مجلة الرسالة/العدد 302/دراسات في الأدب
→ فتح في عالم الطب | مجلة الرسالة - العدد 302 دراسات في الأدب [[مؤلف:|]] |
على هامش الفلسفة ← |
بتاريخ: 17 - 04 - 1939 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأدب يصور البيئة العامة
قلنا إن الأدب هو البيان المعرب عما يكنه ضمير الإنسان، وما تشعر به عاطفته، وما يصوره خياله من هذا العالم خيره وشره وجماله وقبحه؛ فهو صورة للبيئة التي يعيش فيها، والواقعات التي تنزل به، والآلام واللذات التي يحسها، والآمال والمكاره التي يرتقبها
يرى في إقليمه المروج والرياض في بهجتها ونضرتها، والجبال والبحار في عظمتها وروعتها، والغابات والصحارى في وحشتها ومخاوفها، فيبين عما يرى كما توحي العاطفة ويصور الخيال.
ويرى ألوانا ًمن العيش الرغد أو العيش النكد، وضروباً من السرور واللهو أو فنوناً من الحزن والغم
ويرى دولات من الظفر والغلب، وأخرى من الخيبة والهزيمة، فيتعاون على الإبانة عن هذا وذاك فكره وعاطفته وخياله
ويشهد شقاقاً في أمته، ونزاعاً بين عشيرته، أو يرى المودة والسلام والألفة والوئام، فيطبع في نفسه صورة الشقاق والنزاع والحرب والطعان، أو يتمثل في ضميره صور المودة والسلام والحب والإخاء
ويحيط به سلطان جائر يتحكم في فكره ووجدانه، ويسومه صنوف الذلة والعذاب، فيستنيم ويستكين حتى تموت المعاني في وجدانه، وتجف الألفاظ على لسانه، أو يأبى مجادلاً، ويصيح مغاضباً، ويتخذ البيان حجته وسلاحه، وجداله وكفاحه أو يتاح له سلطان عادل صالح يوسع له في الحرية ما وسعت الحرية الصالحة، فينطلق فكره في العالم، ويترجم عما يدرك وبشعر جهد بيانه، وملء قلمه ولسانه، لا يخشى حسيباً، ولا يخاف رقيباً
ثم البيان في هذا كله على قدر الفكر الساذج والمعارف القليلة، أو العقل الواسع والعلم الغزير، يختلف باختلاف مدارك القائل ومعارفه، ومشاهده وتجاربه
تغ فإن يكن الأدب صورة للبيئة والحادثان، وترجماناً لحالات الأمة ومشاعر الإنسان فتغير هذه الأمور يغير الأدب. فإن كان التغير ارتقاء إلى الأحسن والأعلى مثل الأدب هذا الارتقاء، وإن كان ارتكساً في القبيح والأدنى صوّر الأدب هذا الارتكاس. فالأمم تختلف آدابها باختلاف بيئاتها وأحوالها، والأمة الواحدة تتغير آدابها بتغير عصورها وأطوارها، والأفراد في الأمة الواحدة تختلف آدابهم باختلاف فطرهم ومشاهدهم، وافتراق حظوظهم من العيش، وأنصبائهم منن المعرفة. وهلّم جرّا
المؤثرات في الأدب
فالمؤثرات التي تغير الأدب متشابكة، ظاهرة وخفية يعسر إحصاؤها والإحاطة بها، ولكن يمكن تعداد أصولها فيما يأتي:
(أ) البيئة الطبيعية:
إذا تغيرت بيئة الإنسان تغير أدبه ارتقاء أو انحطاطاً، أو رقياً في ناحية ونزولاً في أخرى. والتغير هنا له سببان: الأول اختلاف المرائي والموضوعات بين البيئة الحديثة والبيئة القديمة، والثاني تغير الإنسان نفسه بتأثير البيئة وذلك لا محالة يظهر في أدبه
فالعرب حينما هجروا مواطنهم في الجزيرة إلى العراق وفارس والشام ومصر والمغرب والأندلس تغير أدبهم تغيراً واضحاً: ضعف إحساس البداوة القوي الذي يظهر في وصف الصحراء والإبل والخيل وُحمرُ الوحش والظباء والنعام، وفي وصف السفر والكد والحروب - واستبدلوا به رفاهية الحضارة ورقة شعورها. فنشأ الشعراء الذين عرفوا في الأقطار الإسلامية بعد أن اطمأنت الأجيال العربية إلى البيئات التي طرأت عليها
(ب) واختلاف أحوال الحضارة ومنها:
1 - الحال العقلية: فشيوع العلم والفلسفة واتساع المعارف يجعل الأدب أعمق. وأشمل لحقائق العالم ودقائق الطبيعة والحياة.
