الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 295/على هامش الفلسفة

مجلة الرسالة/العدد 295/على هامش الفلسفة

مجلة الرسالة - العدد 295
على هامش الفلسفة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 02 - 1939


الحقائق الأخلاقية أيضاً

للأستاذ محمد يوسف موسى

قلنا إن من الخير والواجب عند تاريخ التقاليد والحقائق الأخلاقية أن يلاحظ الباحث ما كان من اختلاف بل تناقض أحياناً بين كثير من التقاليد الضيقة، وما كان من تشابه عجيب وانسجام نادر بين المثل الأخلاقية العليا التي عارض بها دعاة الإصلاح وفلاسفة الأخلاق ومعلمو الإنسانية تلك التقاليد. وذلك ما يدعو للقول بأن هؤلاء المصلحين كانوا يصدون عن معين واحد فيما وقفوا أنفسهم على تحقيقه

من الممكن أن نذكر في معرض التمثيل لذلك في الأزمنة العريقة في القدم حكيمي الهند والصين (بوذا وكونفشيوس) وسقراط الإغريق وأنبياء بني إسرائيل وفلاسفتهم وحكماءهم، وأخيراً المسيح ومحمداً عليهم أفضل الصلاة والسلام

في تراث الهند الروحي وتعاليمها السامية يجد الباحث تعاليم أخلاقية صالحة حقاً، أو يجب أن تكون كذلك لكل الناس. منها: لا تقتل، لا تكذب، لا تشرب المسكرات، لا تأخذ مال غيرك ولا زوجته. هذا بعض التعاليم السلبية؛ وفي التعاليم الإيجابية نجد الأمر بالصبر والرحمة والتسامح والإغضاء عن الأذى ونكران الذات والتضحية في سبيل الغير. يقول بوذا نفسه في بيان وجوب مقابلة السيئة بالحسنة: (إذا كان الحقد يرد على الحقد بالمثل كيف ينتهي إذن). وللبوذيين مثل بديع في وجوب الإحسان هو (أن أرنباً لا يملك قوته عز عليه أن يرد سائلاً طلب ما يمسك به رمقه، فشوى نفسه له حتى لا يرجع خائباً) هذا المثل يبين بإعجاب كيف يجب أن يساعد المرء غيره بما يملك من وقت ومال، بل وبذات نفسه أيضاً. ويحضرني في هذه المناسبة قول الشاعر العربي:

ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فلْيتق الله سائله

وإذا تركنا الهند إلى الصين نجد كونفشيوس حكيمها الأكبر يبشر في القرن السادس قبل الميلاد كسابقه بأخلاق يحكم العقل السليم بصلاحيتها للجميع، كأن يوصي بالاعتراف بالخير والجميل للأموات، بالشفقة البنوية، بالإخلاص الأخوي، بالأدب الذي منبعه القلب، بالمعاملة الحسنة لجميع الناس على السواء. بعض كلماته تمثل نمطاً عالمياً من التفكير وأخلاقاً تفرض نفسها فرضاً. هاهو ذا يقول: (من المعرفة الحقة أن يكون المرء عارفاً ويعلم أنه عارف، أو جاهلاً ويعلم أنه جاهل. العاقل لا يرفض كلمة طيبة لأنها جاءت من شرير. يجب مقابلة الخير بالخير (لعل هذا خطأ مطبعي وأن الصواب مقابلة الشر بالخير) والظلم بالعدل. أحبوا الآخرين كأنفسكم). ولما حانت ساعته رفض أن يصلي تلاميذه لأجله وقال في نبل وإيمان: حياتي كانت عبادتي وصلاتي)

وفي اليونان القديمة نرى سقراط مؤسس علم الأخلاق يأمر، ضمن ما يأمر به، بأن يكون المرء سيد نفسه؛ بالشجاعة، وبالعدالة إلى غير ذلك من الصفات الأخلاقية العامة. وفي ساعة موته دفع بشجاعته إلى حد البطولة حين يقول لقضاته، وقد قدم للمحاكمة متهماً ظلماً بالسفسطة والإلحاد وإفساد الشباب: (لشد ما أنتم في الضلال إذا كنتم تعتقدون أن رجلاً يعرف لنفسه بعض القيمة يفاضل بين حظوظ الحياة والموت، وبين البحث دائماً عما إذا كان ما يعمله عدلاً أو غير عدل) وحين يقول لتلميذه: (كريتون لا ينبغي أن نجترح أي ظلم حتى ولو كنا ضحايا الظلم الآخرين. عمل الشر للغير هو الظلم بعينه. لا يجب مقابلة السيئة بمثلها).

