مجلة الرسالة/العدد 315/كتاب الأغاني
→ تلك سبأ! | مجلة الرسالة - العدد 315 كتاب الأغاني [[مؤلف:|]] |
التاريخ في سبر أبطاله ← |
بتاريخ: 17 - 07 - 1939 |
بقلم أبي الفرج الإسكندراني
رواية الأستاذ عبد اللطيف النشار
صوت
وأطلس عسال وما كان صاحباً ... رأى ضوء ناري موهناً فأتاني
فقلت ادن دوني أيها الذئب إنني ... وإياك في زادي لمشتركان
البيتان من قصيدة للفرزدق، والفرزدق ليس من الشعراء المعاصرين بالطبع؛ ولكن اللحنين اللذين صنعا فيهما عصريان. أما أحدهما فللأستاذ أحمد أمين على نغمة مصرية هادئة، وأما الآخر فللدكتور زكي مبارك على نغمة باريسية ثائرة
حدثنا الأستاذ أحمد الشايب قال: أو لم أقل لكم إن أفضل تقسيم للأدب أن يكون على أساس من اختلاف الثقافات؟ فالأستاذ أحمد أمين مثال للثقافة المصرية المشبعة بالروح الإنكليزية. والدكتور زكي مبارك مثال لثقافة المصرية المشبعة بالروح الفرنسية؛ ومن ثم كان الفارق بينهما؛ فهذا هادئ رصين والآخر ثائر صاخب
قال الأستاذ الشايب: وسأحدثكم عن مثل يبين اختلاف الثقافتين: قيل إنه قد طلب إلى ثلاثة من الأدباء أحدهم إنكليزي والثاني فرنسي والثالث ألماني أن يكتبوا شيئاً عن الجمل، أما الفرنسي فذهب إلى حديقة الحيوانات وكتب في وريقة ما معناه:
(يا لله! ما أعجب وما أغرب! خف لين، وصبر بين، ووسادة تحت الصدر، وسنام فوق الظهر! يا لله!)
وعدداً آخر من النثر المشعور أو الشعر المنثور، ثم عاد أدراجه ودفع بما كتبه ارتجالاً إلى من ألقى عليه السؤال.
وأما الإنكليزي فارتحل إلى بلاد العرب، وأقام فيها سنين اشترى في خلالها جمالاً ونوقاً وراقبها من يوم مولدها إلى يوم موتها وأحصى مقدار ما تأكل كل يوم، ومقدار ما يؤخذ من لبنها، ومن وبرها، وعدد ما تنتج. فلما انقضت الأعوام عاد فوضع كتاباً عن تاريخ الجمل.
قال الأستاذ الشايب: ولا علينا الآن أن نقول شيئاً عما فعل الألماني، ولكنني أكتفي بهذ القدر من المثل لأن الأستاذ أحمد أمين مثقف ثقافة إنكليزية فهو يؤرخ الأدب العربي على طريقة تربية الجمال وملاحظتها وتدوين الملاحظات. والدكتور زكي مبارك يتناول الأدب العربي على طريقة (يا لله ما أعجب وما أغرب!)
قال أبو الفرج الإسكندراني هذا ما يقوله الأستاذ الشايب ولولا أن الشايب مثقف بالثقافة الإنكليزية دون الفرنسية، لولا ذلك لعددناه شاهد عدل في خصومة بين هذين الأديبين الكبيرين. ولكن لا شهادة لمن له ضلع مع أحد الخصمين
حدثنا الأستاذ أحمد أمين قال: لقد صنعت لحناً لهذه الأبيات الرائعة من شعر الفرزدق وإن كنت أعلم موضع الضعف فيها فهي بعض الشعر الإسلامي الذي جنى عليه أدب الجاهلية
قال امرؤ القيس الجاهلي:
وواد كجوف العير قفر قطعته ... به الذئب يعوي كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى إن شأننا ... قليل الغنى إن كنت لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئاً أفاته ... ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
فكان في وصفه هذا اللقاء للذئب معرباً عن إحساس صادق وماذا قال امرؤ القيس؟
لقد وازن بين شروده في القفار وبؤسه وهو مطرود حائر محروم، وبين الذئب في مثل هذه الحالات فعوى عواءه
وكثر الدخيل على اللغة بإسلام من أسلم من أهل اللغات الأخرى فكان للشعر الجاهلي أثر غير أثره الطبيعي: ذلك أنه عماد هذه اللغة التي أصبحت عماداً للدين الجديد. فوقف شعراء الإسلام أمام أسلافهم من شعراء الجاهليين موقف العابد من المعبود لاقتران حاجتهم إليه بحاجتهم إلى المحافظة على اللغة واقتران محافظتهم على اللغة بحاجتهم إلى المحافظة على الدين، فمن أجل ذلك وضع الفرزدق قصيدة يصف فيها لقاء الذيب ووضع الشريف الرضي والبحتري قصيدتين في نفس الغرض ولكن وصف الثلاثة الإسلاميين للقاء الذيب كان وصفاً غير طبيعي لأن همهم الأول كان أن يفعلوا كما فعل شاعر جاهلي يقدسونه
قال الفرزدق إنه قابل الذئب ولكن بماذا أحس؟ بماذا شعر؟
يقول إنه أحس بأنه يريد أن يعطيه زاده فهل كذلك يشعر الناس عند لقاء الذئاب
فلما دنا قلت ادن دونك إنني ... وإياك في زادي لمشتركان فبت أقد الزاد بيني وبينه ... على ضوء نار مرة ودخان
تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
على أن مجال التفكير كان حول الطعام، كان في شأن العشاء والشاعر لم يتجه هذه الوجهة إلا لأنه مداح أكثر شعره في مدح الملوك لنيل الجوائز، أفلا يحق لي أن أصف هذا الأدب بأنه أدب معدة وبأن الشعر الجاهلي قد جنى عليه؟
قال الأستاذ أحمد أمين بك: والبحتري مادح آخر يتناول الهبات مكافأة على المديح وقد وصف الذئب وإن لم يلقه متأثراً بامرئ القيس فماذا قال وإلى أية ناحية كان اتجاهه؟ إنه اتجه أيضاً وجهة غير طبيعية في الإعراب عن إحساس من يقابل الذئب فقد قال:
عوى ثم أقعى فارتجزت فنهجته ... فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
إلى أن قال:
وقمت فجمعت الحصى فاشتويته
فهل عرفت الآن ماذا فعل بالذئب لقد أكله الشاعر البحتري بعد أن شواه على الحصى!
أو ليس هذا أدب معدة؟ أو ليس هذا مما جنى عليه الشعر الجاهلي؟ على أنني أترك التحدث عن وصف الشريف الرضي للقاء الذئب إجلالاً للشريف
لكن في بيتي الفرزدق مع ذلك روعة وجلالاً وقد صنعت فيهما لحناً هادئاً يضرب بالشوكة والسكين الفضيتين على طبق من أطباق الذهب قبيل الطعام
حدثنا الأستاذ عبد العزيز البشري قال وقد سمع هذا الحديث: أما إنه للحن عذب يفتح الشهية لكن على ألاّ يكون الطعام من لحم الذئب الذي شواه البحتري
وحدثنا الدكتور زكي مبارك قال في صخب وضجة: لقد والله ظلموا البحتري وظلموا شعراء الإسلام. أو لم يقرءوا بقية القصيدة؟
قال البحتري:
وقمت فجمعت الحصى فاشتويته ... فلم يبق إلا اللحم والعظم والجلد
فماذا أكل البحتري وقد استبقى اللحم والعظم والجلد؟ إنه لم يأكل إلا الرأس والأكارع، وهل في أكل الرأس والأكارع ما يستحق اتهام البحتري بأنه من أدباء المعدة؟ هذا والله هو الإجحاف والجحود لمآثر الأسلاف! ولماذا يكون الفرزدق محاكياً لامرئ القيس في وصف الذئب؟
إنه إنما قال ما قال في وصف ذلك اللقاء معرباً عن شعور أصيل في نفسه هو شعور الكرم والنخوة فهو يطعم حتى الذئاب. وهو يعني ذئاب الإنسانية؛ فالأمر لا يعدو المجاز
حدثنا الدكتور بشر فارس قال: هذه الأبيات من الشعر الرمزي ولا شأن للذئب فيها سوى أحرف اسمه
وحدثنا الأستاذ عبد العزيز البشري قال: وأي كرم ونخوة في إطعام ذئب سواء أكان ذئباً حقاً أم كان مكنياً به عن الإنسان؟ إنه ليس في مصر كلها رجل واحد لا يطعم الذئاب دون أن يجد في ذلك مجالاً للفخر، ففي كل مكان فيه ذئب يخرج مصري معمم أو مطربش فيقول:
. . . أيها الذئب إنني ... وإياك في زادي لمشتركان
تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... . . . . . . . . . . . . . .
ألا إنه لا كرم ولا نخوة في أمر شائع بين الجميع، وإنما الكرم والنخوة أن تفعل ما لا يفعله خاصة الخاصة من الناس
أخبار الفرزدق وشعره
حدثنا الأستاذ على الجارم بك قال: كان الفرزدق مفتشاً أول للغة العربية في حكومة بني مروان وكان من أصحاب العزة الجاهلية ففيه عجرفة يغتفرها له ما أفادته اللغة العربية من ثروة في شعره. وليس وصفه للذئب محاكاة لأبيات امرئ القيس ولا الذئب الذي وصفه من ذئاب الصحراء وأنشد:
صوت
وأنا الفرزدق غير أني ... لا أسف إلى الهجاء
يا جارة الوادي ... عففت فصنت أعراض النساء
لا كالفرزدق إنه ... قد كان مفقود الحياء
الشعر للأستاذ على بك الجارم وقد اشترك في تلحينه كل مدرسي اللغة العربية بوزارة المعارف (يتبع)
عبد اللطيف النشار