الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 298/باقة من الفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة/العدد 298/باقة من الفلسفة الإسلامية

مجلة الرسالة - العدد 298
باقة من الفلسفة الإسلامية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 03 - 1939


لماذا يجب ألا نخشى الموت؟

(مهداة إلى معالي الأستاذ الجليل وزير الأوقاف)

للأستاذ محمد حسن ظاظا

(ما الموات إلا تمام حد الإنسان لأنه حي ناطق ميت، فالموت

تمامه وكماله، وبه يصير إلى أفقه الأعلى)

(عن الفيلسوف مسكويه)

كثيراً ما ادعى المتعصبون إلى للفكر اليوناني أن الشرقيين لم يحذقوا التدليل النظري المحكم كما حذقه اليونان وأن الفلسفة الإسلامية لا تكاد تخرج في مجموعها عن آراء أفلاطون وأرسطو بحيث أن كل ما هناك من فرق بينهما لا يستطيع أن يشهد للإسلاميين بالخلق المجيد والإبداع الطريف! ومهما تكن أسباب هذا الادعاء من جهل وتعصب، فأظن أنه ليس أنجح في دحضه من نشر آيات الفلسفة الإسلامية والتعليق على ما فيها من أوجه الطرافة والإبداع.

لذلك أقدم للقراء اليوم باقة من باقات الفيلسوف (مسكويه) الذي حدثتهم عنه في العام الماضي. وأزعم أن هذه الباقة من أقوى وأجمل وأدق آيات الفلسفة الإسلامية تدليلاً وإبداعاً؛ وأنها لا تقل في موضوعها عن كتابات الفلاسفة اليونانيين شمولاً واتساقاً وجمالاً وتحليلاً!

وموضوع هذه الباقة هو: (دفع الغم من الموت!) أو لماذا يجب ألا نخشى الموت. وأحسب أنك تقدر تماماً خطورة هذا الموضوع! بل أحسب أنك لا تدري في الحياة ما هو جدير حقاً بالخوف منه، والرعب غير الموت: ذلك البلاء الداهم الذي يلبسنا ثوب الحداد ويمزق منا الصدور ويقطع نياط القلوب! ذلك الذي يصبغ الكثير من أيامنا بالسواد ويطلق أصوات الأمهات والزوجات والأطفال بالصياح والعويل والشكوى المريرة والأنين المبحوح! أجل أحسب أنك تقدر ذلك كله! وتعرف أن اطمئنان القلب للعقائد الدينية يحتاج في الكثير الأحيان إلى برهان العقل كيما يزداد ثباتاً ورسوخاً؛ ولذلك كان من أهم الأبواب في الفلسفة الإسلامية باب التدليل على صحة ما في الدين من أقوال وقضايا ووعود؛ وكان موضوع (الموت) من أهم القضايا التي تناولها ذلك الباب.

ويعرض مسكويه لهذه المسألة في المقالة السابعة من كتابه الخالد (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق). وهي مقالة (رد الصحة على النفس ومعالجة أمراضها) وكان قد وضع في المقالات السابقة دستوره الخلقي الإيجابي الذي أثبت فيه روحانية النفس البشرية وخلودها، وحدد الفضائل وأضدادها، وبين السعادة ودرجاتها وكيفية الحصول عليها ووسائل حفظ الصحة على النفس السليمة: فرأى أن يختم الموضوع بمعالجة النفس المريضة ودفع أهم ما تتعرض له في حياتها من مخاوف وأحزان.

لذلك نراه يقول بعد فراغه من معالجة (الخوف) وأسبابه:

(فهذه جملة الكلام على الخوف المطلق، ولما كان أعظم ما يلحق الإنسان منه هو خوف الموت، وكان هذا الخوف عاماً وهو مع عمومه أشد وأبلغ من جميع المخاوف، وجب أن نبدأ بالكلام فيه فنقول:

(إن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن يدري ما الموت على الحقيقة، أولاً يعرف إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى موجوداً وليس هو بموجود فيه كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد، أو لأنه يظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، أو لأنه يعتقد عقوبه تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والقنيات؛ وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها.

(أما من جهل الموت ولم يدر ما هو على الحقيقة فإنا نبين له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها وهي الأعضاء التي يسمى مجموعها بدناً كما يترك الصانع استعمال آلاته وأن النفس جوهر غير جسماني وليست عرضاً، وأنها غير قابلة للفساد،. . . فإذا فارق - (هذا الجوهر) - البدن كما قلنا، وعلى الشريطة التي شرطنا، بقي البقاء الذي يخصه، نقى من كدر الطبيعة، وسعد السعادة التامة، ولا سبيل إلى فنائه وعدمه، فإن الجوهر لا يفنى من حيث هو جوهر، ولا تبطل ذاته، وإنما تبطل الأعراض والنسب والإضافات التي بينه وبين الأجسام بأضدادها. فأما الجوهر فلا ضد له. وكل شيء يفسد فإنما فساده من ضده. . . وإن أنت تأملت الجوهر الجسماني الذي هو أحسن من ذلك الجوهر الكريم، واستقريت حاله، وجدته غير فان ولا متلاش من حيث هو جوهر، وإنما يستحيل بعضه إلى بعض،. . . هذا في الجوهر الجسماني القابل للاستحالة والتغيير، فأما الجوهر الروحاني الذي لا يقبل الاستحالة ولا التغير في ذاته. . . فكيف يتوهم فيه العدم والتلاشي؟؟.

(وأما من يخاف الموت لأنه لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه، وجهل بقاء النفس، وكيفية المعاد، فليس يخاف الموت على الحقيقة وإنما يجهل ما ينبغي أن يعلمه، فالجهل إذا هو المخوف، إذ هو سبب الخوف، وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم والتعب به. . . فاستحقروا جميع ما يستعظمه الجمهور من المال والثروة واللذات الحسية. . . واقتصروا منها على المقدار الضروري في الحياة وتسلوا عن فضول العيش. . . (. . . على أن من خاف الموت الطبيعي للإنسان فقد خاف ما ينبغي أن يرجوه، ذلك أن هذا الموت هو تمام حد الإنسان لأنه حي ناطق ميت، فالموت تمامه وكماله، وبه يصير إلى أفقه الأعلى، ومن علم أن كل شيء هو مركب من حده، وحده مركب من جنسه وفصوله، وأن جنس الإنسان هو الحي، وفصلاه الناطق والمائت، علم أنه سينحل إلى جنسه وفصوله لأن كل مركب لا محالة منحل إلى ما تركب منه، فمن أجهل ممن يخاف تمام ذاته، ومن أسوأ حالاً ممن يظن أن فناءه بحياته ونقصانه بتمامه؟. وذلك أن الناقص إذا خاف أن يتم فقد دل من نفسه على غاية الجهل، فإذا الواجب على العاقل أن يستوحش من النقصان، ويأنس بالتمام، ويطلب كل ما يتممه ويكمله، ويشرفه، ويعلي منزلته، ويخلي رباطه من الوجه الذي يأمن به الوقوع في الأسر، لا من الوجه الذي يشد وثاقه ويزيده تركيباً وتعقيداً. . .

(وأما من ظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما اتفق أن تتقدم الموت وتؤدي إليه، فعلاجه أن نبين له أن هذا ظن كاذب لأن الألم إنما يكون للحي والحي هو القابل لأثر النفس، وأما الجسم الذي ليس فيه أثر النفس فإنه لا يألم ولا يحس. . .

وأما من خاف الموت لأجل العقاب الذي يوعد به فينبغي أن نبين له أنه ليس يخاف الموت بل يخاف العقاب، والعقاب إنما يكون على شيء باق بعد البدن العاثر. . . فهو إذا خائف من ذنوبه لا من الموت، ومن خاف عقوبة على ذنب فالواجب عليه أن يحذر ذلك الذنب. . .

وأما من زعم أنه ليس يخاف الموت وإنما يحزن على ما يخلف من أهله وولده وماله ونسبه، ويأسف على ما يفوته من ملاذ الدنيا وشهواتها، فينبغي أن نبين له أن الحزن تعجل ألم ومكروه على ما لا يجدي الحزن إليه بطائل، وسنذكر علاج الحزن في باب مفرد له خاص لأنا في هذا الباب إنما نذكر علاج الخوف، وقد أتينا منه على ما فيه مقنع وكفاية، إلا أنا نزيده بيانا ووضوحا فنقول:

(إن الإنسان من جملة الأمور الكائنة، وقد تبين في الآراء الفلسفية أن كل كائن فاسد لا محالة، فمن أحب ألا يفسد فقد أحب ألا يكون، ومن أحب ألا يكون فقد أحب فساد ذاته، فكأنه يحب أن يفسد، ويحب ألا يفسد، ويحب أن يكون، ويحب ألا يكون، وهذا محال لا يخطر ببال عاقل، وأيضاً فإنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا، ولو جاز أن يبقى الإنسان لبقى من تقدمنا، ولو بقى من تقدمنا من الناس على ما هم عليه من التناسل ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض. . . قياما فكيف قعودا أو متصرفين؟. . .

(فقد ظهر ظهورا حسيا أن الموت ليس برديء كما يظنه جمهور الناس وإنما الرديء هو الخوف منه، وأن الذي يخاف منه هو الجاهل به وبذاته. . . وأما جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبه وخلاصته فهو باق وليس بجسم. . . وإنما (يستفيد) بالحواس والأجسام كمالا فإذا كمل بها ثم خلص منها صار إلى عالمه الشريف القريب إلى بارئه).

وبعد فهذا تدليل مسكويه على وجود عدم الخوف من الموت بناه في مجموعه على روحانية النفس وأقامه على المنطق المستقيم والذوق السليم، فهلا ترى معي أنه أبدع في الكثير من حججه إبداعاً جديراً بالتقدير؟ الحق أننا ندعو ملحين إلى قراءة كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، وإلى المقارنة بينه وبين كتب أرسطو وأفلاطون في الأخلاق لأنا نعتقد أنه يفوقهم في الكثير من فصوله قوة ومنطقاً واتساقاً وانسجاماً. وأنه يقترب في بعض أفكاره من الآراء الفرنسية التي ظهرت أخيراً وعالجت نواحي علم الأخلاق.

محمد حسن ظاظا