مجلة الرسالة/العدد 289/رسالة الفن
→ رسالة العلم | مجلة الرسالة - العدد 289 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة المرأة ← |
بتاريخ: 16 - 01 - 1939 |
الفن الإسكندري
للدكتور أحمد موسى
لا نقصد بعنوان المقال تحديد الفن بعصر الإسكندر كما لا نقصد تحديده بمدينة الإسكندرية وحدها، وإنما المقصود بالفن الإسكندري أنه الإنتاج الفني في البلاد المصرية منذ تأسيس الإسكندرية سنة 332 ق. م إلى نهاية حكم البطالسة، ذلك الفن الذي عرف أمره وتأثر به فن العالم القديم
وبالنظر إلى قلة ما تبقى من هذا الإنتاج وإلى ضآلة المواد العلمية التي يمكن الاستناد إليها، وإلى ما بين أيدينا من الآثار البطليموسية فإن تاريخ الفن الإسكندري بمعناه الشامل من الموضوعات العسيرة التي تجعل البحث ناقصاً قابلاً للنقص في بعض نواحيه؛ إذا ما ظهر من نتائج الحفر وما قد يعثر عليه من النصوص ما يميط اللثام عن بيانات واستنتاجات تغير ما تقرر حتى الآن
على أنه يمكن القول بأن ما بقي من التماثيل وبعض الآثار يعطي ما يفيد في هذا المجال، ويمهد السبيل إلى معرفة المدى الذي وصل إليه أثر الفن الإسكندري في الفن الإغريقي أو الهيليني
ومما لا يقبل الشك أن مدينة الإسكندرية كعاصمة للبلاد أنشئت وشيدت على نمط رائع من حيث التخطيط العام للمدينة ومن حيث تنظيم شوارعها ومبانيها التي عملت لأول مرة في هذا القطر من الطوب بطريقة هندسية جديدة في نسقها جميلة في مظهرها، ولاسيما أن حوائط المباني كانت مغطاة من الداخل بلوحات من المرمر زخرفت بنقوش من المعدن. وهذا كله نتيجة للرغبة في التمدين والعطش نحو الأبهة
وكان شغف الأمراء من أبناء البطالسة وتقديس الناس للآلهة خير دافع إلى إقامة المعابد الهائلة بحوائطها المزخرفة بالنقوش والكتابات، كما كان سبباً في إحياء فن النحت والتصوير، إلى حد أن كانت بعض التماثيل تعمل من الذهب والعاج في غاية من الدقة والجمال.
وبطبيعة جو الإسكندرية الأقرب إلى الجو الأوربي والخليط الذي كان يعيش في تلك المدينة من البطالسة والمصريين وغيرهما، كذلك وجود الفلاسفة المشتغلين ضمنا بالطب والجراحة فضلاً عما بعثوه في العقول بتعاليمهم التي تحض على النظر والدرس والتأمل إلى جانب مجموعة الكتب العظيمة بالمكتبة الخالد ة - في هذا المحيط وهذه البيئة نشأ الفنان الإسكندري محاطاً بما يوقظ فيه روح العمل والابتكار
ولعل خير مثل لذلك بقايا التماثيل ومنها رأس من البرونز يمثل امرأة مصرية تجلت على ملامحها مصريتها وحيويتها.
