الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 289/رسالة المرأة

مجلة الرسالة/العدد 289/رسالة المرأة

مجلة الرسالة - العدد 289
رسالة المرأة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 16 - 01 - 1939


المرأة اليونانية القديمة والتعليم العالي

للآنسة زينب الحكيم

التاريخ سجل يطوي فيه أسرار الأجيال. قلبت بين صفحاته عن بعض حالات المرأة اليونانية الغابرة، فوجدت كل معجب مدهش. . .

وفي الحق ليس من المستغرب أبداً أن وجدت سيدات من الدرجة الأولى في المواهب العقلية بين ناس امتازوا بالثقافة العالية كاليونانيين

وسافو الشاعرة اليونانية مثال من الأمثلة الخالدة لهؤلاء السيدات. لقد كانت ذات سطوة قوية على بنات جيلها، وظهر نتائج مجهوداتها الموفقة بين تلميذاتها الكثيرات، واشتركت السيدات برغبة في درس الشعر ونظمه. وشجعهن على الاستزادة من ذلك مناصرة عدد كبير لهن من مشاهير الرجال الغيورين على ترقية المرأة، فاستحسنوا أن تتعلم تعليماً عالياً وساعدوها على المطالبة بذلك بكل ما أوتوا من قوة

من هذا نرى أنه منذ العصور المبكرة نودي بتعليم المرأة وبالمساواة بينها وبين الرجل في اليونان

ففي القرن السابع قبل الميلاد، تشبث كليوبليس - وكان أحد حكماء اليونان السبعة - بأن ينال النساء التمرين العقلي الذي يناله الرجل، وأوضح مبدأه بتعليم ابنته كليوبلين التي صارت شاعرة ذات شهرة واسعة فيما بعد

وبيثجوراس الذي احتفل بإعلان مذهبه الفلسفي في القرن السادس بجنوب إيطاليا، أشار بوضوح إلى ضرورة المساواة بين الجنسين، واخترع خطة لتعليم النساء، كان من شأنها أن جعلتهن منتجات فيما يتصل بتدبير المنزل، كما جعلتهن ممتازات في الثقافة الفلسفية والأدبية

وأشار أفلاطون بضرورة تعليم المرأة على قدم المساواة مع الرجل، وسمح بقبول النساء لسماع المحاضرات الجامعية

وفي أيام الإسكندر شجع تحرير المرأة بشكل قوي، ومن ذلك الحين نرى أن النساء اشتركن في دراسة جميع الفروع العلمية دراسة عملي وفي الإسكندرية خاصة، تعلمت بنات الأساتذة العلماء، تعليمً عالياً، فواصلن دراسة الفلسفة واللغة، وعلم الآثار القديمة، وقد اشتهر منهن كثيرات

وفي الفترة اليونانية الرومانية، نادى بلوتارخ بتعليم النساء، وقد انتشر التعليم بينهن في أيامه إلى حد بعيد محمود

وأسباسيا وضعت (موضعة) تعلم عن البيان والفلسفة، كعمل تظهر به المرأة في المجتمع الأثيني، وأصبح الانتماء إلى جماعة نصيرات التعليم العالي بدعة سارية، حتى أن كثيرات من نساء الطبقات الراقية (الشريفة) شغلن أوقات فراغهن بقراءة الفلسفة والشعر، وحصلن على نوع من التعليم، وإن لم يكن شعبياً؛ فقد كان خوصياً من محاضرين فنيين

ميول النساء في ذلك العهد

ظل الكثيرون يعتقدون أن الشعر كان المجال الطبيعي للمرأة؛ يضاف إلى ذلك الفلسفة في الدرجة الثانية، إذ صارت الفلسفة الحرفة العامة التي أجدن تعلمها حينئذ. ولكن لعله لا يغيب عن ذهن القارئ والقارئة، وصف مدرسة سافو الشاعرة في التي أوى إليها الهيلينيات لدراسة الشعر والفن

إن جمال جزائر لسبوني الطبيعي، وحياة الطبقة الأرستقراطية المترفة، وتوقد ذكاء وحذق سافو نفسها، وحبها الخالص لصديقاتها الفتيات من بنات جيلها، كانت كلها مؤثرات قوية محبوبة فعالة لأهل زمانها

