مجلة الرسالة/العدد 287/رسالة العلم
→ في الأقصر | مجلة الرسالة - العدد 287 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 02 - 01 - 1939 |
العالم اليوم
للدكتور محمد محمود غالي
تقدم الرسالة إلى قرائها الدكتور محمد محمود غالي محررها العلمي، وهو يحمل ألقاباً شتى في الطبيعة والرياضة، أهمها دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية بأعلى درجات الشرف من السوربون، وهي أسمى ألقاب الامتياز العلمية التي تمنحها جامعة باريس. وهذه الدرجة لكلية العلوم كالاجريجاسيون لكلية الحقوق؛ والدكتور غالي أول مصري نال هذه الدرجة. وله أبحاث قيمة أنفقت عليها السوربون ومعهد باستور مبالغ طائلة، ولعلنا نعود إلى شرحها في فرصة أخرى. وهو يرسم إلى قرائه في مقال هذا العدد المنهاج الذي سيسير عليه في عرض الحقائق العلمية والتطورات الفكرية. والرسالة وقراؤها يغتبطون كل الاغتباط بانضمام هذه الثروة العلمية العظيمة إلى ثرواتها الأخرى التي تنتجها العقول الجبارة في كل باب
(المحرر)
يا ترى هل نستطيع أن نرجع بخيالنا إلى أول عهود الإنسان لنتصوره في حالته الفطرية وحياته البدائية؟ - إن القردة اليوم لا تحاول في غاباتها أن توقد ناراً، وهي مع ذلك تتناسل وتستنشق الهواء الصافي وتمرح بين الغدران والجداول تطفئ ظمأها، وتختار من صنوف الطعام ما يشبع جوعها، ومع ذلك فإن لنا أن نتصور أننا كنا مخلوقات لا تفوقها في الإدراك ولا تزيد عليها في المعرفة. ومهما رجعنا إلى التاريخ المنقوش على الحجر الصلد أو المسطور على أوراق البردي، فمن البديهي أننا لا نصل إلى تحديد الزمن أو الحالة التي كان عليها هذا الإنسان البعيد، بل نصل إلى تاريخ قريب لا يتجاوز مائة من القرون، فنرى إنساناً قديماً في مداركه عريقاً في معارفه، وأن الطوبة وقد اخترعها أمحوتب مهندس زوسر باني هرم سقارة (إذا كان هو مخترعها حقاً) تدعو للإعجاب. وكيف لا نعجب له حين عرف أن يشيد من اللِّبن أو الحجارة أشكالاً منتظمة وأشكالاً ذات طول وعرض وارتفاع فيها كل هندسة أقليدس؛ أشكالاً استعملها في بناء سقيفة من الطوب أو حجرة تقيه الشمس إذا اشتدت، والبرد إذا قرس، والمطر إذا انه إذا رجعنا بالخيال إلى هذا الحد، ووصلنا بالتفكير في هذا النوع من الإنسان مهما بعد في الزمن، نستطيع أن نعتبر أن اكتشافه للنار واستعماله إياها كان خطوة واسعة في سبيل تغيره وتقدمه ككائن بات يختلف يوماً بعد يوم عن الحيوان؛ فهو إن شابهه في أنه مخلوق له جسم يقاربه وحواس تشبهه، يولد ويعيش ويموت، ولكنه يمتاز عنه بشيء كثير من الروية والاستفادة بتفكره
إذا رجعنا بخيالنا إلى هذا المدى علمنا أن اكتشافه هذا كان خطوة هامة في سبيل المدنية ومقدمة لسلسة من الاكتشافات التي نعتبرها ميراثنا العلمي، هذا الميراث الذي ساعد اختراع المصريين للكتابة على الإفادة منه على ممر السنين، والذي تضخم باختراع الأوروبيين للطباعة حديثاً والصينيين قديماً حتى بلغ العلم من الاتساع والتقدم حداً أصبح من الصعب معه على كائن أن يستوعب ناحية واحدة منه، هذا الميراث العلمي عظيم إلى درجة يبعد معها أن تقضي عليه الحروب بين البشر.
لقد حاولنا في السنين الأخيرة أن نستعرض هذا الميراث العلمي وندرس نواحيه ونقف على ما حدث فيه من تطورات لنعرف مداها ونستخلص المهم فيها ونستنتج من تتبع هذه النواحي شيئاً عن آمالنا في المستقبل، ولعل هناك أمراً واضحاً نتفق عليه وهو الدور الخطير الذي لعبته العلوم الطبيعية في التطور نحو النور والمعرفة؛ فبينما سارت العلوم الزراعية والجيولوجية والطبية والبيولوجية وغيرها بخطوات متزنة معقولة، إذ بالعلوم الطبيعية قد طفرت في نصف القرن الأخير طفرات جديرة بالإعجاب. ولو أن أحد أسلافنا دبت فيه الحياة مرة أخرى فدخل أحد منازلنا فربما لا يبلغ تعجبه من تنسيق حديقة المنزل أو ما به من أثاث كما لا يعجب مثلاً بنوع الفاكهة التي تقدم إليه، بقدر تعجبه من الراديو أو التليفزيون
لأن تميل الزهرة إلى الحمرة أو الخضرة، وأن يكون لها العبير الذي نعرفه أو لا يكون، فلا يخرجها كثيراً عن عهده بها.
ولأن يكون المقعد من الخشب أو معدن الكروم أو من الحجارة أو من المواد الجديدة في الصناعة التي تشبه الزجاج وتفوقه بقابليتها للانحناء والالتواء لا يخرج لنا في النهاية سوى مقعد للجلوس قد لا يفوق مقعد توت عنخ أمون الذي يشعر نفوسنا حين نراه الآن في المتحف المصري بما كان يشعر به النفوس منذ آلاف السنين من التنسيق والجمال والجلال.
أما أن ننتقل من مصابيح النفط والشمع إلى الكهرباء، ومن الخيل والحمير إلى القطار، ومن القطار إلى السيارة - أما أن تعلونا طائرة ونسمع في مصر أُوبرا من فينا وموسيقى من باريس، أما أن نرى قريباً ونحن في القاهرة شقيقاً بالإسكندرية أو بأقاصي الصعيد فإن هذا يدعو إلى الدهشة ويدفع بنا للتأمل
هذه الخطوات وغيرها نتيجة للعلوم الطبيعية التي بدأت في الماضي عهداً مجيداً باكتشاف النار، وفي الحاضر عهداً جديداً باكتشاف تهدم المادة وتحولها إلى طاقة أو إشعاع
وإنما نوهت بهذين الأمرين: اكتشاف النار قديماً، وتهدم المادة وتحول العناصر بعضها إلى بعض حديثاً، لأني أريد أن ألفت النظر إلى أن اكتشاف بكارل في سنة 1896 لخواص الإيرانيوم الإشعاعية، واكتشاف مدام كوري وقرينها بيير كيري في سنة 1898 لخواص الراديوم، يعدان اليوم في التفكير الحديث خطوة لها من الأهمية بالنسبة للإنسان القادم ما لاكتشاف النار للإنسان الأول ومعرفته لاستعمالها.
وعندما يتاح للبشر الانتفاع أكثر مما ينتفع اليوم بالظواهر الجديدة الخاصة بتهدم المادة يتغير استعمالنا للأشياء، فلا يقتصر استعمالنا للخشب أو الحديد على صنع المقاعد أو بناء القناطر بل يتعدى ذلك بكثير، وعندئذ يظل اسما بكارل وكوري على رأس العهد الجديد مثلاً أعلى في أقصى ما وصل إليه الإنسان في المعرفة.
هذه المقدمة تبين للقارئ شيئاً عن اتجاه الكلمات التي تتفضل الرسالة بنشرها لي في هذا العام، فهي ستتناول ناحية العلوم الطبيعية واتصالها بالتفكير والتقدم. وقد وقعت أول الأمر في نوع من الحيرة، بخصوص اختيار الطريق الذي أسلكه لأجتذب عدداً كبيراً من أهل الشرق إلى تتبع هذه الكلمات، عسى أن يجدوا فيها شيئاً من الفائدة والتجديد، وللقيام بهذه المهمة طريقان. أما أن نتكلم عن الاتجاهات العلمية الحديثة التي سيكون لها أثر في أعمال الإنسان، وأعني بها الاتجاهات الطبيعية والفلسفية؛ وإما أن نتكلم عن النتائج الفعلية والعملية التي كانت نتيجة للاتجاهات العلمية الجديدة. ولا شك أنه حسب اختيار إحدى الطريقتين يتغير كلية نوع الأحاديث. ولقد انتهيت إلى ضرورة التحدث في الأمرين معاً، فتراني في الوقت الذي أصبحت النظريات الطبيعية الحديثة تمشي بخطوات سريعة، وتسيطر على شتى العلوم والمعارف، أصور في هذه الكلمات الموجزة أهم هذه الحوادث، وأصف - حسب فهمي - الكون الذي نعيش فيه، وأقدم لمتناول قراء العربية تقريراً عن المهم من الوقائع العلمية الحديثة، مستعرضاً الحقائق الرئيسية في العلوم الطبيعية وما يتصل بها من الانتصارات التي قبلت اليوم أوضاع العلم والمعرفة.
وفي الوقت الذي أطمع فيه أن أستعرض من صورة العالم معالمه الرئيسية أرجو أن يسمح لي بذكر كلمة عن غرضي، وعن الفكرة التي أوحت إلي بهذه المقالات، وعن الخطة التي سأتبعها لكي نتصل معاً بأهم ما يشغل العلماء اليوم.
إن الأبحاث العلمية وما يتم فيها كل يوم لا يمكن أن تكون موضع عناية الناس عامة كما يعني بها العلماء الذين يهبون أوقاتهم للبحث العلمي. فالعالم يعنيه ما يستجد كل يوم من إضافة، إذ أن هذه الإضافة يتوقف عليها توجيه الأعمال التي يرجو الوصول إلى نتائج جديدة فيها. أما الآخرون فإن أوقاتهم مقسمة طول اليوم بين عملهم البعيد جداً عن المسائل العلمية، وبين فترات من الراحة لتجديد نشاطهم في المنزل بين ذويهم أو في الخارج بين إخوانهم. فالطالب في كليته، والمدرس في مدرسته، والعامل بين الدينامو والموتور في مصنعه، والمحامي بين المحكمة ومكتبه، وساعي البريد انتهى من عمله وخلع محفظته والموظف والتاجر والضابط والقاضي وكل أصحاب الأعمال والمهن يصعب عليهم أن يجدوا متسعاً من الوقت لتتبع الحوادث العلمية وما يجد في طياتها من تغييرات.
ماذا يقدم العلم لهؤلاء الذين تمتصهم الأعمال المادية حتى يصبحوا جزءاً منها، والذين لم تواتهم الفرصة للتعود على التفكير العلمي الحديث وتنسم أخباره؟
في كل هؤلاء فكرت وتساءلت: هل نستطيع أن نُعبِّد لهم سبيل الارتياح لهذه العلوم؟ وهل من الممكن أن نشرح نظاماً مثل الذي أصبحت عليه العلوم الطبيعية الحديثة؟ هذه العلوم الغارقة في الرموز الرياضية التي بلغ التوسع والتسلسل فيها مبلغاً أصبح معه تتبعها عسيراً حتى على الأخصائيين؟ هل من السهل تبسيط العلوم الطبيعية التي أصبحت اليوم المفتاح لمعظم التطورات العلمية وما يتصل بها من توجيه جديد لفكر البشر؟ هل من الجائز أن نشرح هذا لإخواننا الشرقيين في سلسلة مقالات بالرسالة فنشترك معاً في أعظم ما وصل إليه الإنسان؟ إني لأرجو أن يكون النجاح حليفي في ذلك؛ وإني لأشعر بشيء من السعادة والحماسة في القيام به.
أولاً: لأنني أميل لهذا النوع من الدراسة الخاصة بالعلوم فمن الطبيعي أن أستطيع أن أحمل فريقاً كبيراً من القراء ليتتبعوها ويميلوا إليها.
ثانياً: إنني سعيد أن أوفر على القارئ عناء كبيراً في مطالعة موضوع بات من أصعب الموضوعات العلمية وباتت رموزه للشخص غير المشتغل بهذه العلوم كالحروف الهيروغليفية لمن لا يعرفها.
ثالثاً: إن تمرين الفكر على مسائل صعبة وتتبع هذا النوع من التبسيط له أثر آخر في تكييف حياة الإنسان وتفكيره في المسائل الأخرى التي لا تتصل بالعلم وتتصل بحياة الفردية.
رابعاً: إنني بذكر بعض التطبيقات العلمية للعلوم الطبيعية قد أفيد الكثير ممن يلجئون لهذه التطبيقات لمنفعتهم الشخصية. خذ مثلاً ما يمكن أن تحدثه العين الكهربائية اليوم من التَّفَنُّن في وسائل الإعلانات التجارية مما لم يُطبق لهذه الأغراض في مصر ولا يعرفه أصحاب المحلات التجارية حتى الآن في الشرق عامة. . .
خامساً: إنني قد أصل إلى حمل بعض المشتغلين بالعلوم القديمة وبالطرق العتيقة على العدول عن طرائقهم؛ مثال ذلك أولئك الذين يضيعون أوقاتهم سدى في طلب تحويل الرصاص إلى ذهب والذين يؤملون مثلاً إيجاد نوع من الحركة الدائمة.
أما غايتي الأساسية فهي الثقافة العامة. غايتي أن أجعل من التفكير في ناحية الفلسفة الطبيعية تأثيراً في حياة الناس الخاصة، أجعلك تقف على علوم أنت لا تعرفها وليس من السهل بمفردك أن تعرفها، ولا تكفيك السنون الطويلة الباقية من العمر لتستوعبها، أجعلك تتعلق بمسائل غريبة عنك فلا تجدها صعبة عليك كما تجدها اليوم؛ أوفر عليك الوقت في أمور أصبحت أهم أمور العالم العلمي فأصبحت بهذا لازمة لك؛ أزيد في ثقافتك وذهنك وقدرتك على فهم العالم الذي يحيط بك.
محمد محمود غالي
(الرسالة) جاء مقال الدكتور الأول في ست صفحات فاضطررنا إلى تأجيل نصفه إلى العدد القادم