مجلة الرسالة/العدد 306/من ذكريات لندن
→ عود إلى التفاؤل والتشاؤم | مجلة الرسالة - العدد 306 من ذكريات لندن [[مؤلف:|]] |
تأملات وتفكرات ← |
بتاريخ: 15 - 05 - 1939 |
دعاية. . .
للأستاذ عمر الدسوقي
في العراق شباب ملء يومه ملء غده، يتقد حماساً لوطنه وعروبته، ويدأب ليل نهار في الدعاية لنفسه وقوميته؛ عرفته فعرفت الثورة الملتهبة المتأججة، والنفوس الطماحة المتوثبة، نفض عنه غبار القرون، واستيقظ فالتفتت الدنيا ليقظته، ثم زأر فارتاعت الأفلاك من زأرته؛ أينما حل فمعمعة ونضال، أو ضجة وجدال.
وفد على مصر منذ عشرة أعوام أول بعث للفتية العراق، ليطفئوا صدى نفوسهم من كوثر العلم، وينشروا بين أبناء الكنانة فكرة جليلة سامية، تشبعت بها نفوسهم، وامتزجت دماؤهم، وتراءت لهم في الحلم عزة وقوة، وفي اليقظة عظمة وفتوة؛ ولكن راعهم أنا بنهضتهم جاهلون، وعن دعوتهم معرضون.
دعوا للوحدة العربية، فألفوا قلوباً غلفاً وآذناً صماء وعقولاً سيطرت عليها فكرة الفرعونية، وبلبلتها السياسية المصرية؛ فلم ينكصوا على أعقابهم، أو يقنطوا من نجاحهم، بل طفقوا يبدون دياجير هذا الجهل، ويعرفون أبناء النيل ببلاد تعجب بهم، وتعلم عنهم أكثر مما يعلمون عن أنفسهم، ويرسلونها صيحة من فؤاد مؤمن بما يدعوا إليه، موقن بأن هناك من سيستجيب له: أن تعالوا إلى كلمة تجمع شملنا المبدد، وتعيد إلى الحياة مجدنا الغابر، وتحلنا بين الأمم مكاناً عالياً، يبعث في قلوبهم الهيبة والرهبة، ويغدوا شجي في حلوق الطامعين، وقذى في عيون المستعمرين، ويحبط كيدهم ويبطل إفكهم؛ فينشدون ودنا بدلاً من عدائنا، وحلفنا عوضاً عن استعمارنا.
لبى ندائهم من فطن إلى ما انطوت عليه جوانح المستبد الغاصب ورأى في تلك النزاعات الإقليمية هوة سيتردى فيها أبناء العروبة وهم في غفلة ساهون؛ فما البربرية، والفرعونية، والفينيقية، والآشورية، إلا شباك نصبها الطامع الشره ليحول بيننا وبين الوحدة المنشودة التي يخشى أن تزلزل الأرض تحت قدميه، وتضع السيف والنار أمام عينيه، إن عاد إلى ما ألف من عبثه بهذه الديار وذويها أو لم يمزق أوصال الشام، وقد مرت عليها العصُر وهي لا تعرف من دواعي الفرقة شبحاً، وهي تلك الصخرة الشماء من العزة والإباء، تنحسر عنها أو أذى الكائدين كليلة خائبة؟
عزة عليه وقد خرج من معمعان الحرب نشوان بحميا الظفر أن يرى ديار العروبة تتحفز للوثوب، وتجثم للنهوض، فعالجها بضربة خالها قاضية، وفرقها أباديد، حتى لا تطمع في قوة أو تأمل في عزة، وحتى لا تعيد على مسرح التاريخ تلك الأنفة والحمية والأيد والجلد والاستهتار بالموت، في سبيل الكرامة والشرف والعقيدة، أيام أن حشدت أوربا جموعها وشنتها حرباً شعواء على هذه الديار باسم الدين، فأصبحت العراق في قبضته، ومصر في حوزته، والشام أشلاء ممزقة. فما فلسطين وسوريا، ولبنان، وجبل العلويين، وجبل الدروز، والإسكندرونة، إلا أعضاء جسد واحد كان من قبل رمزاً للجد والنشاط والشهامة؛ وأخذت طرابلس الغرب تسير وئيداً في سبيل الفناء، وأحال تونس والجزائر بلاداً لا هي شرقية ولا غربية، فمسخت مسخاً، وتبلبلت ألسنة بينها برطانة لا هي فرنسية فتفهم، ولا هي عربية فيفخروا بها، وعمد إلى مراكش فكان للإسلام والعروبة كيداً، وحاول أن يهدم هذا الدين بعرف قد عفت عليه القرون ولا يصلح لحضارة ولا يبعث رقياً.
فطن من لبى نداء هؤلاء الفتية الأخيار إلى كل هذا، وإلى أن ذاك التراث المجيد قد كان بالأمس منبعاً للنور والمجد والرحمة والإنسانية، يفيض على الدنيا وقد جللتها سحب الجهل والظلم، وإلى أن هذه البلاد على تباين أسمائها تلهج بلغة واحدة، وتعتز بتاريخ واحد اشتركت فيه البؤساء والضراء، وتشعر بشعور واحد، وتنحدر من اصل واحد.
وإذا لم تكن اللغة أداة التعبير ورمز التفكير ووسيلة تصوير الشعور والوجدان، عاملاً من عوامل الوحدة وتأليف الأفئدة، فما يكون؟
وإذا لم يكن التاريخ والأدب والدم، صلات وثيقة، توحد بين الصفوف، والأهداف والغايات، فماذا يكون؟ أسسوا جمعية صغيرة متواضعة تدعو إلى ذلك الغرض النبيل السامي، وتعمل في إخلاص على توثيق عرى المودة بين أبناء العروبة في مصر، فانضوى تحت لوائها شباب طاهر بريء من نزاعات الأحزاب القديمة وحزازاتها الشخصية.
ولكن ما لبث أن سعي إليها الشيوخ يريدون أن يسخروها لأهوائهم؛ وطفق هؤلاء يستهوونها بالمال، وهؤلاء يمنونها بالتأييد، وهي بين ذلك تلقى من السخرية والتهكم ما يضعضع العزائم الثاقبة، ويثبط الهمم الصارمة.
يا طالما كنت أعتذر لهؤلاء الرفاق عما يبديه بنو جلدتي من جفوة وإعراض، وأقول: إنهم متى فرغوا من صراع العدو الغاصب، ونفضوا أيديهم من نزاله، فيسمدون إليكم الأيدي طواعية، وستنفتح قلوبهم لدعوتكم الرشيدة، إن راموا عزاً ومجداً لهم ولبلادهم؛ فلا تهنوا ولا تحزنوا، وثابروا على جهادكم، فإن جلائل الأمور لا تنجز بين طرفة عين وانتباهتها.
غادرت مصر، ونزلت مدينة (إكستر)، ووفد علينا جماعة من العراقيين يطلبون العلم بجامعتها فقلت: ها. . . إن الميدان قد تحول من ضفاف النيل إلى ربوع إنجلترا، ولكن وا أسفاه!، قد استمرأ هؤلاء الفتية حياة اللهو والدعة، فإذا دعوتهم إلى الجد وضعوا أصابعهم في آذانهم وأصروا واستكبروا استكباراً.
ثم رحلت إلى لندن، ووجدت فيها نخبة طيبة من أبناء العراق وفلسطين، قد اتخذوا الجد قبلة يولون إليها وجوههم صباح مساء، وحرصوا كل الحرص على أن يملئوا كنائبهم لا بسهام محطمة من الخزعبلات والدنايا، ولكن بالثقافة العالية والدراسة المجدية؛ حتى يكونوا في ساحة الجهاد أولى قوة وبأس شديد، حتى يحطموا عن شرقنا المسكين هذه الأغلال التي كبلته، وعاقته عن النهوض والرقي زمناً طويلاً؛ حتى ينازلوا الجهل بالحكمة، والأفن بالعقل، والميول النابية والأحقاد المزمنة والأغراض الحقيرة، بالصرامة الحازمة والعقيدة الجازمة.
أجمعوا أمرهم على تأليف جمعية عربية في لندن، تبث تلك الدعوة الصالحة بين شباب العرب، وتقرب بين آمالهم وأهدافهم فإذا ما تشربتها قلوبهم، واطمأنت إليها ألبابهم، كانوا رسل الوحدة العربية في ديارهم، وتعرف الإنجليز بنا، وبحضارتنا، ونهضتنا. ثم بدا لهم أن يكونوا كذلك لفلسطين جنوداً على ضفاف التاميز يهبونها من حرارة إيمانهم، وثمار عقولهم، ما شاء لهم حبهم الطاهر لبلادهم، وقصدهم النبيل في إسعادها.
لليهود في إنجلترا سطوة وقوة، وتجارة واسعة عريضة نامية، ودعاية سديدة منظمة، ينفقون عليها الأموال الطائلة؛ ولهم في دار النيابة خطباءهم أمراء البيان، يذودون عنهم بكل ما أوتوا من قوة وفصاحة.
وأنى لنا، ونحن شباب لا تظاهرنا حكومة، أو يشجعنا ثري أو تشد أزرنا سفارة، مباراتهم في الدعاية التي آمن بها الإنجليز عامتهم وخاصتهم لكثرة ترددها على أسماعهم، اللهم إلا ذاك النفر القليل الذين ساحوا في البلاد العربية، وفقهوا سر شكواها وكنه مصابها. ولقد وجدنا في هؤلاء نصيراً شد عضدنا، وسدد خطانا، وبذل في سبيل قضيتنا الوقت والمال عن سماحة وطيب نفس.
أخذنا ندمج المقالات الضافية، تنطق بالحقائق الناصعة، ونذيعها تارة بالخطابة، وأخرى بالكتابة، على الرغم من إيصاد الصحف أبوابها دوننا. وقد مُهد لنا السبيل لمناقشة فريق من أعضاء المجلس النيابي، فكان منهم من يرى رأينا ويشد أزرنا، ومنهم من يشيح بعطفيه ويزور جانباً.