فشعراء الدولة العباسية وشعراء الأندلس (مثلاً) أبعد غورا وأوسع مجالاً في تفكيرهم، وتصويرهم من شعراء الجاهلية، وصدر الإسلام.
وتأثير المعارف في الأدب يظهر في النثر أكثر من الشعر. لأن النثر أولى بمباحث الفكر، وأقبل للنظر العميق؛ ولذلك نرى سعة المعارف أبين في كتابة ابن المقفع والجاحظ، وبديع الزمان والتوحيدي، وابن العميد، وابن شهيد، منها في شعر أبي نواس والبحتري وأبي فراس. وربما يقارن انتشار العلوم ضعف الأدب لأسباب أخرى كسوء السياسة، وقلة المكافأة، والإسراف في الترف. وليس الضعف من انتشار العلوم، ولكن من هذه الأحوال المقارنة
فإذا رأينا القرن الخامس الهجري أوسع علماً وفلسفة من القرنين الثالث والرابع ولكنه في الجملة أضعف أدباً منهما، فذلك لا يرجع إلى اتساع المعارف بل يرجع إلى أسباب أخرى
وإذا رأينا الأدب قليلاً بين العلماء المنقطعين للعلوم فذلك بما اغفلوا الأدب أو قلت عنايتهم به؛ أو لأن فطرتهم التي وجهتهم إلى درس العلوم لا يلائمها درس الآداب. فأما إذا تساوى اثنان في الفطرة الأدبية والاتجاه إلى الأدب فأوسعهم معرفة أعظمهم أدباً وأقرب إلى نفوس الخاصة من الناس. وربما يفوقهم الآخرون حظوة عند العامة بما شاركوهم في الشعور ولم يرتقوا عنهم بالمعرفة والفكر كثيراً
2 - الأحوال الاقتصادية:
إذا شغلت الأمة بتحصيل قوتها وأنفقت معظم وقتها في كسب معيشتها لم تزدهر فيها العلوم والآداب والصناعات. وإذا وجدت فراغاً بعد تحصيل القوت انصرفت إلى شئون الحضارة من العلم والأدب وغيرهما
فانتظام ثروة الأمة ورغد عيشها يعين على إزهار الآداب بما تجد النفوس من فراغ وبما يكثر أمامها من ألوان الحضارة وبدائع الصناعة والعمران التي تحرك الشعور للبيان
وانظر الحجاز قبل الإسلام وفي صدر الإسلام ثم بعد قرون تجد خلافاً بيناً في الثروة وفي الشعر. فالعرجيّ وعمر بن أبي ربيعه وكُثّير وابن قيس الرقيات، يبنون عن شعور دقيق وإحساس رقيق لم يكن لشعراء الحجاز قبلاً
وانظر ما فعلت مراثي الحضارة بالبحتري في وصف قصور الخلفاء، وما وصف شعراء الأندلس من مظاهر العمران والنعيم
وإن يكن إلحاح الفقر أحياناً يجوّد الأدب في بعض الناس فذلك يكون في أمة قد مكّنها ثروتها العامة أن تنتج أدباً. وأما الأمة التي يعمها الفقر وتُبرّح بها الفاقة، فلا ينبغ فيها أديب إلا على الندرة والشذوذ
عبد الوهاب عزام