ليس من المستغرب إذن أن اكتسبت النساء حب الشعر وأولعن به، كما طبعن على الجاذبية لكل شيء جميل في الطبيعة في تلك البيئة؛ كما اكتسبن من مخالطتهن لفنانة مطبوعة، ومعلمة ماهرة مثل سافو أعلى الصفات

حتى لقد قيل: إنه وجدت ست وسبعين شاعرة من بين نساء اليونان القديمة، غير أنه لسوء الحظ لم يحتفظ لنا سجل التاريخ إلا بأسماء قليلات منهن، بلغ عددهن تسع شاعرات؛ لقبن بآلهة الشعر الأرضيات

عندما اتسع المجال أكثر أمام المرأة في عهد البطولة مهرت النساء في استعمال النباتات في فنون السحر، وفي تطبيب الجروح. وعندما أصبح الطب علماً، اشتغلت النساء بفنون منه. وظهر اختلاف أمزجتهن واستعداداتهن وميولهن الطبيعية، فمنهن من اشتغلت بالعلوم الطبيعية، وعلم البيان والتاريخ واللغة، وأحبت كثيرات علم النقد، وانتشر بين بنات العلماء

ومن هذا يتضح فساد زعم من ظنوا أن مجال المرأة الطبيعي كان الشعر فحسب. ولعلنا نطمئن إلى هذا الحكم الذي يؤيده علم النفس المقنن في القرن العشرين

بنات الشاعرات

شاعرات اليونان اللائي سبقت الإشارة إليهن وشبيهاتهن، كوّن نهضة مباركة من بناتهن اللاتي ورّثنهن الميول القوية للفنون والآداب؛ فكان منهن الموسيقيات، والمصورات، والشاعرات، والفيلسوفات

والتاريخ وإن لم يدلنا على أنه وجد من بينهن ناحتات للتماثيل أو مكوّنات لها، يذكر الفضل في اختراع هذا الفن إلى فتاة من كرنثيا

والأثر إن صح يروي الآتي: كانت الفتاة كورا ابنة بوتادس على وشك أن تودع حبيبها، وربما كان الوداع الأخير، لأنه كان معتزماً القيام برحلة طويلة. واتفق أن خياله انعكس على الحائط، إذ كان الوقت ليلاً ويضيء المكان مصباح. فخطر للفتاة أن تحتفظ ولو بهذه الذكرى من حبيبها، فرسمت محيط خياله في حياء. فلما رأى والدها ذلك العمل، دفعته غريزته الفنية إلى أن يملأه لها بالصلصال؛ فكون تمثالاً لحبيبها، كان ناجحاً بعد حرقه في النار

المصورات

كانت لالاَّ من نساء مدينة سيزكس من أقد المصورات بالألوان، وكان من أخص صفاتها السرعة في العمل (مثل الملكة فكتوريا)، ومع ذلك لم يُنقص ذلك شيئاً من مزايا نتاجها، واعتبرت أول مصورة في وقتها حذقت الرسم بالألوان وعلى العاج. وكل ما لونته من الرسوم كان صوراً للسيدات

وأخبرنا بليني أنها صورت نفسها في المرآة وهي عجوز، وقد عرضت هذه الصورة في معرض نابلي

وعثر على صورة أخرى لها في بمباي، وتمثل فتاة تجلس على مقعد يقرب من الأرض وتنظر إلى تمثال، وفي يدها اليمنى ريشتها ممتدة إلى صندوق ألوانها وفي يسراها لوح للتصوير. وثيابها منسدلة بأناقة حولها. ويحيط شعرها المتموج رباط لطيف يتدلى حول رقبتها وأكتافها، ويظهر على محياها مسحة تفكير وعلم تضيء أسارير وجهها الرقيق. فإذا صح أن هذه تمثل صورة (لالاّ) فإنها لابد كانت جميلة فاضلة

الفيلسوفات

نبغت كثيرات من بنات اليونان في الفلسفة والحرف العقلية في مدارس بيثجوراس

جاء في الأثر أن تأثير بيثجوراس في كارتون كان عظيماً جداً، حتى أن نساء المدينة أحضرن ملابسهن الثمينة وحليهن من عقود وأساور، إلى هيكل هيرا وأودعنها كمنحة للفضيلة العائلية. وآلين على أنفسهن منذ تلك الساعة أن يكون الحزم والحشمة رائديهن، ولن تكون الثياب الثمينة بعد الآن ما يتحلى به جنسهن، مستعيضات عن ذلك بالعلوم العالية والثقافة.

لعمري لقد كان قسما شريفا ومقصدا ساميا صنعت به المرأة اللبنة الأولى في بناء الإنسانية الحق. وهل من شك في أن العامل الأول في أي نهضة يتوقف على المرأة؟ إذن عليها أن تبادر بوضع بذور كل نهضة لتأخذ بيد الإنسانية مسرعة.

إن آثار النساء اللاتي تشربن مبادئ بيثجوراس تمت عن بسمعة يغبطن عليها في العالم اليوناني كله، حيث كانت نتائج تعاليمه بالنسبة لهن، مبادئ سامية لأخلاق المرأة، وعناية تامة بواجبات الأسرة، والنهوض بوسائل المعيشة الصحيحة في الحياة ولاسيما تربية الأطفال، مما لا يزال بعض آثاره باقياً إلى الآن.

وقد كان شعارهن وهو تعبير يعني الاعتدال والاعتداد بالنفس والحياء، والفضيلة الزوجية، وبالاختصار: كل ما هو جدير بأن تكون عليه المرأة. وفيما يلي مثال مما يشير إليه ما ذكر:

زوج بيثجوراس

النساء اللاتي نشأن على مبادئ بيثجوراس على ما امتزن به من تلك الصفات العالية والقوى الإنسانية التي هيأن بها حياة ناجحة، لم تضارع إحداهن ثيانو ذات العقل الراجح زوج بيثجوراس فلقد مزجت الفضيلة بالحكمة مزجاً متناسقاً، بحيث مثلتها الآثار لها لا كأول امرأة ممتازة فحسب، بل مثلتها كالنموذج الأول لنشأة المرأة الذكية الصحيحة أيضاً

نعرف عن حياة (ثيانو) بعض حوادث أخلاقية فقط، وهذا يجعلنا ننفذ إلى حقيقة أخلاقها. وأهمها الأقوال المأثورة التي قالتها في مناسبات خاصة:

سئلت مرة عما تتمنى أن تتميز به؟ أجابت ببيت من شعر هومر تمثلت به: (اكتراثي بالمغزل، واعتنائي بفراش زواجي)

وسئلت مرة أخرى: ما الذي تسأل عنه الزوجة؟

أجابت: أن تعيش خالصة لزوجها

وسئلت أيضاً: ما هو الحب؟ قالت: الحب هو غرام النفس الوالهة

حدث مرة أنها ألقت ردائها وظهرت ذراعها، فرآها رجل ودهش من جمال تكوينها، فقال: ما أجملها من ذراع! فقالت: ليس لنظرات العامة، وأسرعت بتغطيتها.

وقد استعار هذه الملاحظة بلوتارخ، وغيره من رجال الدين من بينهم كليمنت بالإسكندرية، كما استعارته المؤلفة البيزنطية أنّا وقد كننت ثيانو شاعرة وكاتبة ناثرة، وقد عثر على قليل من أعمالها الفلسفية والدينية يستدل منها على مقدار نمو مواهبها في التعليل، وفي مناقشة مسائل تربية الأطفال، ومعاملة الخدم، وكبت الحسد والعواطف الجامحة، كل ذلك بأسلوب مؤثر حساس لطيف

ولقد كانت أمينة إلى أقصى حد، في نشر مبادئ وتعاليم زوجها كمعلمة وكاتبة، أما موتها وظروفه فغير معروف

هذه صفحة من صفحات المرأة اليونانية الغابرة، فلعمري هل يكون نتاج أختها اليونانية الحديثة، يونانية عصر النور والراديو، والحديد والنار، أشبه بنتاجها أو أرقى منه؟ هذا ما نرجوه

زينب الحكيم