلت.)
وهي الصادقة فيما قالت، ولعل الله أن يرضى عنها ويرضى خصومها بما ندمت وكفّرت. ولئن قال سعد بن أبي وقاص وقد سأل من قتل عثمان؟ -: قتله سيف سلته عائشة وشحذه طلحة وسمه عليّ -، فما كان يريد سعد بقولته هذه إلا بيان الأثر غير المباشر لكل منهم؛ فإن من تتبع مجرى الحوادث بإمعان علم بعد الجميع عن هذه الظنة
وليس أدلّ على ترفع السيدة عن مثل هذه الخواطر من دعوتها على قتلة عثمان، الدعوات البليغة الصادرة عن نفسٍ متأثرة ملتاعة (واعلم أن في القتلة أخاها محمداً) قالت: (قتل الله مذمّماً (تعني أخاها) بسعيه على عثمان، وأهرق دم ابن بديل على ضلالته، وساق إلى أعين بن تميم هواناً في بيته، ورمى الأشتر بسهم من سهامه) فما منهم من أحد إلا أدركته - على رواية الطبري وابن عبد ربه - دعوة عائشة
وذكر صاحب العقد أنها لما قالت بعد مقتل عثمان: (مصصتموه موحى الإناء (الموحى: الغسل اللين) حتى إذا تركتموه كالثوب الرحيض (الغسيل) نقياً من الدنس، عدوتم عليه فقتلتموه). قال لها مروان: (هذا عملك؛ كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه). فقالت: (والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت إليهم بسواد على بياض حتى جلست في مجلسي هذا) فكانوا يرون أنه كتب على لسان عليّ وعلى لسانها كما كتب على لسان عثمان مع الأسود إلى عامل مصر. فكان اختلاق هذه الكتب كلها سبباً كبيراً من أسباب الفتنة
وغاية ما يؤخذ عليها عدا أقوالها السابقة الشديدة في عثمان أنها تركته (حين بلغ الحزام الطُبْيَيْن، وحين طمع فيه من لا يدفع عن نفسه) - كما وصف هو نفسه - في أشد الحصار وأحر الظمأ وخلصت إلى مكة. وقد كان راسلها عثمان في أمرها وطلب نجدتها وجاءها مروان بن الحكم فقال: (يا أم المؤمنين لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل). فقالت: (أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة ثم لا أجد من يمنعني؛ لا والله ولا أُعيَّر، ولا أدري: إلام يسلم أمر هؤلاء؟)
كان طلب مروان في محله، وكان مقامها - لو هي أقامت - ربما نفع وردّ عن عثمان، ولكنها استسلمت رحمها الله لموجدتها، واكتفت أن استتبعت أخاها محمداً أكبر المحرضين على عثمان فأبى
لقد وضح من كل ما تقدم أن أثرها لم يكن ضئيلاً في الحوادث التي انتهت بشهادة عثمان: هذه الفاجعة المشؤومة، بل كان بعيداً بليغاً. وليتها وقفت عند هذا الحد فلم تؤلب الناس على علي وتنغص عليه ولايته. فإن طلحة والزبير لما آلت الخلافة إلى عليّ - وكانا يرجوانها كل لنفسه - وعقدا النية على المطالبة بدم عثمان وتسليم قتلته الذين انضموا إلى جند علي، وهماّ بما هماّ به؛ رأيا أن أمرهما لا يتم إلا بالسيدة عائشة فكانت فتنة ثانية أشأم على المسلمين من سابقتها
طالبت عائشة بدم عثمان واندفعت في هذه السبيل - على رغم تحذير المحذرين، ونصح أمهات المؤمنين - اندفاع الأتيّ الجارف، حتى جمعت الجموع وأحاط بها كل طامع وكل ذي ثأر من أصحاب علي وكل كاره لعلي وخلافته، مع آخرين خرجوا معها عن عقيدة بريئة مغيرين منكراً أو مطالبين بإقامة الحدود. ثم خرجت بهذه الجماهير من الحجاز حتى وافت بها العراق. فلم يكن من محيص دون القتال، ومؤرثوا الشر منتشرون في جماعتها وجماعة علي، فكان ما كان مما لا نتعرض له في هذه الكلمة لأن أمره مشهور معروف. وسميت هذه الحرب الجمل لأن عائشة كانت فيها في هودج على جمل؛ وانقشعت هذه النكبة المؤلمة عن عشرة آلاف قتلوا على أقل تقدير.
رحم الله عائشة، لقد كانت المرأة الوحيدة في التاريخ التي قوضت مركز خليفة وحاولت نصب خليفة، وأعلنت حرباً وقادت جموعاً ثم أرادت تحاشي القتال؛ فخرج الأمر من يدها إلى يد غوغائها شأنها في ذلك شأن علي رضي الله عنه، فكان ما ترتعد له فرائص كل مسلم، كلما ذكر فتنة الجمل وما استتبعت من ويلات.