لم نقصر دعوتنا على طبقة دون أخرى من الناس، بل جلنا جولات صادقات في كل مجتمع وندى، وهتفنا باسم فلسطين العربية ما أتيحت لنا الفرصة.
جاءت وفود العرب تترى لحضور حفلات التتويج، يقدمهم أمراء العرب الأمجاد، فقلنا: لنا لن يجتمع في هذه البقاع من أبناء العروبة جمع مثل هذا يحميه ويؤيده ويزينه سلائل الملوك الصيد من أبناء عدنان وقحطان. . .!
فلنصرخ صرخة مدوية تخترق شغاف هذه الأفئدة التي أغواها الصهيونيون، ولكن زأرة الأسد ربع حماه، لحمتها الشمم، وسدها الإياء، لا عويل الذليل يسترحم القلوب بالنحيب والبكاء. . .
رغب صحبي في أن يقيموا حفلاً نجتمع فيه بأمرائنا الأخيار، فنؤدي واجب التكريم والتبجيل، ونعلن لهم عزم الشباب على الفناء في سبيل العروبة واتحاد القوى؛ ورأوا أن ما بأيديهم من المال قليل، فغضوا الطرف عن دعوة ذوي الرأي والجاه في إنجلترا، وكنت أرى نمد الدعوة إلى رجال الصحافة وكبار القوم، حتى يروا رأي العين جمعنا الباهر، واتحادنا المتين، وحتى تصل كلماتنا إلى قلوبهم لعلها تلين. وهبت زوبعة من الجدال والنقاش كادت تعوقنا عن بلوغ هذا الشرف الرفيع، لولا أن شد أزري صديق كريم وتعهدت وإياه أن نقوم بسداد ما يزيد من النفقات إذا لم تهز الأريحية أفئدة أمرائنا الغر الميامين ذوي السماحة والندى، فيهبوا للحمية من نفحاتهم ما يعز مقامها ويعلي منارتها.
وكان حفلاً لم تشهد لندن نظيره من قبل روعة وبهاء وعظمة ورواء بل كان حفلاً فريداً قل أن يجود التاريخ بمثله. وكيف لا. . . وقد شرفه أمراء العرب، وتلاقوا فيه لأول مرة جميعاً ملبين نداء الشباب، ومنافحين عن فلسطين الشهيدة.
كبت به من خال أن اتفاق العرب محال، لشدة تنافرهم وتحاسدهم، وتباين أهوائهم ومطامعهم، بيد أن عزمات الشباب تذلل الصعاب وتحقق الرغاب.
وقرعت دعواتنا أسماع من طالما صدفوا عنها، وفتحت الصحف لنا أبوابها بعد أن أطنبت في وصف ذاك المشهد الفخم وهذه المظاهرة العربية الجليلة الوقورة.
وقد حقق أمراؤنا الأبطال آمالنا، فما إن سمعوا نداءنا حتى جاشت في قلوبهم حميا النخوة والكرامة، ففاهوا بكلمات تفصح عن نفوس عامرة، وأفئدة ملؤها النبل والإباء، وقالوا: إن بلاد فلسطين ومحنتها تقص منا المضاجع، وتحز القلوب حزاً، وإن خروجها من المعمعة سليمة مستقلة ظافرة لأمل نضعه نصب أعيننا وصلاة نرتلها صباح مساء، فثقوا بنا وبجهادنا والله يرعانا ويرعاها.
وغمرت عطاياهم جمعيتنا الفتية، فأصبحت في الجهاد أثبت قدماً، وأشد باساً، وأعلى صوتاً، حتى ضاق بها الصهيونيون ذرعاً، فما قام منهم خطيب ينفث في الناس سمومه وتخرصاته، إلا وجدنا أمامه نبطل كيدهم وندحض باطله.
وعدت ذات مساء إلى داري، فرأيت ربة الدار محزونة مكتئبة فسألتها: ما بالها؟ فقالت:
- جاء اليوم فتيان من أبناء صهيون، ينم حديثهما عن خبث طوية ولؤم حاد، وطلبا إلى أن أسدي لك النصيحة بالحسنى عن لسانهما، وأناشدك الله واهلك وغربتك إلا أقلعت وصحبك عن مناوأة جهادهم، وإن أبيت إلا اللجاج والعناد، فلهما معك يوم ما بعده ثم قالت: أني أخشى عليك هؤلاء القوم، إذ لا تؤمن لهم غائلة، ولا يتعففون عن دينة؛ وما كان لي أن أزج بنفسي في خاصة أمورك لولا انك نزيل داري؛ وأنا لهؤلاء الصهيونيين مبغضة وعليهم حانقة.
فقلت: شكرا لكي - سيدتي - هذا العطف الجم، والشعور الكريم، ولا عليك من هؤلاء فلن يضيرني منهم شيء، وسنرى.
عمر الدسوقي