وكان للإنتاج الفني غير العمارة والزخرفة والنحت الواقعي اتجاهاً مثلياً رائعاً تراه في تمثال (النيل) المحفوظ بالفاتيكان في روما، والذي وصل منه أنموذج إلى هذه البلاد منذ أعوام. فإذا نظرت إلى صورته رأيت إلى أي مدى استطاع الفنان الوصول إلى ذروة الفن المعاصر لتلك الأيام، فإلى جانبه تتضاءل التماثيل التي عملت للأمراء ولهوميروس، والتي لا يمكن أن توصف إلا بكونها من أحسن ما أخرجه الفنانون
أنظر إلى صورة الإله (النيل) ولاحظ ما بدا على وجهه من عوامل التأمل والتفكير في مصير أولاده الستة عشرة (فروع النيل الكبرى والصغرى) وشاهد كيف يتكئ بكتفه على (أبي الهول) الرابض بجانبه، وقد اختار الفنان (لأولاد النيل) أوضاعاً شتى فظهر كل منهم مخالفاً لغيره، وفي هذا ما فيه من الغنى الفني
كذلك اتجه التصوير اتجاهاً جديداً فخرج من تمثيله لصور الأمراء والعظماء إلى تمثيل الحياة العامة والعادات الاجتماعية فرسمت على الحوائط مناظر صادقة في التعبير عن العصر الذي عملت فيه، وغير ذلك للمناظر الطبيعية كتلك التي صورت لنا أجزاء من المدينة محاطة بالغابات ذات الأشجار العالية، والتي نصبت بينها تماثيل بأوضاع دلت على حسن التنسيق والوصول إلى درجة فائقة في فن تخطيط المدن وهندستها، وهذا الوضع يذكرنا بالحالة التي كان الفن البومبياني (نسبة إلى بومبي) يسير عليها
على أن الفن الإسكندري، أو إن شئت فقل الفن المصري في عهد البطالسة، كان قصير العمر بالقياس إلى الفن المصري في العصور أخرى أو إلى الفنون الأجنبية، فعندما وصل الفن البرجاموني والفن في رودس إلى أوج عظمتهما حوالي منتصف القرن الثاني قبل المسيح، كان الفن الإسكندري سائراً نحو الهبوط؛ فانتقل إلى إيطاليا. وخير برهان على ذلك أنه في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد شيدت في بمبي عمائر على نمط لا يختلف في الجوهر والمجموع الإنشائي عن ذلك الذي بني للمرة الأولى في الإسكندرية، حتى الزخارف التي عملت على حوائط هذه العمائر فإنها شملت ذلك الطابع الإسكندري المميز، والذي يقرر تأثرها بها أفصح تقرير
هذا فضلاً عن أن العارف بتاريخ الفن الدارس لأصوله يذكر جيداً أن المشيدات التي أنشئت في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، سواء أكان ذلك في منطقة كمبانيا أم في روما، وسواء فيما يتجلى على البناء المقدس للآلهة (بانتيون أجريبا) أو بناء مسرح بومبيوس أو قصر نيرون الذهبي كلها تدل على أنه لا مفر من الاعتراف بوجود أثر الفن الإسكندري فيها.
ظهرت بعد هذه المرحلة صور رائعة هي تلك التي رسمت على أغطية توابيت الموتى، والتي قصد بها الاستعاضة عن الأقنعة الذهبية التي كان المصريون الأقدمون يعملونها على الأغطية لتمثيل وجه الميت.
وكان ظهور هذه الصور تدريجياً ونادراً ومرتبطاً بنتائج الحفريات التي عملت في الفيوم منذ سنة 1888 ولكنه على جانب من الكثرة التي تسمح بالدرس والتأريخ.
وقد اخترنا ثلاثاً منها تعطي فكرة صحيحة عن قوة التصوير ودرجة إتقانه، فبالنظر إليها نلاحظ جمال الملامح وحسن التعبير ونبل الإخراج، إلى جانب ما يبدو على الوجه ويشع من العينين من تأثر نفساني عجيب.
وكان تصويرها بالألوان على خشب الجميز أو اللبخ على ما نظن وكذلك على قماش التيل - وكانت توضع على التابوت أو تثبت في غطائه مكان الرأس
وكانت الألوان معدنية مخلوطة بالشمع أو بصفار البيض أو بالغراء وأحياناً بهما معاً، يرسم بها (ماعدا ما كانت بالشمع) على سطح مدهون بالجبس أو الطباشير.
ويتضح من الكتابات التي نقشت على لوحات صغيرة ووضعت مع التوابيت أو في داخلها أو التي كتبت على بطاقات صغيرة من الخشب وثبتت إلى جانب العنق - أن أصحاب هذه الصور كانوا من الإغريق، وبالرغم من هذا فإنه لا يمكننا الارتكان إلى ذلك لمجرد علمنا بأنه حتى لو كان الإغريق قد تعودوا عادات المصريين في طريقة التحنيط والدفن الخ، في القرن الثاني قبل الميلاد، فإنه يبعد كثيراً أن يكون أصحاب هذه الصور من الإغريق لاختلاف ملامحهم ولون شعرهم وتجعده ولون العيون فضلاً عن المجموع التكويني للرأس. وقد تكون هذه الصور بالرغم مما كتب عليها غير معاصرة للبطالسة.
ومهما يكن من شيء فإن عصر الفن الإسكندري مع قصره كان شاملاً لمدينة الإسكندرية بمكتبتها ومنارتها، وشاملاً لآيات من الفن لم يبق منها إلا القليل الذي مع قلته دل دلالة صريحة على أن الفن المصري في تلك المرحلة، وإن كان قد سار في اتجاه يلائم العصر الذي وجد فيه؛ إلا أنه أثر في غيره أكثر مما تأثر هو بالغير.
أحمد موسى