الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 306/تأملات وتفكرات

مجلة الرسالة/العدد 306/تأملات وتفكرات

بتاريخ: 15 - 05 - 1939


شارلي شابلن العبقري

في الخمسين من عمره!

(مهدأة إلى السيدة أ. ش)

للأستاذ زكي طليمات

سرعان ما تجري الأيام وتمر السنون!

يرتقي شارلي شابلن علم الأعلام في دنيا السينما أول درجات العقد السادس بعد أن سلخ من عمره خمسين عاماً.

بلغ شارلي شابلن هذه السن ونال كل ما تتوق إليه النفس من الجاه ونباهة الذكر وقلائد الذهب وأكاليل الغار، إلا انه بقي محروماً من دفء الحنان وراحة العيش في ظل امرأة صالحة، لأن الحظ السعيد الذي وأتاه في كل شيء أبى أن يواتيه في النساء.

والنساء في حياة الفنان المرهف الحس القوي الطبع. عنصر لا غنى عنه في استكمال السعادة المنشودة.

ومع هذا فإن شارلي شابلن قد تزوج ثلاث مرات إلا أن كل زواج منها كان ينتهي دائما بالخيبة!

تدخل المرأة في حياة شارلي شابلن فينطوي عليها وتغدو نصفه الثاني ويتفانى فيه كما تتفانى فيه وقتاً من الزمن، وينفخ العبقري الفنان في النصف الجديد أنفاساً من روحه الخلاق فتغدو شيئاً وينبه لها ذكر، ويعلو لها شأن، وتسود الألفة بينهما بما يستجلب عليها حسد الحاسدين ثم. . .

ثم يأخذ النفور بعد ذلك يدب بينهما فتخمد الجذوة المتقدة في قلب الزوجة المعجبة بزوجها، وتنتهب الزوجة آلام الخيبة والجحود، وينتهي الأمر بينهما بالطلاق!

عجيب هذا الأمر، وأعجب منه وقوعه مع رجل دمث موفور الحظ من اللباقة والظرف، عرك الحياة، وعرف طباع الناس!

اختلفت الآراء في تفسير هذه الظاهرة، وانبرى الكتاب يفسرونها حسب أهوائهم، يتورع بعضهم عن اتهام العبقري الممثل بشذوذ في الطبع وبخرق في الرأي وإن لم ينكروا عليه لطف المعاشرة ولين الجانب وبسط اليد.

ألا إن المتأمل في حياة شارلي شابلن، الفاحص عن أمر طبعه ومنزعه بما يطالعه له من آثار وحيه عن الشاشة البيضاء، يرى غير ذلك إذا توخى الإنصاف والدقة، وتعمق في استكناه في ما وراء وعي هذا العبقري الممثل.

إن شارلي شابلن عبقري فنان. والفنان الحق خّلاق، والخلاق من طبعه البذل والتضحية والإسراف في الجهاد.

تعود شارلي أن يصدر عن كل هذا في عمله، ومؤلفاً كان أو ممثلاً أو زوجاً.

وما كان هذا شأنه فإنه يتطلب الكثير من الناس، ولا يقنع بالغذاء العادي الذي تقدمه المرأة من عطفها وحنانها. هذا والفنان الصادق أثر يحب نفسه وهو لا يشعر، فهو يميل إلى الاستئثار بكل ما يعمر قلب المرأة التي يهبها قلبه، وينزع إلى سوء الظن بما يلقاه من تقصير أو فتور غير معتمد، ويعده جحوداً ونكران جميل. . .

وهكذا كان شارلي شابلن يتطلب من زوجاته أن يعطينه مثل يعطيهن.

هذه هي العلة، وهذه هي غلطة شارلي شابلن مع النساء أو بالأحرى هي غلطة كل فنان خلاق كبير القلب دافق الروح، شاعراً كان أو ممثلاً، أو مصوراً، بل لعلها هي غلطة كل كريم نفس يشرف هذه بذل حبه وكريم عواطفه لإحدى بنات حواء.

ونخرج من هذه المأساة العاطفية بشيء واحد، وهو أنه وهو واجب على الرجل ألا يأمل كثيراً ما عسى أن تمنحه المرأة إياه وأن تقنع منه بظرف المعاملة، بينما ببسماتها الوردية، وبلمسات شعرها العطر، وبومضات جسدها الشاب المضيء. إن لم يفعل ذلك - وواجب عيه أن يفعل - فإنه لا يجني من حياته العاطفية سوى أشواك الجحود والخيبة.

أما ذوي القلب الكبير والروح الخلاق، الصادي الذي لا تروى علته جرعات من الماء فخير له ألا يبحث عن السعادة في ظل امرأة.

لم يكن غريباً بعد هذا أن نلمح في ابتسامات شارلي شابلن أفواه الجروح، وأن نسمع في صدى ضحكاته أنات العويل. إن المسكين يضحك خشية أن يسترسل في بكاء.

ولا عزاء للمسكين في محنته هذه، وفي عزلته. لقد تجاوز السن التي تجعله مرموق الحسان. إن ابن الخمسين لا يصلح إلا أن يكون ملجأ لمنكودات الحظ في الحب أو في الزواج أو طالبات العيش الهادئ في كنف الرجل كان ما كانت سنه، أو العوانس اللواتي يكابرن الدهر والدهر يتطاول عليهن، أو الغواني من قانصات المال والجاه العريض، وهذا الصنف من المخادعات إذا قابلن رجلاً في منحدر العمر، همسن في أذنه أنهن لا يحببن الشباب لنزقه وتيهه، ولكن يعشقن الشيوخ لرجاحة عقولهم وفيض حنانهم.

وشارلي العبقري الفنان، ابن الخمسين، لا يجهل ذلك. ولهذا فقد قدر عليه أن يعيش محاطاً بكل لذائذ الحياة، من مال وجاه وفخار إلا لذة الهجوم إلى صدر امرأة يخفق قلبها بحب خالص له. قدر عليه أن يكابد مرارة الحرمان الدائم، وقسوة الوحدة، وحمى الضمأ الذي لا يرويه ماء.

وهذا كله فدية الروح الخلاق والطموح الذي لا يتطامن، وهذا أيضا فدية المجد الذي علقه شاباً ورجلاً وكهلاً.

زكي طليمات