الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 295/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 295/رسالة النقد

بتاريخ: 27 - 02 - 1939


في سبيل العربية

كتاب البخلاء

للأستاذ محمود مصطفى

- 1 -

من فوق هذا المنبر العالي والمنار القائم للغة الضاد (وهو صحيفة الرسالة الغراء) نرفع صوتنا مرة أخرى في سبيل العربية، وقد كنا تعرضنا تحت هذا العنوان لنقد كتب يصدرها بعض رجال وزارة المعارف المصرية، وتقرها الوزارة لطلابها.

عدنا اليوم لمثل عملنا في العام الماضي، ولكن في طريق شائكة وخطة ملتوية. تلك هي نقدنا للغويين الكبيرين والعالمين الفاضلين: صاحبي العزة أحمد العوامري بك، وعلي الجارم بك المفتشين الأولين للغة العربية بوزارة المعارف، وعضوي المجمع الملكي اللغوي بالديار المصرية

وقد جئنا ننقدهما في عملهما الذي تآزراً عليه وأفرغا جهدهما فيه، فكان لا بد أن يجئ مظهراً لفضلهما وصورة صادقة لهذه الممارسة الطويلة للعربية وآدابها، هذه الممارسة التي كانت منهما في هذا العمر المديد والزمن المتطاول، وكنا ننوي أن نتخذ من أقوالهما وآرائهما حججاً في العربية نضيفها إلى أقوال فحول اللغة السابقين. . . ذلك ما فتحنا صدورنا له واستعددنا لتلقيه حين بدأنا نقرأ تعليقهما على كتاب البخلاء للجاحظ الذي وكلت وزارة المعارف المصرية إليهما أمر إخراجه في صورة واضحة تقرب إلى أهل جيلنا أدب القرن الثالث للهجرة، وتحبب إلى قرائنا الزاهدين في هذا الأدب أن يقبلوا عليه ويستجلوا جماله الفاتن.

توقعنا ذلك من هذين العالمين الفاضلين اللذين جمعا إلى الثقافة العربية ثقافة غربية، ولم يدر بخلدنا إلا أن يكون عملهما في خدمة هذا الكتاب مزجاً حسناً لهاتين الثقافتين وتجلية لهما في ثوب عصري شائق

ولكننا لم نلبث حين نظرنا في الكتاب أن رأينا جهداً نحوياً عنيفاً أغرم فيه المخرج بتعقب الجاحظ، يعربان أدبه الراقي وفكاهاته الظريفة، ويعتديان على ذلك البيان الواضح بقولهما إنّ أنْ هذه مفسرة وتلك مخففة من الثقيلة، والتعليق على (كان) بأنها مرة تامة وأخرى ناقصة إلى غير ذلك من مسائل الإعراب التي زهدت الطلبة في العربية إبان طلبهم للعلم بالمدارس. فإذا بالمخرجين لم يكفيهما إلحاح بعض المدرسين في ذلك على طلابهم حتى زادا الإبالة ضغثاً والكيل طفحاً

وما ندري كيف اجتمع في صدر هذين الرجلين أو صدر أحدهما على التحديد هذا الإلحاح في مسائل الأعراب، مع الرغبة في تيسير قواعد اللغة العربية وقد كان أول مظاهرها عند هؤلاء الميسرين إهمال ذلك الإعراب!

والكتاب إلى ذلك مظهر آخر لهذا الذي يسمونه تطبيقاً على البلاغة فما تزال ترى في تعليقاتهما أن هذا التركيب استعارة وذلك تشبيه أو مجاز بالحذف أو إطناب أو إيجاز، وكأنما ظن المخرجان أن الجملة لا تفهم إلا إذا أعربت، ولا تقدر قيمتها في البيان إلا إذا طبقت عليها علوم البلاغة بوضعها الذي نعرفه. ولسنا نحرم على شراح كتاب ككتاب البخلاء أن تكون منهم إشارة إلى مثل ذلك، ولكن حضرتي المخرجين أسرفا في ذلك حتى صح في نظري أن أعتبر هذا الشرح كراسة تطبيق على النحو والبلاغة. وصرت أعد نفسي حين قراءته طالباً من طلاب الشهادة الثانوية أتزود للامتحان قبله بأيام. وهذا إسراف في حق الأدب أو الأدب الرفيع الذي إن صدق على شيء فأول ما يصدق عليه هو كلام الجاحظ

وليت المخرجين حين فعلا ذلك كانا موفقين إلى الصواب سالكين النهج الجدير بمكانتهما بين أهل العربية في عصرنا! ولكن الذي كان موضع العجب أنهما زلا في كثير من هذه المواضيع التي أرادا أن يدلا بمعرفتهما فيها على جمهور الأدباء ممن يجهلون أو يتجاهلون ذلك.

كان هذا حقاً موضع العجب من أمر رجلين عظيمين قضيا حياة طويلة في نقاش المعلمين، ومحاسبتهم على عباراتهم وإشاراتهم، حتى كان للهمزة توضع في غير موضعها، وحرف الجر ينوب عن غير مشادات ومصاولات، ثم فوز لهذه الاعتبارات الهينة يظهر أثره في التقارير، فإذا هذا المعلم مهمل لأنه لا يعنى بوضع الهمزات مواضعها، وإذا بذاك مجيد لأنه راعى رغبة المفتشين في هذه الدقة وتلك الشدة.

قلنا إن طريقنا في نقد المخرجين كانت شائكة، وإن الخطة كانت ملتوية، وما قصدنا في هذا إلى صعوبة المآخذ وغموض الصواب علينا، فقد والله قيدنا ملاحظاتنا في أثناء قراءة هادئة لم نقصد منها إلا التمتع بأدب الجاحظ واللهو بفكاهته، فإذا المآخذ تنادينا وتقول خذوني!

وإنما شاكت الطريق والتوت الخطة لأننا اضطررنا في سبيل العربية أن ننال من علمين من أعلامها بيننا؛ ولم يكن نيلنا في أمور يحتمل فيها الخطأ، أو يقبل اعتساف الرأي لدقة المسلك أو حلكة الشبهة، بل قد وجدنا هذه المآخذ يشتد العيب فيها على ناشئ في العربية لا يزال يتعثر في ذيول الإعراب والتطبيق، فآلمنا أن نجرح بمثل هذه المآخذ عالمين فاضلين من أفذاذ المصريين فيما نصبا أنفسهما له، وتصديا للرياسة فيه من علوم.

وقد كنا هممنا أن نبوب للقارئ هذه المآخذ فنجمع متشابهاتها تحت عناوين تشملها: فهذا عنوان الأغلاط النحوية، وذاك عنوان المآخذ اللغوية، وذلك باب الفهم النابي أو الترجيح للمرجوح و. . . ولكنا رأينا أن نجعل مآخذنا تساوق صفحات الكتاب، فكلما مررنا بواحدة منها تكلمنا عنها وبينا وجه الصواب فيها

في أول صفحة من الكتاب في تعليل ذكر نوادر البخلاء بين جد وهزل (لأجعل الهزل مستراحاً، والراحة جماماً) وفي التعليق على هذه العبارة يقول الشارحان: الجمام: الراحة

وهذا التفسير ظاهر الخطأ لأنه ينتهي بالجملة إلى أن تكون هكذا: لأجعل الراحة راحة، وهذا غير جائز في حقيقة ولا محاز

ومأتى هذا الخطأ من الشارحين أنهما وجدا في كتب اللغة تفسير الجمام فيما تفسره بالراحة، فارتاحا إلى هذا وفاتهما أن هذه الكتب عينها تفسره أيضاً باجتماع النشاط وتراجع القوة. تفهم ذلك من قول القاموس: جمت البئر تراجع ماؤها، والفرس ترك الضراب فتجمع ماؤه، وترك فلم يركب فعفا من تعبه. . . فهذه العبارات تفيد معانا صراحة وتعفينا من تفسير الماء بالماء كما حصل من حضرتي المخرجين

وفي ص26 مسألة ذات بال سيتعب القارئ من تتبعهما ولكنهما ستنتهي به إلى نتيجة شديدة على الشارحين، فليجعل حكمه على فهمها ووقوفه على مقدار ذوقهما ثمناً لهذا التعب قال الجاحظ (فأما ما سألت من احتجاج الأشحاء ونوادر أحاديث البخلاء فسأوجدك ذلك في قصصهم إن شاء الله تعالى مفرقاً وفي احتجاجهم مجملاً، فهو أجمع لهذا الباب من وصف ما عندي دون ما انتهى إلى من أخبارهم على وجهها وعلى أن الكتاب أيضاً يصير أقصر ويصير العار فيه أقل)

قال الشارحان (فهو الخ: الضمير عائد إلى (ذلك) أي أن احتجاج الأشحاء ونوادر أحاديث البخلاء منبثة في قصصهم مفرقة ومجملة - أجمع لهذا الباب (باب البخل) من وصف الخ والجار والمجرور في قوله من وصف حال من (ذلك) في قوله: فسأوجدك ذلك و (دون ما انتهى) حال من وصف ما عندي. والمعنى سأطلعك على ذلك حال كونه من وصف ما عندي من مشاهدات أحوال البخلاء ونتائج معاشرتي إياهم وسيكون هذا غير ما سأذكره أيضاً مما انتهى إلى من أخبارهم)

تدبر أيها القارئ عبارة الشارحين واعصر ذهنك في ضمائرها وإشاراتها وأحوالها ومتعلقاتها فإن محاولة إفهامك مرادهما شاقة عسيرة إلا إذا اجتمعنا أمام سبورة أكتب لك عليها الجملة بالأحمر والأصفر وأجعل أتنقل بك من ضمير إلى أسم إشارة واصلا هذا بذاك حتى تفهم المراد

ولكن ينبغي أن تعلم أن السر في هذا التعقيد هو عدم اهتدائهما إلى مرجع الضمير في قوله: (فهو أجمع. . .) كذلك اعتبارهما الجار والمجرور (من وصف) متعلقاً بحال من (ذلك). وقد أوقعهما هذا التقدير في مشكل نحوي لم يلتفتا إليه وهو وقوع اسم التفضيل المنكر المجرد من الإضافة، بدون من تالية له جارة للمفضل عليه، كما تقول: محمد أكرم من علي، فيكون (من علي) متعلقاً بأكرم وهذا ملتزم في مثل ذلك التعبير.

أما الذي نقوله في عبارة الجاحظ فهو أن الضمير في قوله (فهو أجمع) يعود على مصدر الفعل (أوجد) والجار والمجرور (من وصف) متعلق باسم التفضيل (أجمع) فيكون المعنى: إن إيرادي لقصصهم واحتجاجاتهم أشمل لهذه النوادر من أن أقتصر على إيراد ما عانيته بنفسي من أحوالهم، مع ترك ما وصل إلي من أخبارهم عن طريق الراوية، إذ أني لو اقتصرت على إيراد ما عانيته وحده ما استطعت أن أذكر شيئاً كثيراً فيقصر الكاتب، كذلك مشاهداتي وحدها لا تمثل شناعة فعل البخلاء كما تمثله الحكايات التي تناقلها الناس عنهم لصحة اتهام الفرد بالكذب أو المبالغة؛ فأما إذا تواترت الأخبار واجتمع عليها جم من الناس فذلك أقوى لها وأشد في تصور شناعتها.

ولا نترك هذا المقام حتى ننقل لك ما علق به الشارحان على قول الجاحظ في نهاية العبارة (وعلى أن الكتاب أيضاً يصير أقصر ويصير العار فيه أقل) قالا حفظهما الله: (وعلى أن الخ. (على) للتعليل هنا، وهو تعليل لاقتصاره على ما عرفه عن البخلاء، وما وصل إليه برواية صحيحة من أخبارهم).

وقد بان لك من كلامنا كيف أن هذه العبارة الأخيرة من الشرح مضطربة إلى أبعد غايات الاضطراب، إذ كيف يقصر الكتاب لو ذكر الجاحظ ما عرفه عن البخلاء وما رواه من أخبارهم! وهل يبقى بعد ذلك شيء يذكر؟!

(للكلام بقايا)

محمود مصطفى

المدرس بكلية اللغة العربية