الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 302/فتح في عالم الطب

مجلة الرسالة/العدد 302/فتح في عالم الطب

بتاريخ: 17 - 04 - 1939


يوفق إليه بحاثة وطني

للأستاذ فليكس فارس

إذا كان رجال العلم في الأقطار الغربية يترصدون كل اكتشاف ويرقبون كل اختراع يوفق إليه التفكير الإنساني أيان كان التماعه ومن أية أمة كان انبثاقه، وإذا كنا نحن في بد نهضتنا لا يتتبع منا إلا النذر اليسير خطوات العلم في مجاهل الجسم البشري ومجالات الطبيعة في مختلف مظاهرها، فقد حق علينا على الأقل أن يستوقفنا ما يوقف إليه الباحثون من أبناء وطننا، وأن يهتم الخاصة والعامة منا بأية ظاهرة من ظاهرات العبقرية التي تتجلى من حين إلى حين في أبنا هذه السلالة العربية الشرقية كأنها تباشير الشفق ودليل انبعاث لعهدنا القديم

لقد أراد البعض ممن يدعوننا إلى اتباع القافلة العلمية الغربية أن يدعوا تفرد السلالات الآرية في الذهنية الاستقرائية قائلين: إن ذهنية الشرقي لا تخصب ألا بالاستحياء والاستلهام من النفس، وإنها تقصر في مجالات التدقيق أما الظاهرات الكونية، وأن ليس لنا نحن أبناء السلالة السامية ألا الاقتباس والعمل بما يكتشف الغرب، فقلنا لهم: إن أجدادنا قد تسلموا تراث العلم مما سبقهم من الشعوب ودفعوا به إلى التكامل وتوسعوا فيه وزادوا عليه، فما أقنعهم دليل الواقع في التاريخ القديم؛ غير أن الزمان يمشي بخطواته والشرق العربي يستعيد أمه في يومه ويتهيأ لوثبته الكبرى في غده، فيعلم دعاة التقليد في مجال التفكير أن الله لم يخلق العقل من مغانيم متعددة متفاوتة الصفات في جماجم الناس؛ وأن الشعوب إذا انفرط شملها على سبل الثقافة في عواطفها وتمتعها في حياتها فأنها لا تجد أمامها إلا صراطاً واحداً في التفكير، وهي متجهة إلى العلم ومعرفة الحقائق الواحدة في جوهرها

هذه كلمة لم أر بداً من إيرادها عطفاً إلى ما سبق لي نشره في مبحث الشرق والغرب لا تدرج إلى قول كلمة في ظاهرة من مظاهر نهضتنا العلمية يحق لنا أن نباهي بها، وقد أقرها من الغرب من لهم ردُّ ما بني على التوهم والاعتراف بما يؤيده العلم الصحيح

من الأمراض التي أضلَّت أسبابها الباحثين قديماً وحديثاً داء الروماتزم أي الالته المفصلي الحاد بأنواعه. فكان دهاقنة الطب يعرفون عنه انه داء عضال خفيت أسبابه، وعزُّ على الطب التحكم فيه إطلاقاً لأنهم لم يوفقوا إلى اكتشاف العامل الحقيقي الذي يلهب المفاصل بسمومه، ولا عرفوا نوع هذه السموم إلى أن قيض الله لطبيب مصري من هذا الشرق العربي، وهو: الدكتور نجيب فرح المقيم في الإسكندرية ان يكشف هذا العامل الخفي، ويهتك بإظهاره للعلم سلسلة من أسرار المناعة والدفاع لا في داء الروماتزم فحسب بل في غيره أيضاً من الأدواء التي لا يزال العلماء يعالجون خفاياها وحين عقد المؤتمر الطبي العربي أوائل فبراير الماضي في القاهرة تقدم الدكتور فرح إليه بتقرير مستفيض عن أبحاثه التي أعترف له بها دهاقنة أطباء الغرب واستشفوا من ورائها آفاقاً جديدة للطبابة فأورد بالأسلوب العلمي شذرات قد لا يسبر كنهها إلا رجال الطب فرأينا التحدث إلى طبيبنا الوطني استجلاء لحقيقة هذا الاكتشاف. وهكذا تسنى لنا أن نضع هذا المقال، ونحن على جلية مما نعرض

لقد وفق مواطننا سنة 1933، وهو يعالج المصابين بالروماتزم إلى العثور على جرثومة البنموكوك ثائرة في دمهم، فاستوقفته هذه الثورة في داء لم يكن يُعرف من قبل أن له بها علاقة مباشرة إذ كان من المقرر فَّنا أن البنموكوك كما تدل تسميته وهي جرثومة ذات الرئة لا يسبب إلاّ التهاب الرئة عند تهيؤ الأسباب له للخروج من استكانته

