مجلة الرسالة/العدد 301/حياة محمد
→ وليم بتلر يايتس | مجلة الرسالة - العدد 301 حياة محمد [[مؤلف:|]] |
رواية المصاهرة ← |
بتاريخ: 10 - 04 - 1939 |
باعتباره صاحب الدعوة الإسلامية
للمستشرق الإنجليزي توماس أرنولد
ترجمة الأساتذة
عبد الفتاح السرنجاوي
عمر الدسوقي
عبد العزيز عبد المجيد
ويعتبر إسلام عمر فاتحة عصر جديد في تاريخ الإسلام، إذا استطاع أتباع الرسول حينئذ أن يجهروا بعقيدتهم. ترك محمد (ص) بيت الأرقم، وأقام المؤمنون صلواتهم جماعة وإعلاناً حول الكعبة. وبدأ أشراف مكة يتوجسون خيفة من هذه الحال الجديدة، لأنهم لم يعودوا بعد يناضلون عصابة من الخارجين المضطهدين المنبوذين الذين كانوا يدافعون عن حياة بائسة مستضعفة وإنما يناضلون طائفة أصبحت ذات بأس. تزداد قوتها يوماً بعد يوم بانضمام بعض ذوي السلطان من أهل القبائل، وتهدد كيان الحكومة القائمة، بالمعاهدة مع أمير قوي من قبيلة أخرى
لهذا أجمعت قريش أمرها أن تدبر محاولة ناجعة لتعرقل نمو تلك الحركة الجديدة في مدينتها. تعاقد أهل قريش على مقاطعة بني هاشم الذين حموا الرسول لما له بهم من صلة القرابة، واتفقوا على ألا ينكحوا إليهم، ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، ولا تكون بين القبيلتين معاملة أيا كان نوعها. ويقال إن بني هاشم استمروا مدة ثلاث سنوات لا يغادرون ناحية معينة من مكة، اللهم إلا خلال الأشهر الحرام التي تمتنع فيها الحروب في كل الجزيرة، والتي تعاهدت العرب من قبل على الأمن فيها حتى يفد الحجاج لزيارة الكعبة الشريفة مركز دينهم العام
أنتهز محمد (ص) الفرص في أيام الحج ليدعو إلى الإسلام بين القبائل المختلفة التي كانت تفد أفواجاً إلى مكة وإلى الأسواق المجاورة لها. ولكن الرسول لم يوفق لأن عمه أبا لهب كان يقتفي أثره صائحاً بأعلى صوته: (إنه مشعوذ يريد أن يصرفكم عن دين آبائكم إلى العقائد الكاذبة التي جاء بها فتحاشوه ولا تسمعوا له). فكان الحجاج يعيرون الرسول ويجابهونه بقولهم: (إن أهلك أنفسهم وأقاربك أحق الناس بمعرفتك، فلم لا يصدقونك إذاً ويتبعونك؟). وأخيراً استفز كل هذا الاضطهاد الذي لحق بمحمد وأتباعه عاطفة جماعات كثيرة من قريش، فنقضوا عهد المقاطعة.
وفي هذا العام غمر محمداً أشد الحزن والجزع لفقد خديجة زوجه الأمين التي كانت له مشيراً ونصيراً مدة خمس وعشرين سنة. وبعد وفاة خديجة بمدة مات أبو طالب فحرم الرسول (ص) بموته أقوى حام له، وأثبت مدافع عنه. وبذلك أصبح الرسول مرة أخرى موضوع استهزاء الأعداء به، واحتقارهم له. قاسى محمد (ص) سخرية عشيرته به، وإعراضهم عنه، وفشلاً في رسالته التي ظل يبلغها إليهم مدة عشر سنوات، فصمم على أن يبحث عن عشائر أخرى لعلها تكون أكثر استعداداً لسماع دعوته، وعن أرض أخرى خصبة قد تنمو فيها بذور عقيدته، فخرج مصحوباً بذلك الأمل إلى الطائف، وهو مكان يبعد سبعين ميلا عن مكة. وهناك أمام جماعة من رؤساء القرية أوضح محمد (ص) دينه المتضمن وحدة الله، والرسالة التي بعث بها رسولاً للناس، وتوسل إليهم في الوقت نفسه أن يحموه ممن اضطهدوه في مكة. رأي أهل الطائف ألا توافق بين دعوة محمد الطموحة (التي كانت إذ ذاك أسمى من أن يدركها المشركون مثلهم) وبين حال الضعف وقلة الأنصار التي كان فيها، فذهبوا يحقرونه ويسخرون به، ويرمونه بالحجارة في غير شفقة، ثم طردوه من ديارهم
غادر محمد الطائف، وقد ظهرت بوادر النجاح أضعف ما تكون، فتنفس الصعداء بالعبارة التي تضمنتها الآيات الكريمة التي صدرت على لسان نوح عليه السلام: (قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهم دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا واستكبروا استكبارا).
كانت عادة محمد (ص) خلال موسم الحج السنوي أن يذهب إلى منازل القبائل العربية المختلفة، ويتحدث إليهم عن الإسلام، فكان بعضهم يقابل دعوته بالجفاء، وآخرون يعرضون عنه ساخرين؛ ولكن عزاء جاء إليه من حيث لم يتوقع. ذلك أنه قابل شرذمة من ستة نفر أو سبع، وعرف أنهم قدموا من المدينة أو يثرب كما كانت تسمى حينئذ، فسألهم قائلاً: (من أنتم؟) قالوا: (نفر من الخزرج). قال: (أمن موالي اليهود؟). قالوا: (نعم). قال: (أفلا تجلسون أسمعكم؟). قالوا: (بلى). فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا قد عزُّوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: (إن نبيَّاً مبعوثاً الآن، قد أظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم). فلما كلم رسول الله (ص) أولئك النفر، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: (ياقوم، تَعلًّموا والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه). فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدّقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: (إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين. فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك). ثم انصرفوا عن رسول الله (ص) راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا
هذا هو الخبر المأثور لهذه الحادثة التي تعتبر فجر يوم جديد للدعوة المحمدية. فلقد لاقى محمد قوماً مستعدين لقبول تعاليمه، قوماً كانت أحوالهم الاجتماعية حينئذ ممهدة لدعوته، كما سيتضح ذلك فيما بعد
كانت يثرب إذ ذاك مسكونة باليهود منذ زمن طويل، ويغلب على الظن أنهم أخرجوا من ديارهم على يد الإمبراطور أدريان الذي اضطهدهم (فاستقروا في مكان يثرب). ولما وصل بطنا الأوس والخروج من العرب - في إحدى انتجاعاتهم للمرعى - إلى يثرب، سمح لهم اليهود بالإقامة فيها. وبنمو النسل وتكاثر العدد اكتسبوا السلطان من رؤساء اليهود شيئاً فشيئاً، حتى نجحوا أخيراً، حوالي منتهى القرن الخامس الميلادي في احتجان كل السلطان على يثرب
اعتنق بعض العرب اليهودية وظل كثير من رؤساء يثرب اليهود مقيمين بها، تحت سلطان العرب الغزاة. من أجل هذا نجد عدداً كبيراً من اليهود من ساكني يثرب، في العصر الذي ظهر فيه محمد ﷺ. كان سكان يثرب لذلك على علم بأمر (المنقذ) الذي توقعوا قدومه، ونتيجة ذلك أنهم كانوا أكثر قدرة على فهم ما يقول محمد - وهو أنه رسول - وقبوله من أهل مكة الوثنيين الذين كانت فكرة الإسلام لهم غير مألوفة، كما كانت منبوذة من القريشيين خاصة، لأن سلطانهم على القبائل الأخرى، وغناءهم المادي ما كانا إلا لأنهم السدنة الورثة لجمهرة أصنام العرب التي نصبوها في حرم الكعبة
يضاف إلى هذا أن يثرب كانت مشتتة النظام لما حل بها من النزاع الداخلي الذي أشعل ناره شنآن قديم بين الأوس والخزرج. كان السكان دائماً في اضطراب وقلق، ولهذا اعتبروا أي عمل يؤدي إلى ائتلاف القبيلتين المتخاصمتين فأل خير وبشرى لمدينتهم
لقد حدث في القرون الوسطى أن اختار سكان الجمهوريات الشمالية لإيطاليا أجنبياً ليكون الحاكم الأعلى على جميع مدنهم، حتى يحتفظوا بالتوازن بين قوات الأحزاب المتنافسة، وحتى يتفادوا - بقدر المستطاع - الخصومات الداخلية التي كانت قاضية على التجارة، والأمن العام. وشبيه بهذا ما وقع من أهل يثرب، فإنهم لم ينظروا إلى ظهور أجنبي بينهم بعين التهمة، حتى حين أدركوا أنه ربما يستغل ما كانوا فيه من انحلال ليكتسب لنفسه سلطاناً عليهم.
إن الواقع ليثبت عكس ما كان يظن، إذ يظهر أن أحد الأسباب التي جعلت أهل المدينة يرحبون بمحمد (ص) ترحيباً محموداً هو أن العقلاء والمثقفين من السكان قد تبينوا أن اعتناق الإسلام هو العلاج الوحيد للاضطراب الداخلي الذي عانوه مدة من الزمن، لما جاء به الإسلام من نظم المعاش القويمة، ومن إخضاع الشهوات الإنسانية الجامحة لتهذيب القوانين الموحى بها من سلطة أعلى وأسمى من سلطة البشر المتقلبة.
