مجلة الرسالة/العدد 287/في الأقصر
→ من الأدب الإنجليزي | مجلة الرسالة - العدد 287 في الأقصر [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 02 - 01 - 1939 |
للآنسة الفاضلة (الزهرة)
لا أظنني أسترسل في عزّة تأخذني بالباطل إذا قلت: إن الأقصر يجب أن تعد بحق في طليعة المشاتي العالمية العظمى، فسماؤها دائمة الزرقة، وشمسها الساطعة التي تضفي على الأجسام أبراد الصحة والحياة، ونسماتها المنعشة المحيية، وزروعها الخضراء التي لا يكفي الخريف نضرتها بصفرته الذابلة، ونيلها السعيد المنساب في أحشائها يوزع عليها هدايا الخصب والبركة، وواديها الحافل بمقابر الملوك والملكات والأمراء والنبلاء، ومقابرها التذكارية التي تجلي الإنسانية في مثلها العليا ومبادئها السامية، وأطلال هياكلها الأثرية، بل قصورها الخالدة التي تقوم إلى اليوم وسط مبانيها الفخمة والمتواضعة، وتتيح لها اتخاذ اسمها الحاضر الأقصر (القصور) - كل هذا أو بعض هذا يجعلها محط رجال أهل الفضل والثقافة والنبل، يسعون إليها من مختلف الأقطار على أخفّ من جناح الطير. ولقد تسنى لي في الأسبوع الماضي أن أتعرف إلى نخبة من هؤلاء الأعلام، وأن أضع جانباً من وقتي واهتمامي بين يدي فتاة غريبة نابهة تعنى بدراسة أحوال هذه البلاد وتتغنى بأمجاد تاريخها وبدائعها. . . على أن أروع الصور وأوقعها في النفوس لا تكاد تستغني في استتمام جلالها عن الظلال القاتمة والألوان الغدافية، التي تمسّ أوتار الألم المتنبهة أبداً فينا، فقد عرض لي أثناء تجوالي مع هذه الرفيقة الفضلى ما ضاقت له نفسي، من شؤون دعتني إلى تحريك قلمي اليوم للفت نظر من بيدهم الأمر رجاء معالجتها استكمالاً لأسباب المجد الجدير بهذا المشتى عرض الأثري الخالد كيلا يشيح عنه قاصدوه، ويروا أن ما عانوه في سبيل الوصول إليه كان ضرباً من العبث المبين والجهد المستطير، وتنزيهاً لنا عن الانحطاط الذي رسختْ نسبته إلينا في أذهان أهل الغرب ولا يصح أن نبقى فيه متورطين، ولا سيما بعد أن أبدتْ صاحبتي إعجابها بمظاهرنا كلها التي تشهد بأننا قوم غمسنا في الترف، وحظينا بالنعم، ونهجنا الصراط السوي في التضامن والتكافل والكرم، بفضل ما تدره علينا بلادنا الخصبة. وقد سألتني يوماً عن أحياء الرعاع عندنا: هل فيها من مظاهر العوز ما تطير لمرآه القلوب، ويرسل في نواحي النفس جميعها لدغاً مؤلماً مسرفاً في الإيلام؛ فلم أخفِ عنها أن بالأقصر أحياء فقيرة كغيرها من بلاد الله؛ وإن كنت قد ذكرت لها أنه تخلو من جماعات أهلية وحكومية، تنظم الخير، وترعى المعوزين، وتعلم صغارهم تعليماً إلزامياً وصناعياً بالمجان؛ وذكرت لها في غير تبجح، أن قلوب أهل هذه الربوع الوادعة لا تزال محتفظة بغرارة الفطرة السمحة المتآخية هي منازل للرحمة ومواطن للسخاء. ثم سألتني عن التسول وعما إذا كان مباحاً، فَوجْمتُ وقد أسرع إلينا أصحاب الأجسام المشوهة، والعيون الذابلة القذرة، والثياب الرثة المهلهلة. وأشهد الحق أني ما كدت أراهم حتى ذبت خجلاً، إذ كانت العربة قد وقفت بنا في تلك اللحظة أمام معبد الأقصر الأزليّ، القائم على شاطئ النيل في أجمل أحياء المدينة وأغناها؛ وغضضت بصري وخشيت أن أرفعه نحو صاحبتي وهي لا ترى تجاه العظمة الماثلة أمام أعيننا، سوى تلك الأيدي الممتدة بذل السؤال لتنقض ما شاهده القوم من مكرمات. ولو كنتُ من أرباب السيادة والسلطان لاتخذتُ كل الطرق كل الطرق الفعالة للقضاء على التكفف، ولكن قلة عدتي تضيق على دائرة نفوذي، وإن كانت لا تمنعني التوجه إلى أولي الشأن بإلحاحي أن تعزز القوات لمعاونة أولئك الشحاذين المساكين، فإنا لو ذكرنا أن رقيّ المجموع إنما يحسب بقدر تعدد مطالب الفرد، لرأينا أننا أبعد الأمم عن الرقي الصحيح. ولا ينتشر التسول في محيط إلا كان دليلاً على أثرة الأقوياء الأثرياء، ومقياساً لخسة مطالب الفقراء التي لا تتعدى ما تجدّ العجماوات في طلابه لسدّ الرمَق. وإنها لإحدى الكبر أن يسجل أهل بلدي العطوفون الأسخياء على ذواتهم ما تستتبعه غفلة إهمالهم، وهذه طلائعه تظهر في الجهة الواحدة بؤساً وفناء وتقلصاً وتهديماً، وفي الجهة الأخرى نمواً وازدهاراً وانبساطاً في رحاب النعم، فلا يَكْمل سناء هذا إلا باستكمال تضاؤل تلك
ثراء وبؤس كيف يلتقيان؟ ... مقيلاهما في القلب مختلفان
فليسمحوا لي أن أنبههم إلى تدارك هذا الأمر الخطير، وليعلموا أني بإلحاحي في وجوب السهر على منع الشحاذين من الانتشار في أحياء المدينة لا أبغي أن يحرموا عطفاً يخولهم إياه بؤسهم. وبأي حق يحرمونه والأزمة عضود، والأيام جديبة، وأولئك المفلوكون أحوج للعون وأجدر بالمساعدة؟ ولكني أرجو أن يتوسلوا إلى ذلك برشاد الرأي واستخدامه لوضع كل شيء في موضعه. وليعلموا أن خير وجوه الإحسان زيادة البذل من المال في سبيل تخفيف الألم العام وتنمية روح الحق والصلاح والتهذيب، وتوجيه النفوس إلى حياة العزة والكرامة، فلا تعيش للكسل والخمول اتكالاً على كرم المحسنين
هذا ولا بدَّ لي هنا من الإشارة إلى ما حدث في اليوم التالي حين رافقت صاحبتي إلى (وادي الملوك) فقد تجمهر حولنا صغار السائلين المعتفين وتتبعوا خطواتنا، وكادوا يلزموننا أن نعطيهم شيئاً من النقود. ولعمر الحق أن دموعي تنهمر غزيرة إذ أذكر أولئك الأطفال المحرومين متاع الطفولة المقيمين في منازل الشقاء حيث تقيم الحاجة بجانب الجهل، ويقطن الذل في جوار القنوط، الذين يعيشون على الجانب الأيسر من النيل، في تلك الأكواخ الحقيرة، المنثورة حول مدافن الملوك الغر الميامين، كجراح عميقة في جسم كياننا الاقتصادي والعمراني، ويموتون مهملين. لهف قلبي على تلك الزهرات الأنيسة التي تذبل في ظلام الحاجة والجوع والإهمال! ونحن نمرُّ بها على الجانب الأيمن، الجانب المعمور بمدارسه دون أن نعيرهم التفاتاً. ومَنْ ذا الذي يستطيع يَسْتطيع أن يدرك كنه القوى الكامنة فيهم، التي لا تدركها النجدة والثقافة لتبرزها إلى الوجود عظمة ومجداً وفضلاً ونبلاً
إن أيديهم التي تبسط اليوم في ذل السؤال، ستبسط في الغد للسطو والنهب، إذا لم يسعفها التهذيب الصحيح، ويجعلها أمينة للغد، نشيطة عاملة لرقي البلاد. ولقد جابهتني صاحبتي ببؤس هؤلاء الصغار، وتدفقت في الدفاع عن حقوقهم، ودهشت كيف تتقاعد الحكومة عن رعايتهم اللازمة، وقالت: إن الأطفال في جميع بلاد الله يقطعون مرحلة التعليم الأولى مجاناً، ولو ذهبت تلك البلاد في أحضان العزلة والريف. وإني وإن كنت أضم صوتي إلى صوتها في وضع احتياج أولئك الصغار أمام من بيدهم الأمر، لا أقصد رجال الحكومة فقط. ومن السفه أن نوجه نظرنا إلى الحكومة في كل شيء، ونطلب منها أن تخلق خلقاً جديداً. وليس من شأن الحكومات أن تفسح للناس القادرين سبل العمل، فيسعون بكل وسيلة صحيحة لرفع الصغار الفقراء، إلى مستوى يتعاضد فيه الجميع ويتناشدون، متعاونين على حب الحياة، ومراعاة المنفعة العامة.
بقي أني لا أستطيع أن أختم كلمتي اليوم قبل أن أضمنها أمرين تفزعت لهما صاحبتي. أولهما الصياح الذي اختص به باعة التحف الحديثة التي يصوغونها على طراز العاديات الأثرية، وإلحاحهم في عرضها علينا، وإمعانهم في إظهار ما كانوا يظنونه في أنفسهم من المقدرة على أن يبتزوا منا ثمنها. . .
أما الأمر الثاني فالقسوة التي يبديها بعض حوذية المركبات في إعنات خيلهم وإنهيالهم عليها بسياطهم، حتى لقد حسبت أن بلدنا ينقصها فرع لجمعية الرفق بالحيوان، وسألتني إن كانت الحكومة تشرف على أعمال هذه الجمعية، فأجبتها بالإيجاب، ودللتها على المكان الذي تدار فيه شؤونها، وعلى مناهل الماء التي أعدتها لتخفيف وطأة الظمأ على السائمة وتكليف رجال البوليس بحمايتها من القساة الذين لا يكثر وجودهم بين الزارعين المرابعين المشهورين بعطفهم على ماشيتهم، وتعلقهم بها تعلق الوالد بأولاده المحبوبين.
فسرى عنها وقالت وفي عينيها بريق اللجاجة والحنان: (ولكن رجائي إليك أن تحمسي رجال البوليس للتشديد على الحوذية الذين يضربون خيولهم العزيزة المسكينة بغير مسوغ).
وإني لعلى ثقة بأن الخير الذي وعدتها به ستحققه همة أولي الشأن من الحازمين.
الزهرة