وعندما لجأ إلى طريقة (نوفلد) للتفريق ما بين البنموكوك والستربتوكِوك (وهي تقوم بإضافة صفراء مرارة الأرنب أو الأملاح الصفراوية في أنبوبة المعمل على هذه الجراثيم فتحل النوع الأول ولا تؤثر على النوع الثاني) خطر له وهو يعاين هذا التفاعل في الأنابيب أن يقيس معدل هذه المادة المعروفة باسم (بيلسيروبين) في دم المصابين فثبت لديه أنها ترتفع ارتفاعاً متفاوتاً في شدته تبعاً لقوة رد الفعل الشخصي دون أن يكون في مجاري الصفراء أي انسداد وفي الكبد أية علة يسند إليها ارتفاع معدل المادة الملونة للصفراء في الدم بالتحول، فأدرك بهذه الخطوة الموفقة أمرين هما الحلقة المفقودة في علة الروماتيزم وفي علل أخرى كما سيأتي البيان. وأثبت أن الروماتيزم الحقيقي إنما هو نتيجة لثورة البنموكوك عندما تضعف مقاومة الجسم، وأن السم الذي ينبعث عنه إنما هو المسبب لالتهاب المفاصل كما أثبت في الوقت نفسه أن ارتفاع معدل المادة الملونة للصفراء في الدم في هذه الحال ليس عبارة عن يرقان مَرَضيَّ بل هو رد فعل داخلي قد يبدو تحت سيطرة الغدد الصماء لحشد ما يمكن (لشبكة آشوف) الغارشية أن تمد به الخلايا من مادتها الملونة للصفراء لمقاومة البنموكوك المجتاح بتلبيده في السدم ثم حله ثم هضمه

وما احتفظ الدكتور فرح لنفسه بهذا الاكتشاف بل ذهب يكرر اختباراته وينشر عنها في كبريات المجلات الطبية، وقد سبق أن أدلى عنها ببيان في المؤتمر الثامن للاتحاد المصري للأطباء عام 1936 ونشر مثل هذا البيان في مجلة لا نسيت عام 1937، وفي مجلة أمراض البلدان الحارة في لندن عام 1938، ثم عرضه على مؤتمر أوكسفورد العالمي في جلسة ليمانفتون فدون في محضره. فكان لما جاء به هذا الطبيب الوطني من الملاحظة والاستقرار والتعليل شأن كبير لدى رجال الغرب المقطعين إلى استكشاف مجاهل الجسم واستجلاء أسرار العلل فيه

وعندما عقد المؤتمر الطبي العالي في بات من أعمال إنكلترا في أبريل سنة 1938 ووقف النطاسي (هانش) يعرض مشاهداته السريرية عن تأثير اليرقان في الالتهابات المفصلية والعضلية مكتفياً بسرد الحوادث دون الذهاب إلى تعليلها، وقف مواطننا الدكتور فرح فتناول شرح هذه الظاهرة بما اكتشفه في اختباراته انه طوال السنين من تأثير اليرقان تأثيراً ناجعاً في الروماتيزم مثبتاً أن المادة الملونة للصفراء تلبد البنموكوك وتحله وهو أصل الداء في ثورته. وهكذا جاء مواطننا في مجتمع من أكبر المجتمعات العلمية العالمية بتعليل يعززه الاستقراء والتحقيق لظاهرة كان يقف عندها الأطباء كأنها تصادف بين حلول داء الروماتيزم وظهور اليرقان دون أن يعلموا أن ثورة البنموكوك هي كلمة السر في حركة الهجوم والدفاع

أما الأمراض الأخرى التي اكتشف الدكتور فرح تأثير المادة الملونة الصفراء عليها، فمنها ذات الرئة وبعض أنواع الربو والحمى القرمزية التي تهبط الحمى والنوب فيها ويتماثل العليل بها إلى الشفاء بمجرد ظهور اليرقان وانتشار المادة الملونة للصفراء لحل البنموكوك وإبادته. ومنها داء السل والحمى التيفوئيدية التي تجد جراثيمها مرتعاً ملائماً في المادة الملونة للصفراء فتؤدي إلى استفحال الداء على عكس ما يحدث في ذات الرئة والروماتيزم والحمى القرمزية، لذلك يعمد الجسم في دفاعه إلى إنقاص معدل هذه المادة في الدم حين يصاب بالعلل الأولى

وهكذا أثبت مواطننا أن هناك دفاعين: دفاعاً إيجابياً ودفاعاً سلبياً تؤمَّنه الشبكة الغارشية لإمداد الجسم بقوى الدفاع عن سلامته بحسب نوع الجراثيم التي تجتاحه

هذا وإنك لتجد في تقرير الدكتور فرح من تجاربه في دم الأرنب ما يدلك على مبلغ دقته واجتهاده في التوصل بالتجارب العملية إلى نتائج لا تترك مجالاً للشك في صحة القاعدة التي يضعها، فقد تحقق أن الأرنب ذو مناعة طبيعية ضد التيفوئيد لأنه لا مادة ملونة للصفراء في دمه، ولكنه تمكن من قتل هذا الحيوان بهذا الداء بمجرد حقنه يومياً بهذه المادة بعد تلقيح دمه بباشلس ابيرت

وفي هذا التقرير عن سير السل وما يؤدي إليه ظهور اليرقان من اشتداد العلة، والاتجاه إلى نزف الدم، وعن الحمى القرمزية، والربو وتأثير المادة الملونة للصفراء فيهما، ما يطول إيراده تفصيلاً في هذه العجالة.