فلنطو أمر هذه الحرب، ولنذكر أن عائشة نفسها صارت كلما ذكرتها بكت حتى تبل ثيابها ندماً وتوبة. ولننظر كيف كان معاوية الداهية الحليم يداريها ويخشى بأسها
بقى الناس ينظرون إلى السيدة عائشة وسائر أمهات المؤمنين نظرهم إلى الموئل الذي يسعهم كلما نزلت بهم نازلة. هذا إلى نظرة التقديس والإجلال التي كانت تزداد كلما امتد الزمن وبعد عهد الناس بزمن الرسول. فكانوا - زيادة على قصدهن للتعليم والاستفادة - يشكون إليهن ما يلقون من عنت الأمراء وحيف الحكام، وكن يتوسطن لهم بما لهن من النفوذ والطاعة على جميع المسلمين: الخلفاء فمن دونهم. سألها رجل كتاباً توصى به زياداً في العراق، فلما قرأه زياد قضى حاجة الرجل وأكرمه، وكان أهم ما دفعه إلى التلبية أنها نسبته فيه إلى أبي سفيان، فجعل زياد يعرض الكتاب على كل زائر مزهوّاً به فرحاً. وقد حسب لها معاوية أكبر الحساب فجعل يداريها ويلاطفها ويكتب إليها يسألها مرة عن حديث، ومرة طالباً موعظة وما به من حاجة إلى سؤال ولا طلب، وكان جانبها أعظم ما يخشاه. أحرق قائده معاوية بن خديج جثة أخيها محمد في مصر؛ فبلغها فجزعت أشد الجزع، وصارت تقنت على معاوية وعمرو بن العاص دبر كل صلاة ولما أراد معاوية البيعة ليزيد كان صوت أخيها عبد الرحمن أقوى صوت ارتفع بالمعارضة فجبه والي معاوية على المدينة مروان بن الحكم بقوله الصادع: (جئتم بها هرقلية كسروية كلما مات كسرى قام كسرى) ولما نال مروان من أخيها بالكلام لقي من السيدة ما لم يكن في حسبانه حتى تذلل لها وخاف بأسها ثم تكفل دهاء معاوية بالباقي حتى غاب صوت الحق في إنكار هذه البدعة التي ابتدعها معاوية في أصول الحكم. ولم تتنح السيدة عن معالجة الشؤون العامة، ولولا أن يوم الجمل هد منها ومن قوة نفسها لرأينا لها في عهد معاوية صولات وجولات ومع هذا فإليك مثلاً حادثة حجر بن عدي:
كان حجر من سادات أهل العراق ذوي السطوة والمكانة، ممن كانوا مع علي وبقوا على عهده بعد مماته، وقد تحدى سلطة الخلافة مراراً عديدة، وعبث بالأمراء الذين يرسلهم معاوية حتى ضاق به وبرهطه ذرعاً، فأمر بحمل حجر وأصحابه، ثم أشهد عليهم وقتلهم، بعد أن كثر الوسطاء في أمره نظراً لمكانته، ولكن ذلك لم يشف ما في نفس معاوية من الغيظ، وكانت عائشة أرسلت رسولاً إلى معاوية في ذلك، ولما وصل الرسول كان حجر قد قتل، فقال الرسول - وهو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - لمعاوية: (أين غاب عنك حلم أبي سفيان؟) قال معاوية: (حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سُمية (يعني زياداً عامله) فاحتملت) وبلغ عائشة الخبر فحزنت أشد الحزن، وليس مثلها من يسكت لمعاوية، ولكن نكبة الجمل زعزعت عزائمها فصارت تخاف أن يجر الأمر إلى فتنة تراق فيها الدماء وهو ما لا تستطيع أن تتصوره، وقد أشارت إلى ذلك حين قالت: (لولا أنا لم نغير شيئاً إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر. أما والله إن كان - ما علمت - لمسلماً حجاجاً معتمراً)
ولما حج معاوية أستأذن على عائشة فأذنت له، فلما قعد قالت: (يا معاوية، كيف أمنت أن أخبأ لك من يقتلك؟) قال: داهية الأمويين (بيت الأمن دخلت!) قالت: (يا معاوية، أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه!) قال: (لست أنا قتلتهم، إنما قتلهم من شهد عليهم.)
وهكذا نال الخليفة العظيم ما يستحق من التأنيب في حجرة الرسول على لسان زوجته أم المؤمنين
هذه هي المرأة في صدر تاريخنا المجيد ولكم هو مقامها، فلننتفع بسيرتها ولنأخذ لزماننا من كل شئ أحسنه. أما عبرة هذه الحوادث: فهي أن المرأة لم تخلق قط لتدس أنفها في الخلافات السياسية. وكأن الله الذي جعل النساء لتربية الرجال وتدبير البيوت أراد أن يعظ المسلمين عظة عملية كلفتهم كل تلك الدماء المهراقة؛ ليعلموا: أن لو كان أمر من أمور الرجال يقوم بامرأة لقام بهذه السيدة الحصيفة التي أوتيت من المواهب الذكاء والعلم والصلاح ما لم يؤته رجال كثيرون. وبقية حرب الجمل مناراً في تاريخ المسلمين كلما نزغ بهم من الشيطان نزغ فهموا أن يخرجوا بالمرأة عما خلق لها وخلقت له، قالوا لأنفسهم: أخفقت هذه التجربة في أول تاريخنا فما بنا من حاجة إلى أن نهرق في سبيلها دماء جديدة؛ ومن لنا مع هذا بمثل السيدة عائشة
(دمشق)
سعيد الأفغاني