وتوضح لنا هذه الحقائق كيف استطاع محمد - بعد ثمانية أعوام من الهجرة - أن يرأس جيشاً من أتباعه تبلغ عدته عشرة آلاف نفر، وأن يدخل المدينة التي جاهد فيها من قبل لينشر دعوته مدة عشر سنين فلم يفلح إلا قليلاً
لقد تعجلت الحوادث فيما ذكرت الآن. فلنعد إلى بدء عرض محمد نفسه على أهل الخزرج الذين دخلوا في الإسلام أن يصحبهم بنفسه إلى يثرب، ولكنهم رغبوا إليه في أن يعدل عن ذلك حتى يحدث صلح بينهم وبين بني الأوس. وقالوا: (إننا نتضرع إليك أن تدعنا نعود إلى قومنا لعل الله يخلق السلم بيننا فنرجع إليك بعد ذلك. وموعدنا موسم الحج القادم).
فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول اله ﷺ ودعوهم إلى الإسلام، واستجاب منهم نفر كثير فلم تبق دار إلا وفيها ذكر رسول الله ﷺ. حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم طائفة من يثرب - عشرة من بني الخزرج واثنان من بني الأوس - فلقوه في المكان المعين، وبايعوه أن يتبعوا تعاليمه. وهذه هي البيعة الأولى المعروفة ببيعة العقبة، وسميت بذلك لأنهم اجتمعوا سراً في مكان خفي. وقد أخذوا على أنفسهم (ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف) رجع هؤلاء الإثنا عشر رجلاً بعد ذلك إلى يثرب مبشرين بالإسلام، وبذلك مهد السبيل للدين الجديد، وأقبلوا على نشر الدعوة بحماس ورغبة، حتى انتشر الإسلام سريعاً من بيت لبيت، ومن قبيلة لقبيلة
وقد صحبهم في دعوتهم إلى يثرب مصعب بن عمير. ويقال في رواية أخرى إن الرسول بعثه إلى أهل يثرب بعد أن كتبوا إليه بذلك. كان ذلك الشاب الناشئ أحد معتنقي الإسلام الأوائل. وكان قد رجع حديثاً من الحبشة، بعد أن حنكته التجارب هناك، وأنضجت التنشئة القاسية في ميدان الاضطهاد حماسته، وعلمته كيف يقابل الاضطهاد، وكيف يناضل أولئك الذين كانوا متوثبين للحط من شأن الإسلام من غير أن يعلموا شيئاً من تعاليمه الصحيحة. لذلك استطاع محمد (ص) أن يعهد إليه واثقاً القيام بذلك الواجب العسير، واجب إرشاد حديثي العهد بالإسلام وتعليمهم، وتنمية بذور الحماس والإخلاص الديني، التي غرست فيهم من قبل، حتى تؤتي أكلها طيبة
كان منزل مصعب على أسعد بن زرارة، وكان يجمع معتنقي الإسلام إليه للصلاة ولقراءة القرآن. يفعل ذلك أحياناً في دار مصعب وأحياناً في دار بني ظفر، وكانت في ناحية من المدينة يقطنها بطن بني عبد الأشهل وبطن بني ظفر
كان رؤساء بني الأشهل سعد بن معاذ وأسيد بن حضير. وبينما كان مصعب جالساً ذات يوم مع أسعد في دار بني ظفر يعلم طائفة من حديثي العهد بالإسلام. إذ وفد سعد بن معاذ، وكان يبحث عن مكانهم فقال لأسيد بن خضير: (أنطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا ديارنا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما وأنهاهما عن أن يأتيا ديارنا فإنه لولا أن أسعد بن زرارة من حيث قد علمت كفيتك ذلك لأنه كان ابن خالة أسعد. فأخذ سيد بن حضير حربته ثم أقبل على أسعد ومصعب حتى وقف عليهما متشتما وقال (ماذا تفعلان؟ تسفهان ضعفاءنا؟ إعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة). قال له مصعب: (وتجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفَّ عنك ما تكره) فركز أسيد حربته وجلس إليهما ليسمع، فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن. وبعد هنيهة صاح أسيد متهللاً وقال: (كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟) فأجاب مصعب: (تغتسل فَتَطهَّر، وتشهد أن لا إله ألا الله وأن محمداً رسول الله) فقام أسيد وفعل ذلك، وكرر الشهادة. ثم قال: (إن ورائي رجلاً (يعني سعد بن معاذ) إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن). وبعد هذه العبارة انصرف أسيد، وجاء بعده تواً سعد بن معاذ بنفسه غاضباً حانقاً على أسعد لما منحه مبشري الإسلام من رعاية. فتوسل إليه مصعب ألا يحقرن الدين قبل أن يسمعه. فقبل سعد أن يستمع، ولم يلبث غير قليل حتى تأثر بما قاله مصعب من العبارات التي أدخلت في قلبه الإيمان فاعتنق الدين واصبح مسلماً. عاد سعد إلى قومه يلتهب حماساً، وقال لهم: (يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟) فقالوا: (سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة) قال: (فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله محمد). ومن ذلك اليوم لم يبق في دار بني عبد الأشهل رجل أو امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.
عبد العزيز عبد المجيد