وبعد أن أورد الدكتور بيانه مستشهداً باختباراته وبما جاء مؤيداً لها من اختبارات من أخذوا بنظريته من علماء الغرب يقول:

إننا لا نغالي إذا نحن أكدنا أن أشد أعداء الإنسانية خطراً إنما هي البنموكوك، وباشلس كوخ لأن عليهما تقع تبعة أكثر ما نشاهد من عاهات، وما يقع من وفيات. هذا فضلاً عن أن أعراضهما المرضية تتخذ أشكالاً جد متعددة؛ وإذا ما احتلا مرتعاً من الجسم توافر الاستعداد فيه أو انكشف إحساسه فإن الأول يؤدي إلى الإصابة بالروماتزم الحقيقي، والثاني إلى ما يشبه الحقيقي، وإلى داء المفاصل على اختلاف أنواعه وفقاً للتفاعل الخاص في كل فرد.

وبعد أن يعرض الدكتور البحاثة لأنواع الأمراض التي يلعب البنموكوك دوره فيها كذات الرئة والالتهابات الشعبية والربو والحمى القرمزية والسل يعود فيضع حدوداً للتمييز بين ما تثيره سموم البنموكوك وما تثيره سموم السربتوكوك من علل مختلفة مثبتاً تأثير المادة الملونة للصفراء وأملاح الصفراء على الروماتيزم الحقيقي بعد أن يثبت البنموكوك هو المسبب له عند ثورته

ومما لاحظه مما يؤيد اكتشافه هو أن المرأة المصابة بالروماتيزم تزول أعراض هذا الداء منها بمجرد حبلها، لأن المادة الملونة للصفراء يرتفع معدلها إطلاقاً في دم الحامل طوال مدة الحمل

وقد حدد الدكتور فرح الأحوال التي تصح فيها معالجة المرضى بالحقن بالمادة الملونة للصفراء والأحوال التي تزيد فيها هذه المعالجة من خطورة الداء؛ وهنا تظهر الدقة البالغة حدها في الاستقراء إذ يتوصل البحاثة إلى تخطئة بعض دهاقنة الغرب في اعتقادهم أن كل روماتيزم يمكن معالجته مطلقاً بالمادة الملونة للصفراء لأن هنالك أنواعاً من الروماتيزم السلي (بونسه) تزيد خطورتها عند المعالجة بالمواد الصفراوية

من الصعب أن يتوصل كاتب إلى تلخيص كل ما أورده الدكتور فرح في تقريره من ملاحظات عززها بالرسوم العديدة المأخوذة عن مجالات المجهر ليبين التفاعل الذي تثيره مقاومة الجسم بين بعض أنواع الجراثيم والمادة الملونة للصفراء؛ فلمن تروق له هذه الأبحاث من غير الأطباء أن يرجع إلى المجلة الطبية حين صدورها ناشرة محاضرات أطباء البلاد العربية ولكل منهم أثر بين في دقة الملاحظة في الموضوع الذي تناوله مما يسجل للنهضة العلمية في الشرق العربي ما يرد قول القائلين بانحصار العبقرية السامية ضمن نطاق الذات المستلهمة وقصورها في الاستقراء والتحليل والاستنتاج في رحاب العلم والتحقيق العملي

إن القصور في نهضتنا لا يتجلى في جهود الأفراد ولا في استعدادهم فكرياً وعملياً، بل القصور كله كائن في هذا التفكك بل التناحر الذي يسود كل فئة من الجامعات في أوطاننا، إذ بينما تجد التضامن سائداً بين تجار البلاد الراقية وزراعها وصناعها وأطبائها وعلمائها وأدبائها لا تعرض لك هذه الفئات عندنا سوى التناحر والمزاحمة مما يؤدي إلى تقلص الهمم وانكماش العبقريات على نفسها. وقلما تجد كاتباً لم تنزل به النوائب من كاتب، أو تاجراً لم يزعزع تجارته تاجر، أو زراعاً لم يقطع أشجاره زارع، أو طبيباً لم يهزأ به طبيب. تلك هي علتنا، وإن نحن سجلناها على أنفسنا فما نقصد مجاراة من قالوا بضعف طبيعة الشرقي ونفور فطرته من كل تعاون، إنما نسجل هذا العيب على أنفسنا، وفي تاريخ أوربا في بدء نهضتها ما يشبه عيبنا بل ما يتعداه بمراحل؛ وليت وقائع كولومبس وغاليله وباستور متوارية وراء غياهب التاريخ. هذا وإننا نرجو آن يأخذ العقلاء بيننا بعبر الأيام وحوادث الدهر ليعلموا على لمَّ الشمل وتوحيد الجهود وأن ينال علماء البلاد قسطهم من تعضيد الحكومة للنهوض بهذه الأمة المتفجرة ذكاءً وعبقرية ونبلا فتتبوأ المقام الذي حق لها في ماضي الحقب وهو حق لها في آتي الزمان

فليكس فارس