مجلة الرسالة/العدد 302/على هامش الفلسفة
→ دراسات في الأدب | مجلة الرسالة - العدد 302 على هامش الفلسفة [[مؤلف:|]] |
ربيع وربيع! ← |
بتاريخ: 17 - 04 - 1939 |
طريقة الأخلاق أيضاً
للأستاذ محمد يوسف موسى
إذا كان استنتاج الأخلاق من الدين وربطها به حسب ما كان يراه رجال الدين المسيحيون منقوداً كما رأينا، فهل من الممكن استنتاجها من معين آخر؟ ذلك ما حاوله كبار فلاسفة ما وراء الطبيعة.
شغل كثير من الفلاسفة أنفسهم ببحوث ما وراء الطبيعة التي أهمها تعرّف القوة الموجدة لهذا الكون والتي إليها الأمر والنهي وهي مصدر الخير كله، ثم استنتاج الأخلاق منها، سواء منهم من تقدم بهم الزمن أمثال أرسطو وأفلاطون أومن تأخر بهم أمثال: ديِكارْت، لِيبْنز، سْبيِنوزا، مَالبْراَنشْ.
هذه الأخلاق المبنية على مباحث ما وراء الطبيعة لها حظها من السمو والجلالة بجعلها للخلقية الإنسانية معنى كبيراً نبيلاً إذ تربطها بالله العلي الحكيم. على رغم ما بين علماء ما وراء البيعة من اختلافات جوهرية في حل مشكلة العالم، تراهم جميعا متفقين على الاعتقاد بأن للمرء عقلاً نظرياً يصل من نفسه بلا حاجة لتجربة ولا لشيء آخر إلى معرفة الحقيقة الطلقة أي إلى معرفة الله تعالى، ومن هذه المعرفة العالية المباشرة تصدر الأخلاق. فالله هو مصدر كل حقيقة موجودة، والكائن الكامل ومبدأ الحياة الأخلاقية؛ فكرة الكمال هذه هي نقطة التحول مما وراء الطبيعة للأخلاق. كما أن نسب الكثرة هي موضوع الرياضيات، تكون نسبة الكمال موضوع الأخلاق والأساس الذي نبني عليه حكمنا على الأشياء والأعمال. الدابة كما يقول مالْبرانْش أوفر حظاً من التقدير من الحجر لأنها أقرب منه للكمال. والأمر على العكس بين الدابة والإنسان لأن نسبته من الكمال أوفى وأكبر من نسبتها منه؛ فالذي يحترم مثلاً حصان عربة أكثر من سائقها يكون ضالاً في حكمه متنكباً سواء السبيل. كذلك من الواجب أن نلاحظ أنه يوجد في المرء نسب متفاوتة من الكمال بين مختلف أعضائه، وهذه النسب تتباعد تارة وتتقارب أخر إلا أنها تتفاوت على كل حال؛ فالروح مثلاً أكمل من الجسم، والعقل أكمل الحواس
من أجل هذا يجب أن يعيش المرء كإنسان لاكحيوان، وأن يكون في سلوكه حسب النظ الذي يوحي به إليه أكمل ما وهبه الله وهو العقل، ومعرفة هذا النظام هو أصل الخليقة. يجب على المرء أن يحيا طبقاً لأكمل عضو إنساني فيه وهو العقل الذي يؤلف بين الناس، بينما تفرقهم الشهوات والعواطف والمصالح الخاصة. بسلوك المرء هذا السبيل يصل للسعادة. ليس القصد السعادة الخارجية التي مردها الحظ أو الثروة أو الجاه أو كل ذلك وأمثاله معاً، بل السعادة الداخلية والغبطة النفسية التي هي أسمى ما يطمح إليه إنسان والتي ينالها المرء من التخلق بالفضيلة والوصول للكمال بالقدر المستطاع.
بهذا ونحوه يؤكد فلاسفة ما وراء الطبيعة إمكان استنتاج الأخلاق من تلك الأبحاث. إلا أن هناك صعوبة لا يسعنا تجاهلها تقف دون نزولنا على ما يريدون. أمامنا تاريخ الفلسفة يؤكد لنا بلا ريب أن الآراء في جميع مسائل ما وراء الطبيعة، والحلول التي عرضت لمشاكلها كانت جد مختلفة على نحو لم يعهد في الآراء الأخلاقية التي يرون استنتاجها منها وابتناءها عليها. حقاً من الممكن أن نقرر بلا مغالاة تقارب النظريات الأخلاقية في المثل العليا الأخلاقية؛ هي تأمر بفضائل واحدة، بينما لا تجد مثال هذا التماثل، ولا قريباً منه في حلول مشاكل ما وراء الطبيعة. من السهل أن نأخذ كثيراً من الآراء الأخلاقية عن سقراط، أو أفلاطون أو أرسطو، أو سبينوزا مثلاً دون أن نتقيد بشيء ما من آرائهم فيما وراء الطبيعة. ذلك معناه أن معين الأخلاق ليس فلسفة ما وراء الطبيعة، لهذا نرى أن هؤلاء الفلاسفة في حاجة شديدة لمهارة جدلية فائقة لربط المبادئ الأخلاقية التي جاءتنا عن الضمير الإنساني، والتي أمدتنا بها أمثل التقاليد العالمية الإنسانية بآرائهم في مسائل ما وراء الطبيعة. وإذاً فلنقل بحق إن ربط الأخلاق بما وراء الطبيعة ليس إلا سفسطة في الغالب من الحالات
إذا كان لم يسلم استنتاج الأخلاق من فلسفة ما وراء الطبيعة، كما لم يسلم القول بأخذها من الدين على النحو الذي أسلفنا، فهل من الممكن استنتاجها من بعض العلوم؟ هذا ما رآه (أوُجست كونت) إذ بنى أخلاقه على العلم الذي تنتهي إليه العلوم، وهو علم الاجتماع
علم الاجتماع يقرر أن الفرد ليس إلا أثراً من آثار المجتمع والإنسانية. الإنسانية هي الموجود الأكبر الذي يستمد الفرد منه كل كيان ومقوماته، فهو يتقبل من المجتمع الماضي والحاضر كل ماله وكل ما هو. ما نأكل وما نلبس وما نتمتع به في مختلف مناحي الحياة ليس إلا نتيجة عمل الإنسانية الخالدة التي لا تفتر عن العمل لحظة من اللحظات لخير المجتمع كله. أليس ما ننعم به اليوم من سيارات وطائرات وراديو ولا سلكي وكهرباء بعض أعمال شركائنا في الإنسانية الذين عانوا في سبيل ابتداعها أو كشفها كثيراً من الآلام وعملوا لأجلها مالا يستهان به من التضحيات؟ ثم من الناحية العقلية والأدبية نجد اللغات والعلوم والآداب إرثا اجتماعيا أمدتنا به الإنسانية على طول الأيام.
لهذه النظريات الاجتماعية يستنتج (كونت) هذه النتيجة الأخلاقية وهي: أن الفرد يجب أن يعيش لأجل العائلة والإنسانية، وبعبارة أخرى يجب أن يكون مبدأه (الحياة لأجل الغير). إذن تكون الأخلاقية أو الخلقية هي أن نمكن للإيثار على حساب الأثرة. بل يقول أحد من يرون هذا الرأي وهو الأستاذ (جوبلو (ليس الإحسان عطية يقطعها المرء من ماله، بل هو تعويض واجب عليه دفعه)
حقاً هذا استنتاج جميل تعلق به الأفئدة ويتفق مع أعلى التجارب الأخلاقية للإنسانية، ولكن نقطة السير في هذه الأخلاق المبنية على هذه النظريات ليست من القوة والتسليم بحيث تفرض نفسها على العقل بطريقة جازمة. كون الفرد ليس إلا أثراً من المجتمع محل نزاع قوى. الضمير النفسي الذي يكشفه الإنسان في نفسه حقيقة من الحقائق، أل (أنا) حقيقة يقينية لا شك فيها، بل ربما كانت الحقيقة الآكد من سواها. لأنه كما يقول (ديكارت): (من الممكن أن أشك في العالم الخارجي ولكن لا يمكن أن أشك في شكي هذا. لا يمكن أن أشك في فكري. ليس من الممكن أن أشك في وجودي ككائن مفكر. إذن أنا أفكر فأنا موجود)
ثم هذا الاستنتاج الكُونتي يصلح حقيقة لإثارة النفوس المتشبعة بالمثل الأعلى الأخلاقي، إلا أنه لا يفرض نفسه منطقياً على كل النفوس والعقول. هذا امرؤ يعتقد الواجب ويؤمن به، فحينما يفهم أنه صنيعة العالم والإنسانية وأنه بدونهما لا يكون شيئاً، يجد من المنطق أن يرد الجميل وان يحيا في سبيل الغير. وذاك الذي ليس عنده أية فكرة سابقة عن الواجب، أية مخالفة للمنطق في قبوله كل مقوماته من المجتمع دون أن يرد له شيئاً، حقيقة ليس من الأخلاق أن ينفق المرء في سبيل لذائذه الأنانية الأموال التي جمعت بطريق الغير، والقوى المركزة فيه من الأسلاف السابقين. لكن هذا إن لم يكن من الأخلاق ليس من السهل وصفه بأنه لا يتفق مع الروح العلمية المنطقية والنتيجة العامة بعد ما تقدم كله أنه لا يمكن استنتاج أخلاق صالحة مقبولة من الجميع من الدين - على نحو ما كان يفهم رجال الديانة المسيحية - أو من فلسفة ما وراء الطبيعة أو من علم الاجتماع الذي يعتبر نهاية العلوم. إذن فلنترك مؤقتاً الطريقة الاستنتاجية، ولنوجه البحث نحو الطريقة الثانية وهي الرجوع في الأخلاق إلى الحاسة الإلهامية، وإلى اللقاء إن شاء الله
محمد يوسف موسى
المدرس بكلية أصول الدين