مجلة الرسالة/العدد 295/في الحرب
→ على هامش الفلسفة | مجلة الرسالة - العدد 295 في الحرب [[مؤلف:|]] |
أعلام الأدب ← |
بتاريخ: 27 - 02 - 1939 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
كل زعيم ينشد نشيد السلام ويقف في محرابه على منبره يقدم له الترتيلات والقرابين والنذور. . .
ويلكم! إن السلام هو أن تسكتوا جميعاً عن النقيق والنعيق باسمه. . .
أتذبحونه وتذكرون اسم الله عليه؟!
إن السلام ألا تفكروا في مستقبل الذريات لإسعادها بأشقاء آبائها وطحنهم برحي حروب زَبون. . . بل أن تفكروا في حاضر الآباء الحاضرين الذين تأخذون لقمة بطونهم وتضعونها في بطون المدافع آكلات الأجسام، وهاضمات المدن والخيام!
عدتم إلى فلسفة الردة تمجدون الحرب للحرب، وتضعون لها مكاناً في قلوب الرجال كمكان الأجنة في بطون الأمهات. . والأمهات الوالدات تخرج لكم الكتل اللحمية البشرية كما تخرج معامل الأسلحة مصنوعاتها. . . فتولد كل يد ومعها أظفورها وقنبلتها ومدفعها. . . ويولد كل وجه ومعه قناعه. . .
والشياطين والزبانية تجمع الأحطاب من نغل القلوب وإحن الأفئدة. . وتضع الألغام على منابر الساسة وألسنة الزعماء. . . والإنسانية - العروس الهندية! - تسمع إلى صلوات كهنة النار قبل أن يقذفوها فيها بصبر وعجز، وربما بطرب وسرور؟
وصار كل كاهن يلقي خطبه وتصريحاته المشئومة بإلقاء جميل وإشارات تمثيلية باهرة. . .
ووقفت (العروس الهندية) تنظر إلى أَلسنة الخطباء نظر الأحطاب إلى أعواد الثقاب. . .
واجتمعت في قلوب الزعماء أحقاد أممهم تغلى على الألسنة، فصار كل زعيم يصر على أضراسه لأنه يحس سُعار السلاح في يده. . .
ونظر كل زعيم إلى قرينه قبل أن ينظر إلى مصالح أمته. . . والحرب تتجرد من ثيابها لتبرز إلى الميادين راقصة عارية. . .
عليها تَنُوس ذؤاباتٌ سود وعقود من الجمرات الحمر. . .
وقد خرست أصوات الكهان والمعلمين والدعاة. إن كل هذا يختفي عند لزوم ظهوره وإ عد أسلوباً من أساليب الخيانة والتثبيط والفت في الأعضاد. . . أن الحيوان المقدس المتمدن لا يزال يعيش بغرائزه على رغم معابده ومحافل السلام فيه ومعاهد العلم عنده. . .
وتكتلت المحصولات والأثمار والذهب لتقذف في النار مع الجماجم والأيدي التي صنعتها وتعهدتها. . .
إذاً لماذا تبنون ناطحات السحاب وتجملون المدن وتقيمون التماثيل والأنصاب وتفرغون على ما تصنعون كل ما تملكون من فن وعلم ما دمتم تهدمون كل أولئك في لحظة؟
أين الحياة التي يحياها الإنسان في الأرض؟ ومتى؟ إن كل ما في العالم الآن من علم ودين وفن إنما هو إعداد للموت السريع. فأين العمل للحياة والاستقرار؟
أما والله لو لم تكن (الآخرة) التي تصير فيها الإنسانية إلى مصير آخر، أمام عيون الحكماء فلقد يضل ضلالهم ويجن جنونهم!
لقد أسبغت الإنسانية على مظاهر الحرب خلاصة من فنها المغري بها؛ إذ زينت الجنود بزينة فاتنة، وجعلت ثيابهم أفخر الثياب وادعاها إلى العشق والإعجاب، وعشق النساء رجال الحرب أكثر مما عشقن رجال السلم والعلم والفن.
أية خدعة محبوكة الأطراف هذه الحياة يا رب الحياة! إنك تدفعنا فيها إلى غايات مستورة ببعض الحلوى والزينة. . .
تدفعنا بمظاهر الضعف: بالحب، إلى النسل والولادة والعمران وتدفعنا بمظاهر القوة: بالحرب، إلى الموت والعقم والخراب. . .
الحب والحرب هما المظهران الأكبران للحياة، وعلى هامشهما يحيا الفن والشعر والعلم والعمل. . .
حياة محوطة بنواميس في داخل النفس وفي خارجها هي بهما في جذب ودفع. . .
أنحن آلات لا سعادة لها في دنياها إلا العمل، وليس وراء العمل سعادة؟
أظن هذا هو الأصح والأدعى إلى راحة العقيدة في الحياة
وإلى الآن لم يظفر الإنسان - ذلك المخلوق التائه - بنعمة الاستقرار حتى يتيح الفرصة لعلمائه أن يجاهدوا في الكشف عن عرائس أحلامه. . . لأن زعماء القطيع لا يزالون يتغنون بمجد الأنياب والأظفار. . . ولا تزال خيلاء المجد: مجد الديكة المنتفشة تسوق الناس في ضباب من الشعر والألفاظ المعسولة.
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف