الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 295/أعلام الأدب

مجلة الرسالة/العدد 295/أعلام الأدب

مجلة الرسالة - العدد 295
أعلام الأدب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 02 - 1939


إسخليوس والدرامة اليونانية

للأستاذ دريني خشبة

مقدمة

نشأ شعر الملاحم وترعرع في ظلال الأرستقراطية التي سادت الحياة اليونانية طوال عصر البطولة في القرنين التاسع والثامن، أو الثامن والسابع قبل الميلاد

ونشأ الشعر الغنائي وترعرع في ظلال الأرستقراطية كذلك وامتد إلى منتصف القرن الخامس

وبرع في شعر الملاحم هوميروس صاحب الإلياذة والأوديسة، وهسيود صاحب الأرجا (الأعمال والأيام) والثيوجونية (نشوء الآلهة) ودرع هرقل

وبرع في الشعر الغنائي كل من سافو - شاعرة الخلود - وأليسوس وأنا كريون وأرخليوكوس. . . وقد كان هؤلاء يقرضون الشعر ويتغنون به تسلية لأنفسهم فحسب، أي أنهم لم يكونوا (محترفين)

أما الشعراء المغنون (المحترفون) فقد ألفوا الفرق الغنائية (للغناء والإنشاد والرقص)، فهم بذلك مبتدعو (الخورس) اليوناني. وقد كان أرسطو يطلق على الأغنية من أغانيهم لفظة (دثرامب) (كتاب الشعر لآرسطو)

ومن زعماء الشعراء المغنين ألكمان الشاعر الغَزل الرقيق الذي يعده المؤرخون مبتدع أشعار الحب، وإن تكن سافو فيما نرى زعيمة هذه المدرسة. وقد اكتشفت ماريت باشا سنة 1855 برديّة مصرية بها قصيدة من روائع هذا الشاعر الفحل مما نظم لفتيات الكورس. وفي القصيدة نفحات من الدرام تدل على بداءة الأدب المسرحي

ومنهم الشاعر آريون الذي يُعزى إليه ابتكار الدثرامب (أغاني باخوس)

ومن أعظمهم الشاعر تيزياس الذي يعدونه في الشعر الغنائي نداً لهوميروس في شعر الملاحم؛ وقد اكتسب الشعر على يديه مزايا عظيمة من حيث التنوع والقصص والمزج بين الملحمة والغناء وابتكار القصة الشخصية التي تفيض بالاعترافات ومنهم الشاعر إبيكوس الذي اهتم كثيراً بقرض أناشيد (الصبيان) ومازج بين الشعر والموسيقى ووشى قصائده بورد الربيع وعصافيره وحبر العذارى

ومنهم سيمونيدز (556 - 468) وهو أوسعهم ثقافة، وهو في شعر الحكمة يشبه شاعرنا أبا الطيب من حيث الفكرة العميقة وقوة السبك وعلو المنزلة؛ وكانوا يتدارسون شعره في مجالس يعقدها جلة العظماء لهذا الغرض. وكان سفير قومه في بلاط الملوك والأمراء الأجانب. وقد ذهب برغم كبره ليعقد الصلح بين أميري صقلية المختصمين فأدى مهمته على خير وجه. ويعزون إليه أنه كان بخيلاً شديد الحرص؛ وذلك أنه كان يطلب لقصائده (ثمناً محدداً) لا ينقص منه مهما ألحف عليه في ذلك. . . وأحسن قصائده ما كان له علاقة بالحرب. وقد كتب عن ترموبيلي أروع غُرره ونظم في قتلاها أجمل فرائده. . . ولذا أحبه اليونانيون وآثروه بلقب شاعرهم الوطني دون بندار

أما بندار، فهو بلا ريب أعظم الشعراء الغنائيين الذين أنجبتهم اليونان على الإطلاق. . . ولقد ولد في إحدى قرى بووطيه حيث نشأ نشأة موسيقية، فتعلم العزف على القيثارة ثم مهر في النفخ بالناي، وكان أستاذه في ذلك عمه الشاعر الذي كان يلازمه ويعلمه الغناء والإنشاد فضلاً عن الموسيقى والشعر. . . ثم ذهب إلى أثينا ليتخصص فيما شداه من هذه الفنون، فأتيح له الاتصال برجالاتها وذوي الرأي فيها. ومما يذكر له في هذه الفترة من فترات التحصيل أنه دخل في مباراة إنشادية غنائية مع زعيمة من زعيمات الغناء في أثينا تدعى كورينّا. فغلبته وتفوقت عليه. . . وتقلب بندار في الإمارات اليونانية جميعاً، وحل ضيفاً كريماً على أكثر ملوك الولايات حيث كان يقابل بالبشر ويُتلقى بالترحاب. . . وكان بندار يكره سيمونيدز، وينقم من الناس تهافتهم على شعره الذي كان يدعوه حكمة ولم يكن يدعوه شعراً. وبندار وسيمونيدز في ذلك مثل البحتري والمتنبي. فقد كان البحتري شاعراً لأنه كان يُغني، أما أبو الطيب فقد كان حكيماً. وحسبه أن ثلاثة أرباع ما يحفظ الناس من أبيات الحكمة هو من شعره. وقد كان بندار ينزع في شعره وفي حياته نزعة لاهوتية، فقد أخذ على عاتقه إحياء سنة السلف الصالح بالغناء للآلهة، وقرض الشعر، ونظم الأناشيد الدينية تسبيحاً بأسمائهم، وله في رها وبان. وأبولو منظومات خالدة. . . ومن هنا منزلته الرفيعة في دلفي، فقد كان كهنة المعبد يحبونه ويعتبرونه قديساً، لأنه أّلف حولهم قلوب العامة، وأعاد للدين بهجته، ولذ خصوه بأرفع منزلة في هيكلهم وأفردوه بغرفة خاصة يحل بها كلما زار دلفي. ونحسب نحن أن هذا هو الذي نفر منه خاصة الأدباء الذين هم قادة الرأي العام. . . والشعب الوثني هو أعرف الناس بآلهته، فلما أغرق بندار في هذه النزعة الدينية انصرف الجمهور عنه إلى سيمونيدز شاعر الحق والحكمة وتمجيد البطولة والأبطال.

وقد انتشرت أشعار بندار انتشاراً واسعاً بلغ مصر، وتغلغل في صحرائها إلى معبد أمون - زيوس في سيوه حيث نقشت أوراده الدينية على جدران المعبد وأعمدته بالذهب الخالص مما أدهش الإسكندر الأكبر وملك عليه لبه. . . لكنه كان إعجاباً طارئاً سرعان ما طغت عليه الذكريات القديمة المؤلمة. . . الذكريات التي لم ينسها اليونانيون لهذا الشاعر الكبير الذي خان وطنه الأكبر (هيلاس) بموقفه المزري في غزوة الفرس الكبرى. . . لقد انضمت بلاده للفرس ضد أثينا، فلم يحتج ولم تثر فيه النخوة الوطنية، بل راح ينظم القصائد في وجوب عقد الصلح. . . هذه صفحة بندار السوداء، الصفحة التي لم تنسخ ظلماتها شموس القصائد الغُر التي نظمها بعد ذلك في تمجيد أثينا وتخليد بطولة أبنائها. وهي قصائد أجود بكثير من كل ما نظم سيمونيدز في هذا المضمار. لكنها قصائد تشبه هدايا عضد الدولة للمتنبي. أغزر من هدايا سيف الدولة وأكثر، لكنها كانت ينقصها الروح!!

ولا نستطيع نحن أن ننقص من قدر أشعار بندار إذا قرأناها ولم نكن ملمين بتاريخه، بل ربما رفعناها إلى أعلى أوج يرتفع إليه شعر قديم أو جديد. . . فأشعاره إلهام رفيع ووحي علوي مما يعز على فحول الشعراء. . . وقد نظم كثيراً غير أوراده الدينية في الرياضة والرياضيين، وقد كانت أولمبيا تستهويه بأبطالها كما كانت دلفى تجذبه بآلهتها. . . وكان بندار يعيش عيشة فنية، فمسكنه كان متحفاً للصور والتماثيل والموسيقى والشعر، وكان مشغوفاً بالجمال ينشده في كل ما تقع عليه عيناه. . . في الطريق. . . في الحديقة. . في الملهى. . . في الماء. . . في السماء. . . في كل شيء

هذه هي الأطوار التي ترقى في مدارجها الشعر اليوناني قبل أن ينهض الدرام نهضته العجيبة الخارقة في القرن الخامس قبل الميلاد، وهؤلاء هم الشعراء المخلدون الذين مهدوا الذهن اليوناني لعصر النور والعرفان. . . عصر بركليس العجيب أما كيف بدأ شعر الدرام، وأما كيف وجد المسرح اليوناني فهذا ما لم يعرفه أحد حتى ولا آرسطو نفسه الذي يعتبر معاصراً لنهضة الأدب المسرحي في أوجه، والذي شهد روائع هذا الأدب تؤديها أقوى الفرق اليونانية في أعظم المسارح التي عرفها التاريخ، والذي أخذ نفسه بالدفاع عن الشعر عامة ونقض نظرية أستاذه أفلاطون في ذم الشعر وامتهان الشعراء

والنظرية الشائعة في ذلك، والتي اتفق على صحتها المؤرخون هي أن الشاعر آريون هو أول من حَوّر الإنشاد الفردي إلى إنشاد يقوم به خورس (فرقة) ويتولى توجيهه رئيس، وأنه هو أول من ابتكر أغاني الدثرامب (أغاني باخوس أو ديونيزوس إله الخمر والمرح والعربدة!) وهي أغان كان يمارسها الشعب على النمط الذي وصفه آريون إبان قطاف العنب

ثم جاء الشاعر ثسبيس (من قرية إيكاريا) فكان يرأس خورساً كبيراً وزع على أفراده أدوار غنائه مستغلا الدثرامب التي وضعها آريون ثم وسع دائرتها بحيث جعلها تشمل أغاني بان إله المراعي، فكان أفراد خورسه يلبسون رؤوساً تنكرية تمثل رؤوس الماعز، ولذلك كان يطلق عليهم لقب (المنشدين العنزيين) ولم يكونوا يمثلون درامات بالمعنى الذي نعرفه اليوم. بل كانوا ينشدون مقامات أشبه بمقامات الحريري والبديع تشمل كل منها حادثة واحدة معينة

ومن لفظة ? اشتقت لفظة تراجيدي للمأساة

ومن لفظة ? أي الأشياء التي تؤدي اشتقت لفظة درامة أي الأداء، وهي ألفاظ كانت شائعة في المحيط الديني في اليونان القديمة ثم أطلقت الدرامة على الرواية المسرحية فيما بعد

هذا وثمة آراء أخرى في أصل نشوء الدرامة، منها أنها نشأت في جزيرة كريت (إقريطش) حيث كان الأهالي يحتفلون كل سنة بإحياء ذكرى مولد سيد الأولمب (زيوس!) فكانوا يمثلون ميلاده ثم زواجه من حيرا كما كانوا يصنعون ذلك في آرجوس وفي ساموس

ثم نهضت أتّيكا - المقاطعة التي كانت حاضرتها أثينا - وعز عليها ألا يكون لها أدبها القومي الخاص فأقلمت الملاحم - كما صنع بيزاستراتوس - وأشعار الغناء، ثم نهضت بأدب الدرام على يدي ثسبيس الأيكاري الذي مثل بنجاح عظيم في سوقها سنة 534، وخُويْريلوس وبراتيناس

ولقد كان الشاعر - وهو رئيس المنشدين - يقوم بأدوار عدة، من دور الملك إلى دور القائد إلى دور الجندي إلى دور الرسول. . . فكان لا بد له من تغيير ملابسه في كل حالة من هذه الأحوال. لذلك أعد له في جانب من جوانب ساحة الرقص (خص) أو خيمة ليبدل فيها ملابسه

وإذا كان الشاعر يقوم بكل هذه الأدوار في المقامة الواحدة فماذا كان يصنع في الأحاديث؟ قالوا إنه كان يستعين بممثل آخر ليكون الطرف الثاني في الحديث، وكانوا يسمون هذا الطرف الثاني ومعناها المجيب، ثم استعملت هذه اللفظة نفسها فيما بعد للممثلين. . . فكانت الفرقة القديمة تتكون عادة من شاعر ومجيبين (اثنين) وثمانية وأربعين راقصاً

وكانت الحكومة هي التي تؤتي الممثلين والراقصين أجورهم كما كانت تنفح الشعراء بجوائزها الثمينة السنية. أما الإخراج فقد كان الأغنياء يتحملون كل نفقاته، وذلك بأن يلجأ الشاعر إلى أحدهم فيعرض عليه أن ينفق على درامته من خالص ماله إلى أن تؤدي في المسرح، فكان المثري يستأجر للشاعر خورساً بأكمله ثم ينفق على الملابس والمناظر حتى يتم الإخراج كله. وكان الأغنياء يتباهون بهذا العمل ويتبارون في مضماره، ولا يبخلون بعزيز أموالهم عليه ولو ذهب بأكثرها، وكل ما كانوا ينشدون من جزاء هو شعور الفخر والزهو الوطني حين تنجح الدرامة التي أنفقوا عليها بعد العرض الأول. ويجب أن نذكر هنا أن جمهور النظارة بل الجمهور الأثيني كله في القرن الخامس قبل الميلاد كان قد أوتي حظاً عظيماً من الثقافة العامة، وكان قد تربى فيه ذوق فني رفيع نمته فيه ديموقراطية هذا العصر التي أكبرت من قيمة الفرد وأشاعت فيه كبرياء الحرية والشعور بالسيادة

وفي ظل هذه الديموقراطية تربى ذوق الأثنيين الفني حتى غدا ذوقاً أرستقراطياً مرهفاً يقدر الفن حق قدره ويزن آياته بالقسطاس المستقيم، فحينما كانت تعرض الدرامات في مسرح أثينا كان الجمهور نفسه هو الذي يصدر حكمه عقب الانتهاء من التمثيل. . . وكان الشعراء يرهبون هذا القاضي الجبار لأنهم كانوا يقدرونه. وكم كان جميلاً من أرسطو فأن في بعض مهازله أن يتملق النظارة ويبالغ في تمليقهم ويطلب إليهم صراحة أن يحكموا له. . . ولنتصور إذن قضاة يبلغ عددهم ثلاثين ألفاً أو يزيدون يصوتون للشاعر أو عليه، وما يكون لحكمهم من أثر عظيم في نفسه في حالتي السخط أو الرضى. . . لقد يكون في هذه الألوف المؤلفة قضاة غير عدول. . . فقد ذكر الأستاذ ج. ك. ستوبارت أن كثيرين من أهل أثينا كانوا ينظرون إلى التحكيم في المباريات الأدبية بحسبان أنها مصدر عظيم من مصادر رزقهم. . . بل كان بعضهم يعدها المصدر الوحيد لهذا الرزق. . . يقصد بذلك أنهم كانوا يبيعون أصواتهم لمن يدفع ثمناً أكثر. . . وهذا عيب تافه من عيوب الديمقراطية شهدنا مثله في معاركنا الانتخابية، لكنه لا ينهض دليلاً على فساد الذوق الفني عند اليونانيين.

لقد كان غشيان المسارح فرضاً قوميّاً على الأثينيين في أعيادهم. وقد أثر عنهم أنهم كانوا يقولون إن من لم يذهب إلى المسرح في العيد لم يكن له عيد. . . وقد كانت الحكومة تنظر إلى المسرح نظرة كريمة عالية. لقد كانت تعد الجامعة العليا التي لا تعلم حروف الهجاء بل التي تطبع الشعب على أسمى صور الفضيلة والإيثار والتضحية فتخلق منه شعباً راقياً طيب الأعراق يتذوق أمور الحياة العليا بإحساس حي ناضج بصير لا بإحساس بهيمي بليد

وكانت كل طبقات الشعب تغشي المسرح الكبير في أثينا، وكان يظن أن النساء كن محجوبات عن شهوده، لكن الأستاذ روي فلكنجر دحض هذا الظن الذي لم يكن إلا حدساً وترجماً، بل زاد فأثبت بأدلة قاطعة أن الأرقاء أنفسهم كانوا يذهبون إلى المسرح للتمتع بالتمثيل، وكانت الحكومة تدفع لهم ثمن تذاكرهم، وكان ثمن التذكرة أوبولين، قطعة من العملة اليونانية القديمة يساوي من عملتنا المصرية أثنى عشر مليما (ثلاثة بنسات إنجليزية أو خمسة سنتات أمريكية) فيكون ثمن التذكرة قرشين ونصف قرش تقريباً أو ما يعادل ثمن التذكرة بالدرجة الثالثة في أي دار من دور السينما عندنا.

وبعد فهذه لمحة خاطفة عن نشوء الدرامة اليونانية تليها لمحات عن المسرح اليوني في عصر بركليس، العصر الزاهر العجيب الذي حفل بأكبر عدد من شعراء الدرام على رأسهم إسخيلوس وسوفوكليس ويورببيدز.

دريني خشبة

-