مجلة الرسالة/العدد 298/مصرع خُبَيْب
→ باقة من الفلسفة الإسلامية | مجلة الرسالة - العدد 298 مصرع خُبَيْب [[مؤلف:|]] |
على قبر زوجها ← |
بتاريخ: 20 - 03 - 1939 |
للأستاذ ناجي الطنطاوي
سار الرجال صامتين، يخبون بأقدامهم على رمال الصحراء الملتهبة، لا يثنيهم عن غايتهم شيء، ولا يشغلهم عن مرمامهم أمر، وكان عددهم عشرة يرأسهم فتى غض الإهاب، ذو عزم ومنة، هو عاصم أبن ثابت، أرسلهم النبي صلى الله عيه وسلم عيناً على الأعداء في بعث الرجيع، يستطلعون أخبار العدو ويتعرفون إلى عدده وعدته. . . كانوا يسيرون مطمئنين آمنين لا يداخل نفوسهم حذر ولا ريب، وماذا يحذرون وهم في هذه الصحراء المترامية الأطراف، نفر قليل لا يتميزون عن سواهم من العرب وليست تبدو عليهم أية شارة تبعث الشك في نفوس من يراهم؛ كانت نفوسهم تفيض ثقة بالله وكانت قلوبهم عامرة بالإيمان الثابت الذي لا تزعزعه العواصف ولا توهنه النكبات، وكانوا قد وطدوا العزم على القيام بما عهد إليهم رسول الله ﷺ مهما لاقوا في طريقهم من المصاعب والأخطار، لا يثنيهم عنه إلا الموت.
ولما مروا في طريقهم بمكان يقال له الهداة جاء رجل من قريش إلى بني لحيان وأخبرهم أنه رأى نفراً من المسلمين يجتازون بهم ولا يدري أين يريدون، فلم يكد القوم يسمعون كلامه حتى داخلهم الشك في أمر هؤلاء، وتبادلوا النظرات، وصمتوا يفكرون، ثم ثاروا إلى نبالهم فاحتملوها وساروا يقتفون آثار المسلمين ويجدون في طلبهم. وكانوا مائة رجل نصف رماة.
أحس أصحاب عاصم بالخطر المداهم الذي تهددهم، ورأوا أنهم قد أخذوا على غرة، فاضطربوا ووجموا وعراهم الذهول، ولكن عاصماً صاح بهم قائلاً:
- لا تقفوا هكذا، أسرعوا إلى هذا الفدفد الذي أمامكم نمتنع به قبل أن نصبح فريسة في أيدي الأعداء. . .
فأسرعوا إليه كما أمرهم، وتحصنوا فيه، ولبثوا ينتظرون قضاء الله فيهم. . .
وبأسرع من لمح البصر، كان الرماة ومن معهم محيطين بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم ينظرون إليهم نظر الذئب إلى فريسته التي يخاف أن تفر من بين يديه، ووطد المسلمون العزم على استقبال الموت بثغور باسمة وقلوب مطمئنة وهم يتحرقون شوقاً إلى رؤية الجنة وما أعد الله لهم فيها من نعيم مقيم وسعادة خالدة.
ـ انزلوا وأعطوا بأيديكم، ولكم العهد والميثاق ألا نقتل منكم أحداً. . .
سمع المسلمون هذا البلاغ، فوقفوا واجمين للمرة الثانية، وفكروا في هذا الذي قاله المشركون، أهو قول صدق وشرف، أم هو مَيْن وخديعة؟ ومتى كان المشركون يصدقون في أقوالهم ويوفون بعهودهم؟ وهل يجدر بالمسلم أن يركن إلى مثل هذا الوعد؟.
أسئلة متوالية، جالت في خواطر المسلمين في تلك اللحظة الرهيبة الحاسمة، ولبثت تطلب جواباً، وفكروا قليلاً ثم اتجهوا بأبصارهم إلى رئيسهم ليسمعوا جوابه، وليعرفوا موقفه، فما لبث أن خاطبهم بقوله:
- أما أنا، والله لا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك وانتظر المشركون قليلاً، ليعلموا أثر كلامهم في نفوس المسلمين وليسمعوا جوابهم، ولم يطل بهم الانتظار، إذا وجهوا نبالهم إلى صدور المسلمين وأطلقوها فأصابت عاصماً وسبعة من أصحابه سقطوا شهداء في سبيل الله، وطارت أرواحهم الطاهرة لترفرف في سماء الخلود، وتحظى بنعيم الله الأبدي، وبقي منهم ثلاثة لم يكتب لهم أن ينالوا ما نال إخوانهم من شرف الشهادة، فأرادوا أن يضحوا بأنفسهم في سبيل تجربة أحبوا أن يقوموا بها، وفي سبيل درس رغبوا أن يستفيد منه المسلمون بعدهم؟ ترى هل يفي المشركون بتعهدهم ويصدقون وعدهم؟ ما دمنا على أبواب الآخرة فلنقم بهذه التجربة، ونزلوا فسلموا أنفسهم على العهد والميثاق، ولم يكد المشركون يستمكنون منهم ويعلمون أنهم صاروا في قبضتهم حتى أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فصاح أحد المسلمين:
- هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي أسوة بأصحابي الذين قتلوا.
وأبى أن يسير معهم فقتلوه، وساقوا الاثنين الباقيين، وكان أحدهما يدعى خبيب بن عدي، صمم على أن يتم التجربة التي بدأ بها مهما كلفه ذلك من المتاعب ليرى نتيجتها، وليختم الدرس الذي أحب أن يستفيد منه المسلمون.
- من هذا الذي أراه عندك يا ماوية؟
- هذا أسير لدي. ألا ترين القيد في رجليه؟
- ما أسمه؟ - إنه يدعى خبيب بن عدي الأنصاري.
- وماذا جاء به إلى دارك؟
- أغار قومي على نفر من المسلمين فقتلوهم وأسروه وابتاعه بنو الحارث بن عامر، إذا يقال إنه هو الذي قتل الحارث يوم بدر، وأبقوه عندي حتى تنقضي الأشهر الحرم ليقتلوه.
- وكيف رأيت سيرته ومعاملته؟
- أشهد أنه لمن أفضل الناس وأشرفهم ما عهدت فيه الكذب ولا الفحش في القول، وما رأيت منه إلا اللطف والدعة والمعاملة الحسنة، ما دخلت عليه في ساعة من ليل أو نهار إلا رأيته يقوم ويقعد ويخر ساجداً، فسألته عن ذلك فأجابني: أنه يعبد الله ويصلي له، وهو يرتل كل ليلة كلاماً جميلاً يسميه القرآن بصوت عذب فتنني وفتن كل النساء اللائى سمعنه وإنهن ليجتمعن عندي في كثير من الأحيان فيسمعن صوته فيبكين وترق له قلوبهن، وإني لأقول له: هل لك من حاجة؟ فيجيبني قائلاً: لا، إلا أن تسقيني الماء العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب وتخبريني إذا أرادوا قتلي.
- أهو كثير الجزع من الموت يا ماوية؟
- كثير الجزع؟ إني لم أره ذكر الموت إلا ابتسم وطرب، ولقد عجبت من حاله هذه فسألته عنها فقال: أو لا يسر ويطفر طرباً وسروراً من ينتقل من دار شقاء إلى دار نعيم وهناء؟ إنني إذا مت انتقلت إلى جنة عرضها السموات والأرض فلم لا أبتسم وأسر.
فحدقت المرأة في وجه مضيفتها وقالت متعجبة:
- عجيب أمر هذا الرجل، إنني لا أعرف رجلاً آخر بهذه الشمائل والصفات إلا أن يكون من أصحاب محمد.
فاقتربت ماوية منها وسارتها قائلة:
- إنني أقسم لك أنني رأيته أمس بعيني هاتين يأكل قطفاً من عنب وهو موثوق في الحديد ولا يدخل عليه أحد غيري وما أراك مصدقتي فيما أقول.
فضحكت المرأة وقالت:
كيف تريدين مني أن أصدقك يا ماوية وليس هذا أوان العنب وما في مكة كلها من ثمره شيء؟ - هذا ما أعجب له، وأقسم أنني غير واهمة ولا متخيلة، وما أدري تفسير ذلك.
ونهضت ماوية فحملت ما عندها من طعام، ودخلت به على السجين، ووضعته بين يديه، وانتظرت حتى أتم صلاته، فالتفت إليها وابتسم، وتناول الطعام من يدها دون أن يفوه بكلمة.
ولم يرق لماوية صمته فقالت له:
- هل لك من حاجة؟
فقال: لا، إلا أن تسقيني الماء العذب، ولا تطعميني ما ذبح على النصب، وتخبرني إذا أرادوا قتلي.
ولما علمت أن جوابه لن يتبدل، طمأنته وتركته.
- يا للهول! ماذا ترى عيناي؟ أهذا جزاء إكرامي لك وثقتي بك؟
- خفضي عليك يا ماوية، إنني لا أزال عند حسن ظنك بي.
- أتقول هذا، وابني في حضنك والموسى في يدك؟ ليتني لم أعرك هذا الموسى.
فابتسم الأسير وأجابها قائلاً:
- لا تغضبي هكذا يا ماوية، إنني لم أطلب منك إعارتي هذا الموسى لأقتل به ابنك، معاذ الله أن أفكر في هذا العمل الشائن، إن ديني يمنعني من ذلك يا ماوية، وما كنت لأفعل ذلك ما حييت؛ ولكن ابنك حبا حتى وصل إلى، وجلس على ركبتي، وكان الموسى في يدي، فلاطفته وداعبته، ولم يخطر لي أن أمسه بأذى، ولعلك ذكرت واقعة الأمس فجزعت. . .
- أجل يا خبيب، ذكرت مزاحك بالأمس عندما طلبت مني أن أعيرك الموسى، وقلت لي عندما صار في قبضة يدك: قد أمكن الله منك. . . أتدري أنك أخفتني بهذا المزاح؟
- إنك لم تعرفيني بعد، ولا أراك تعرفيني إلا يوم تسلمين، فتنجلي لك إذا ذاك حقيقة المسلم. والآن دعيني وشأني، إنني أريد أن أستعد للموت، ألم تقولي لي إنهم أزمعوا قتلي اليوم؟
- بلى.
ولم تمضي ساعة حتى أقبل القوم يهرولون، حاملين حرابهم ونبالهم، وهم مستبشرون فرحون، ولما دخلوا على خبيب فكوا القيد من رجليه وقالوا له: - هلم يا خبيب، استعد للموت، إنه ليزعجنا أن تبقى حياً إلى اليوم، ولولا الأشهر الحرم لقتلناك يوم أسرك.
فرفع خبيب رأسه، ونظر إليهم طويلاً، وكانت الابتسامة لا تفارق شفتيه، ثم أطرق ولم يجب.
ولما خرجوا به إلى ساحة الإعدام وأجمعوا على قتله التفت إليهم قائلاً:
- هل تأذنون لي أن أركع ركعتين قبل أن أموت؟
فنظر بعضهم إلى بعض في دهشة وعجب وقالوا: أتصلي وأنت على هذه الحال؟ ألا ترى الخشبة التي سنصلبك عليها؟ ألا ترى رماحنا ونبالنا مصلتة عليك؟ ألا تبكي وتطلب الصفح والعفو؟ افعل ما شئت.
فقام خبيب بين يدي الله، متوجهاً بقلبه وجوارحه إليه وصلى صلاة كلها اطمئنان وكلها خشوع، لم يضطرب قلبه، ولم يتلجلج لسانه، ولم يتبدل لون وجهه، وكان في صلاته هادئاً ساكناً آمناً ولما انتهى التفت إليهم وقال بصوت هادئ عذب:
- والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت. اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو كربتي بعد غربتي ... وما جمع الأحزاب لي حول مصرعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... وقد ذرفت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت ... ولكن حذاري جحم نار ملفع
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزعّ
فلست بمبدِ للعدوّ تخشعاً ... ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أي جنب كان في الله مصرعي
ولم يكد يتم الأبيات ويستغفر الله ويذكره حتى رفعوه على الخشبة وأوثقوه بها فقال:
- اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يفعل بنا.
وبدأ المشركون يرمونه بنبالهم ويطعنونه برماحهم، فلما بضع لحمه وسال دمه قالوا له: - أتحب أن محمداً مكانك؟
فأجابهم وهو يغالب نفسه من الألم:
- والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمداً ﷺ شيك بشوكة.
الله أكبر، هكذا فليكن الإيمان، وهكذا فليكن حب محمد ﷺ، أما والله لو لم يكن الخبيب إلا هذا الموقف لكفاه شرفاً وفخراً وخلوداً، وإن رجلاً في مثل هذا الموقف وعلى مثل هذا الحال، بين الحياة والموت، يجيب بمثل هذا الجواب لهو مسلم بكل ما في كلمة الإسلام من معنى، وبأمثال خبيب هزم المسلمون - على قلتهم - جيوش الشرك والطغيان والظلم وفتحوا ثلاثة أرباع العالم، وبنوا حضارة ونشروا ديناً سيبقى لواؤه مرفوعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة.
(دمشق)
ناجي الطنطاوي