وإذا تركنا اليونان، وعرجنا على بني إسرائيل، نجد أنهم كانوا في فجر تاريخهم لا يعتقدون واجباً إلا لإلههم المحلي وأنفسهم حتى جاءهم أنبياؤهم وحكماؤهم بالمبادئ الأخلاقية الرحبة الواسعة. وفي ذلك يقول أحدهم في القرن السادس قبل الميلاد: (ليس لجميع الشعوب إلا إله واحد كل العالم معبده، وتكريمه أن يكون الكل عادلاً). وفي التلمود: (أحبب غيرك كنفسك. لا تعامل غيرك بما لا تحب أن يعاملك به). وهذه الحكمة أخذها أحد حكمائهم وهو: (هلِّي الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد مبدأ له. فهي عنده كلمة الشريعة وما عداها مجرد تفسير لها. وفيه أيضاً: (من يفعل الخير حباً في الخير يكن من أصدقاء الله). وجاء في كلمة للكاتب الروسي الكبير (مكسيم غوركي) هذه الحكمة السامية لهلَّيل الحكيم السابق ذكره: (إن لم تكن لنفسك فلمن تكون؟ ولكن إن كنت لنفسك فقط فلم تكون؟). وقد تأثر غوركي بما في تلك الكلمة من معنى إنساني نبيل، وحكمة عميقة حتى ليقول: (إن حكمة هلِّيل هي النبراس الذي هداني السبيل وما كان سهلاً سوياً)

بعد هؤلاء جميعاً نذكر عيسى عليه السلام الذي جاء معارضاً لما وجده من تقاليد عتيقة ضيقة بمثل أخلاقي عال صالح للناس جميعاً. كان مما بَّشر به: (حب المرء لله أن يحب قريبه كنفسه) وليس القريب هنا هو الإسرائيلي مثلاً، بل الإنسان للإنسان: (عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. إن وصيتي لكم أن يحب بعضكم بعضا كما أحببتكم، لا يوجد حب أعظم من أن يعطى المرء من حياته لأصدقائه).

أما محمد: صفوة الخلق كافة، خاتم الأنبياء والمرسلين. فقد جاء في الأخلاق بما يعتبر بحق المثل الأعلى الكامل: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه، وبالوالدين إحسانا). . . إلى آخر هذه الأوامر الحكيمة الذهبية العالمية التي احتوتها تلك الآيات الكريمات: (وجزاء سيئة سيئة مثلها. فمن عفا وأصلح فأجره على الله. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون). ويضاف لهذا ومثله قوله ﷺ: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) (الدين المعاملة).

وهكذا نرى أن كثيراً من ذوي الضمائر الإنسانية عارضوا التقاليد والإفهام الضيقة التي كانت مقبولة في أزمانهم وبيئاتهم بمثل عليا؛ وبعبارة أخرى بمثل أعلى أخلاقي حكموا حقاً بصلاحيته للجميع دائماً. وصلوا لذلك لأنه أتيح لهم أن يتخطوا الجماعات التي كانوا يعيشون بينها، ونجحوا في الدخول في حظيرة الإنسانية الخالدة والحياة العامة التي لا يحدها مكان أو زمان

هذه الأفكار الأخلاقية العالمية التي وصل إليها أصحاب الضمائر العالية النيرة بعد تفكير عميق تجاوزوا به أزمانهم وبيئاتهم وأممهم إلى الإنسانية العامة في أوسع حدودها. هذه الأفكار السامية التي يجب أن تكون مقبولة منا جميعاً، أليس لنا أن نقرر أنها حقائق أخلاقية عامة فتكون الأخلاق لذلك علماً من العلوم؟ بلى وربي، إنه مما لا مرية فيه أن هذه الآراء ليست شعاراً ومبادئ مقدسة للناس جميعاً يصدرون عنها في أعمالهم دائماً. هذه حقيقة لا ريب فيها، ولكن الحقائق العلمية لا تزيد عليها في هذا المعنى

حينما يعرف العلماء الحقيقة العلمية بأنها الاتجاه العقلي العام نحو مركز واحد أو نتيجة واحدة، أو بأنها الشيء الذي تتجه إليه العقول كلها وتقبله - حينما يعرفونها بهذا أو ذاك لا يقصدون أن هذا الاتجاه العام محقق، بل يقصدون أنه أمنية يرجون يوماً ما أن تكون. وفي الواقع لا يقبل كثير من الناس الذين لا يزالون على الفطرة والجهالة الأولى التفسيرات العلمية الصحيحة لكل الظاهرات الكونية كالرعد والبرق والمطر والكسوف والخسوف، بل لا يزال منا معشر المصريين من يعلل هذه الظواهر ونحوها بما لا يتفق مع العقل في شيء. ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون. فحين يعلن العلماء أن الحقائق العلمية محل اتفاق جميع العقول، يكون الغرض العقول الموهبة القادرة على الحكم الصحيح، أو الأمل أنها تكون حقاً ذات يوم محل اتفاق جميع العقول بلا استثناء. إذن لنا أن نأمل هذا للحقائق الأخلاقية السابق ذكرها هي وأمثالها، فنقول: هناك حقائق أخلاقية تفرض نفسها على الضمائر السليمة، وإنها من الآن مقبولة من كل وهب القدرة على الحكم الصائب كما أنها ستكون يوماً ما، قريباً أو بعيداً، مقبولة من الجميع عندما ينظر المرء نظرة واسعة تنتظم العالم بأسره وتعتبر الناس اخوة متساوين فيما لهم من حقوق وعليهم من واجبات

هذا الرجاء الذي يجب أن نقنع به الآن، نجد لحسن حظ الإنسانية أنها تقترب منه شيئاً فشيئاً لعوامل عديدة. هناك قوى هامة مختلفة تعمل للتقريب بين الضمائر وجمعها على مبادئ واحدة من الناحية الأخلاقية كما حصل ويحصل كذلك من الناحية العلمية. من ذلك انتشار العلم وسهولة اتصال الناس في كافة أرجاء الأرض وسرعة ذلك الاتصال وحدته وتزايده يوماً فيوما لا فرق في ذلك بين السود والبيض وغيرهم من الأجناس المختلفة. هذا الاتصال مستمر الذي طابعه الحدة والعنف بل الوحشية بعض الأحيان كما في حالات الاستعمار، أنتج كثيراً من المظالم والآلام، ولكنه عمل أيضاً على تعارف الأمم وتفاهم الشعوب والقضاء على كثير من التقاليد الأخلاقية الضيقة الخاصة، كما عمل على تبادل المبادئ الأخلاقية واختيار انفعها الضيقة الخاصة، كما عمل على تبادل المبادئ الأخلاقية واختيار أنفعها. وسيؤدي استمرار هذه العملية الواسعة إلى إتاحة الفرصة إلى أن يوسع الناس جميعاً مداركهم ويسموا بترتيبهم حتى يجاوزوا بذلك الدود الطبيعة من محيطات وبحار وأنهار وجبال ويصلوا إلى أبعد الآفاق. حينئذ يجمعون في عقولهم وقلوبهم كل ما أمكن لشعوب العالم قاطبة خلقه أو كشفه من حقيقة وجمال، ويركزون في ضمائرهم ما يوجد في الحياة العامة من عقل وحكمة ومبادئ أخلاقية نبيلة والآن وقد ثبت أن هناك حقائق أخلاقية عامة نرى الضمير المستقيم مجبراً على قبولها، ونرى من الواجب أن يقبلها الجميع يوماً من الأيام. لنا الآن من غير إسراف أن نقرر أن الأخلاق علم من العلوم، وأن نعتبره عملاً من أعمال العقل كسائر العلوم الأخرى لا وليد التقاليد أيا كان مصدرها. الأخلاق عمل من أعمال العقل الذي يبحث بكل ما يملك من قوى مختلفة من تفكير وذاكرة وتخيل وتعليل واستنتاج للوصول لحقائق أخلاقية صالحة للجميع

بعد هذا لنا أن نتساءل: ما هي الطريقة التي تتبع في دراسة هذا العلم، في تحديد المثل الأعلى الأخلاقي تحديداً صالحاً طيباً يقبله الناس بلا استثناء؟ ذلك موضوع البحث التالي إن شاء الله.

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين