مجلة الرسالة/العدد 287/رسالة الفن
→ رسالة العلم | مجلة الرسالة - العدد 287 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة المرأة ← |
بتاريخ: 02 - 01 - 1939 |
تاريخ الفن
للدكتور أحمد موسى
- 1 -
لم يقتصر مجهود الجامعات والعلماء على تسجيل الحضارات عن طريق كتب التاريخ القديمة والحديثة بل وجدوا أنه لا بد لهم من الاستعانة بالإنتاج الفني في مختلف العصور، إذ أنه المرآة الصادقة التي بها يمكن الوصول إلى نتائج حاسمة في تاريخ الحضارات والمدنيات.
ولذلك كانت مهمة تاريخ الفن هي الاستعراض العلمي لتطوره على أساس التاريخ العام مع مراعاة أصول علوم أخرى أهمها علم الآثار وعلم قراءة المخطوطات والنقوش القديمة وفن الدراهم والمسكوكات وعلم وصف التماثيل والأيقونات القديمة وفن علامات وإشارات الأنساب القديمة وغير ذلك مما لا يسند فقط إلى السرد أو التاريخ الذي قد يكون متحيزاً أحياناً إلى مبادئ معينة أو غايات مقصودة حيث تدعو الحاجة إلى صبغه بصبغة قومية أو سياسية بذاتها، مما لا يفطن إليه إلا العارف الباحث في أصوله.
وإذا كان المسلك العلمي في التاريخ العام هو تقسيمه إلى قديم ومتوسط وحديث؛ فإن تأريخ الفن يرجع إلى نفس القاعدة رجوعاً كاملاً، لما لها من فائدة التبسيط وإيجاد الرابطة بين التاريخ العام وتاريخ الفن.
ويتناول تاريخ الفن القديم استعراض فن البناء (العمارة) وفن التمثيل (النحت) وفن الصناعات الدقيقة (الحلي وأدوات الزينة الرفيعة) استعراضاً يرجع في أساسه إلى التقسيم الجغرافي فيأخذ فن كل قطر على حدة ويتبع في ذلك أقدمية الحضارة. وعليه فأول الفنون جميعاً الفن المصري ويليه البابلي الآشوري والفارسي والهندي والصيني. هذا في الشرق الأدنى والأقصى. ثم يأتي بعد ذلك الفن الإغريقي الهائل ثم الفن الأتروسكي والفن الروماني والفن الإسكندري.
أما تاريخ الفن المتوسط فيتناول الفن المسيحي القديم والفن البيزنطي الذي كان له أث ملحوظ في كل البلاد الأوربية المتمدينة التي وجد فيها أثر للفن الروماني والقوطي.
هذا إلى جانب ناحية هامة في تاريخ الفن المتوسط وهي ناحية الفن الإسلامي الذي ظهر في أقطار متباينة وكان ولا يزال محافظاً على طابعه المميز.
أما تاريخ الفن الحديث فهو كثير التشعب صعب التقسيم لتقارب الشعوب واتصالها الذي ترتب عليه انتقال الثقافة من أمة إلى أخرى وتأثير مدنية في غيرها، ولا سيما في الفن الألماني في عهد النهضة من أوله إلى آخره (القرن الرابع عشر (إيطاليا) والخامس عشر والسادس عشر) وما كان للفن في تلك المرحلة من طرز مختلفة الوضع متشابهة الروح كما أن انقسام الفن إلى باروك وإلى روكوك كان له أثره الهام في الفن الحديث.
والإنتاج الفني بعدئذ هو ما يمكن تسميته بالفن المعاصر أو إن شئت فقل هو الفن الذي أدى إلى ما نلمسه الآن من الفنون المعاصرة، سواء ما كان منها مدرسياً أو سائراً على الأسس المدرسية، وسواء ما كان منها متجهاً إلى ما يسمونه الفن الرمزي والفن الوصفي والطابعي والاقتباسي.
وكان التقسيم المتبع في الفن الفرنسي والفن الإنجليزي هو أن ينظر إليهما تبعاً للمراحل التي مرا بها، ومميزات كل مرحلة منذ القرن السادس عشر؛ ولا سيما أن هذه المراحل كانت تسمى بأسماء الملوك والحاكمين، وهذه ظاهرة اختص بها هذان الفنان دون غيرهما.
وإلى جانب هذه الفنون الحديثة فنون شرقية حديثة أيضاً سارت في طريقها بعض الشيء وتطورت تطوراً مخالفاً لسابق فنونها، ولكنها مع هذا ظلت محافظة على طابعها الشرقي المميز. هذه الفنون هي الفن الهندي والفن الياباني والفن الصيني، التي لم يكن المؤرخ الفني يُعنى بدراستها دراسة علمية إلا في العصر الحالي.
أما مهمة تأريخ الفن نحو هذه الفنون جميعاُ فهي تكاد تكون نفس الدراسة المرتكزة على قواعد مشابهة لتلك التي اتبعت في تأريخ الأدب في العصر الأخير. وبذلك أصبح التأريخ الفني والنقد الفني والتسجيل الفني علوماً قائمة بذاتها لها أصولها وقواعدها.
ولتأريخ الفن قصته ككل علم آخر. فقد شملت كتب القدماء ما يهم المؤرخ الفني إلى حد كبير، فكتاب التأريخ الطبيعي لبلينيوس وكتاب الرحلة لبوزانياس اشتملا على بيانات وإيضاحات كثيرة وأوصاف مسهبة عن الفن في العصر القديم، ولكنها كانت أقرب إلى مجرد الرد مع اشتمالها على أسماء الفنانين ووصف ما تم عمله على أيديهم دون نقد فني أو دراسة ذات غاية، كما خلت من بيان شاف لتطور الفن في أية مدرسة أو مرحلة زمنية معينة.
ولوحظ أن هذا المسلك في التأليف كان الغالب أيضاً في العصر المتوسط، فكل ما كتب في شأن الفن وتأريخه لم يخرج عن وصف عام للمباني الرائعة وما استنفده في تشييدها من مجهود.
أما التأريخ الفني بمعناه الحديث فلم يكن ميسوراً لأولئك ولا لهؤلاء بحال. ومنذ ذلك الحين بدأت الجهود الفردية تظهر في الأفق رويداً رويداً، ولا سيما بعد ما التفت المسافرون الراغبون في المشاهدة والمعرفة، وكذلك غيرهم ممن اشتغل بدرس اللغات القديمة، إلى وجوب معرفة آثار الأقدمين والغاية من إقامتها وما تدل عليه وعلاقتها بالحضارة، واتخاذها وسائل قيمة للتدليل على اتجاه معين في الدرس والفحص.
هنا بدأ تأريخ الفن في الظهور والتطور العلمي. وكان أول أثر لذلك هو إيضاح ما كتبه الأقدمون وما تدل عليه كتابتهم عن الآثار التي لم يكن الكثير منها موجوداً حيث كان القدم والإهمال وعدم الرعاية والتغيرات الجوية والمدنية قد طغى كل هذا على معظمها فكانت أثراً بعد عين.
فاشتغل فريق من علماء تاريخ الفن بتفسير ما كتبه فيتروفيوس على حين اشتغل فريق آخر بنبش القديم وتفسير الكتابات والنقوش التي وجدت على كثير من الآثار.
هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى فقد قام فريق آخر بمعاينة آثار روما وبعمل رسومات هندسية ومساحية دقيقة عنها.
ومهما يكن نوع هذه المجهودات والكيفية التي سار عليها أصحابها، فإنه لا يمكننا أن نرجع المحاولات الصائبة في مضمار تأريخ الفن إلى أبعد من القرن السادس عشر. ولعل أول من نعتبره في مرتبة مؤرخي الفن هو فاساري بكتابه القيم الشامل لتراجم هامة لرجال الفن في إيطاليا ,
وجاء بعده كارل فان ماندر بكتابه المدهش (المشاهدات) المطبوع في هارلم سنة 1604 وفي أمستردام سنة 1618، وكان أقل أثر يذكر له الدعاية للفن ولتاريخه ولتعريف الراغبين بعض الشيء عنه.
وجاء هولندي آخر هو آرنولد هوبراكن بكتابه (الواصف الكبير) في ثلاثة أجزاء، طبعت في أمستردام أيضاً سنة 1728، والتي كانت أساس دراسة الفن في هولندا كلها.
أما في ألمانيا فقد ألف المؤرخ يواخيم فون ساندرت كتابه الباهر (أكاديمية العمارة والنحت والتصوير) المطبوع في لومبرج سنة 1675 - 1679 للمرة الأولى، والذي كتب عنه كل المشتغلين بالفن من معاصريه كتابة ذات صفة علمية.
على أنه من الضروري أن نقول بأن الاشتغال بالتأريخ الفني كان خلال القرن السابع عشر قاصراً في الغالب على دراسة الفن القديم. هذا إلى جانب وجوب التنويه بأن بعض المشتغلين بتأريخ الفن وجهوا اهتمامهم إلى ناحية الفنون الصغرى الدقيقة كأشغال المعادن وما إليها من أدوات التحلية؛ وقد ظهر في هذا المجال كتاب قيم لبرناردي مونفاكو، وهو مكون من خمسة عشر جزءاً طبع في باريس سنة 1719 - 1724 ' طبعاً رائعاً وشمل الكثير من الصور الجيدة، ومن دون نزاع أول مؤلف أوضح في جلاء كل المخلفات في العصر القديم، والتي كانت ظاهرة للعيان في تلك الأيام.
وكان الفضل في انتشار هذا المؤلف ورواجه راجعاً إلى كتاب آخر ألفه النبيل كالوس وفيه أشاد بذكر هذا المؤلف في كتابه ' (سبعة أجزاء طبع باريس 1752 - 1767).
وظل الحال في ألمانيا على ما هو عليه منذ ساندرت إلى القرن الثامن عشر عندما أخرج يوهان فردرش كرست وزميله جينزر مؤلفهما العلمي عن الفن القديم. هنا انضم إليهما أهل العلم والفضل من مدينة درسدن الذين كانوا عاكفين على كتب الفرنسيين لأنها كانت الكتب التي يمكن الرجوع إليها في ذلك الحين لعدم وجود غيرها.
له بقية
أحمد موسى