الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 301/وليم بتلر يايتس

مجلة الرسالة/العدد 301/وليم بتلر يايتس

مجلة الرسالة - العدد 301
وليم بتلر يايتس
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 04 - 1939


الفنان الذي أوجد لأمة أدباً 1865 - 1939

للأستاذ عبد الكريم الناصري

(تتمة ما نشر في العدد السابق)

والحب عند يايتس صوفي، فذ في صوفيته ونقاوته. (هو لهب أبيض يحترق فيه كل ما له صلة بالأرض وبالتراب)

هو حب (شلى)، (آريلي)، حب مثالي لجمال مثالي

ولكن أين هذا المثل الأعلى من الجمال؟ إن دونه الكلال والملال، والهرم والشيخوخة، والصدى الذي لا يبل، والقلق الذي ماله من حد:

(خرجت إلى غابة البندق، لأن ناراً كانت في رأسي، فاقتطعت غصناً وقشرته، ومكنت بندقة من صنارة، ووصلت الصنارة بخيط، وساعة أن كان فراش العُث في جو السماء، وكانت النجوم تبزغ رفاقة خفاقة وكأنها الفراش، ألقيت الصنارة في الجدول فصدت سمكة فضية صغيرة، ثم وضعتها على الأرض ومضيت أنفخ النار لتلتهب، ولكن شيئاً حف على الأرض، وإنساناً هتف باسمي، وإذا بها أمست فتاة تكاد في الضوء الخافت المرتعش لا تبين، وفي شعرها زهرة تفاح، وقد هتفت باسمي وفرت واختفت في الفضاء الرفاف بأضواء اللهب

ألا إني وإن كان أهرمني التطواف الهائم خلال النجاد وخلال الوهاد، لواجد يوماً ملاذها ومأواها، فمقبل ثغرها ومتناول يدها، ثم سائر وإياها بين العشب المرقط الطويل، ثم مقتطف حتى آخر الزمان، تفاح القمر الفضي. . . وتفاح الشمس الذهبي)

ومَحْزنة الحب في هذه الدنيا أنه لا يدوم. إن يايتس ليعترف بهذه الحقيقة، ولكنه في بعض الأحيان يأبى أن يعترف:

(أيها الجبين الشاحب! أيتها اليد الساكنة! أيها الشر المظلم. . . لقد كان لي صديقة جميلة؛ ولقد خيل إليّ أن اليأس القديم سينتهي بالحب في النهاية، ولكنها نظرت ذات يوم في ق فرأت صورتك هناك فابتعدت باكية)

على أنه يؤمن بأن القلب إذا كان عاجزاً عن صدّ عاديات الزمن، عاجزاً عن الاحتفاظ بالحب والروح حبيسة الجسد، فإنه يعود قوياً نشيطاً ويسترجع الحبَّ القديم جديداً كما كان أوّل ما بدأ، بعد انطلاق الروح. . .

(أيها القلب الرّثيث البالي)

(أخرج سالماً من شبَك الضلال والصواب)

(اضحك - أيها القلب - ثانية في الغسق الأشهب)

(تنهد - أيها القلب - ثانية بين ندى الصباح)

(أما والقلب والروحُ رهينا الجسد)

(فإن الحبَّ أقل رفقاً من الغسق الأشهب)

(وإن الأمل أقل نفاسة من ندى الصباح)

والشاعر من أجل ذلك يتمنى لحبيبته الموت. فلو أنها ماتت لعادت إليه وقد صفحت عنه، لأنها ماتت، وعند ذلك يضم جمالها إلى صدره.

ثم إن حبيبة هذا الشاعر أجمل مخلوق في الوجود. بل هي المرأة الجميلة الوحيدة. ثم إن الناس جميعاً، بل الكون جميعه، يحبها حبَّ عبادة وتقديس:

(ما عليك إلا أن ترفعي يداً من شحوب اللآلئ، وتجمعي ما تفرق من غدائر شعرك ثم تتنهدي. . . فإذا قلوب الرجال جميعاً تتأجج وتخفق؛ ثم لا يحيا الزَّبدُ على الرمال المعتمة، ولا النجوم وهي تصعد في السماء يتنزل منها الندى إلا لتنير قدمك العابرة)

وإذا كان هذا هو شأنها، فأي هدية إذاً تليق بها؟!

(لو كنت أملك أنسجة السماء الموشاة)

(تطرزّها أشعة من ذهب وفضة)

(ما بين أزرق ومعتم وأسود)

(ومن ليل أو نهار أو شبه ليل أو نهار)

(إذن لنشرت تلك الأنسجة تحت قدميك)

(ولكن فقيرٌ ما أملكُ إلا أحلامي) (ولقد نشرت أحلامي تحت قدميك)

(فخففي الوطء لأنك تطئين أحلامي)

أحلام الشاعر! أجل أحلامه. . .

(ما ذوت الأغصان لأن ريح الشتاء هبّتْ عليها)

(قد ذوت الأغصان لأني قصصت عليها أحلامي)

وكما أن الحب عند يايتس مقدسّ لا يعلوه شيء، فكذلك اللهو البريء - الرقص والموسيقى - مقدس لا ينبغي أن يُنزل منزلة التخنث والصلاة، لأنه أعلى منهما وأقدس:

حين أعزف على ربابي في (دوُني)

يرقص القوم مثل موجة البحر

وابن عمي راهب في كفارنتْ

وأخي راهب في مُهارَبوى.

لقد فُقْت أخي وابن عمي،

فهما يقرءان في كتب الصلاة

وأنا أقرأ في كتاب الأغاني،

كتاب شريته من سوق الريف.

وحين نتقدم في آخر الزمان

من (بطرس) وهو جالس على عرشه الفّخم

سوف يبسم للأرواح الثلاثة القديمة،

ولكن يدعوني أنا أولاً إلى الدخول

لأن الخيرّين هم المرحون،

إلا من عثَر بهم الحظّ النكود. . .

والمرحون يحّبون الرّباب،

والمرحون يحبون الرقص.

وحين يلمحُني القوم هناك

سوف يتراكضون نحوي صائحين: (هاهو ذا منشدُ دوني!)

ثم يرقصون مثلَ موجة البحر

- 4 -

وراء كل أدب عظيم فلسفة. والمستر يتس يلخص فلسفته فيما يلي:

(إني أعتقد بتعاطي فلسفة ما تواضعنا على تسمية بالسحر أو ما ينبغي لي أن أسّمَيهُ استحضار الأرواح - وإن كنت لا أدري ما هيه - أو بالقدرة على خلق أوهام سحرية، أو بانكشافات الحقّ في أعماق النفس إذ العين مغمضة؛ وإني لأعتقد بثلاثة مبادئ:

1 - أن حدود النفس في تحوّل دائم، وأن الأنفس الكثيرة تستطيع أن تتصل أو يسيلَ بعضها إلى بعض إن صحّ هذا التعبير، لتخلقَ أو تظُهر نفساً واحدة، طاقة واحدة

2 - أن حدود الذاكرة هي أيضاً في تحوّل دائم، وأن ذاكراتنا جزء من ذاكرة واحدة كبرى هي ذاكرة الطبيعة نفسها

3 - أن هذه النفس الكبرى وهذه الذاكرة الكبرى يمكن استحضارهما بواسطة الرّموز

إن هذه (الذاكرة الكبرى) هي مخزن الرموز. وما الشاعر الرمزي إلا ساحر يقوم بدور الوسيط لاستحضار هذه الرموز - هذه الأرواح - ولكنه لا يخلق منها شيئاً. وعلى ذلك فكل ما نحس من عاطفة أو نرى من رأي أو نطلب من هدف ليس لنا، (وإنما صعد من الجحيم أو هبط علينا من السماء)

ولكي يستطيع الشاعر استدعاء هذه المعاني والرموز والعلاقات، ينبغي له أن يجعل نفسه في حالة سلبّية - أن يجعلها كالماء الساكن تنعكس عليه شّتى الصور. قال يايتس:

(كنت ذات مرة أنظم قصيدة شديدة الرمزية والتجريد فاتفق أن وقع قلمي على الأرض، فلما أنحنيت لالتقاطه تذكرت حادثاً من حوادث الخيالات والأحلام ولكنه لم يبد لحظتئذ أنه منها بل كأنه وقع لي فعلاً. فلما سألت نفسي متى حصل هذا الحادث وجدت أني إنما كنت أتذكر أحلامي في عدة ليال. ثم حاولت أتذكر ما فعلته في اليوم السابق، وما فعلته في الصباح، فلم أستطيع، إذ كانت حياة الوعي واليقظة قد غادرتني كلها، وما استطعت ذلك إلا بعد جهد شديد، فلما تذكرتها غادرتني بدورها حياة الأحلام التي هي أقوى من حياة الوعي وأروع. فلو لم يسقط قلمي لما فطنت قط إلى أن التأمل استحال غيبوبة) إن آراء يايتس الجمالية تتصل بفلسفته هذه اتصالاً منطقَّياً وثيقاً

فغاية الفن استحداث نشوة في النفس الدائمة التقلب مصدرها ما يعرضه الفن من حقائق الكون وعناصره الثابتة

وما دامت هذه هي غايته وهذه هي وظيفته، فلا موضع فيه إذن (لعلم عصره أو سياسته أو فلسفته أو أخلاقياته) لأن هذه الظواهر جميعاً في تطور مستمر، وتغير دائم

وخليقٌ بالفن إذاً أن يرتدَّ إلى روح ماض كان الناس فيه يعبدون الطبيعة، ويدينون بالوثنية، ويعيشون (في عالم يستطيع كلُّ شيء فيه أن يتبدل ويستحيل، ويصير أي شيء آخر؛ وبين الآلهة العظام الذين كانت عواطفهم في الغروب الملتهب، وفي الرعد وفي هواطل الرعود). . . وفي تلك الأزمان (التي كانت الحزمة المسكينة من الَحلْفاء فيها) كما يقول الشاعر (ينظر إليها على أنها كانت يوماً من الأيام. . . إلهة تضحك بين النجوم)

هذه الحقيقة، حقيقة أن الفن لا يكون عظيما إلا إذا اعتمد على أساطير الأقدمين من عَبَدة الطبيعة، وما في عالمها من خصب وغنيً ومن حياة زاخرة فياضة، هذه الحقيقة أدركها (الأساتيذ) العظام جميعاً.

لقد لُخص موقف يايتس فيلسوفاً بهذه العبارة: إنه رجل يعتقد بوجود عالم الغيب)

وحين نشر يايتس لأول مرة (1903) كتابه (فكرات عن الخير والشر) أبى بعض ناقديه ومراجعيه أن يسلموا بأن المؤلف يعتقد بالذي يقول. ولكن أن يعتقد الإنسان بما يقول أو لا يعتقد لا صلة له في الواقع، بصواب رأيه أو ضلاله. ولست أدري، مع المستر ريد، لم يعلق الناس هذه الأهمية الكبرى على موقف صاحب الرأي من رأيه. إن العقيدة الفنية على كل حال تتعلق قبيل كل شيء بالجمال. فأيما شيء خاطب شعور الفنان بقوة واستمال خياله بشدّة، مالَ إلى الخروج من عالم الخيال إلى عالم الحقيقة واليقين. (وحسب الشيء أن يكون على درجة من الجمال كافية ليرتدَّ جزءاً من عقيدته، جزءاً من دينه. وهذا هو الذي عناه كيتس حين نطق بقوله المشهور: (الجمال الحق والحق الجمال)).

هذه نظرة سريعة في (و. ب. يتس): عمله وفنه وفلسفته، أرجو أن أكون استطعت فيها أن أعطي القارئ فكرةً حسنةً عنه، وهو الأديب المعقَّد الشخصية، الضبابيُّ المعاني. وأرجو أن يتسع لي الوقت لأترجم لقراء الرسالة بعض آثاره الشعرية والمسرحية. وهنا أحب أن يعلم القارئ جيداً أن (يايتس) - بالرغم من كل هذه (الغرابة) الظاهرية في أدبه - لم يصنع أكثر من أنه عبَّر بإخلاصٍ عن (عبقرية أرلندا).

(بغداد)

عبد الكريم الناصري