الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 282/من رحلة الشتاء

مجلة الرسالة/العدد 282/من رحلة الشتاء

بتاريخ: 28 - 11 - 1938


في مضارب عجيل الياور

شيخ مشايخ شمر

للآنسة زينب الحكيم

تركت بغداد في مساء الاثنين 14 من مارس سنة 1938 مستقلة القطار إلى كركوك والساعة التاسعة مساء، فوصلتها في الساعة السابعة من صباح اليوم التالي، ذلك لأن المسافة من بغداد إلى كركوك زهاء 326 كيلو متراً، وخط سكة الحديد هذه يمتد على ضفة نهر ديالة اليمنى ثم اليسرى، وعرضه متر واحد، ولا تتجاوز سرعة القطار عليه 25 كيلو متراً في الساعة. لأنه بنى على أسس واهية، كالجسور الخشبية والقواعد الترابية. ولأن الأدوات التي استعملت في إنشاء السكك الحديدية هناك لم تغير منذ ذلك الوقت، فقد بليت.

وإدارة سكة الحديد هي التي تقوم برعاية هذه السكك في العراق، ولولا العناية التي تبذلها لكان سير القطر من أخطر الأمور؛ ولأصبح السفر من جهات العراق النائية إلى بعضها عسيراً.

من كركوك أخذت سيارة إلى الموصل، فقطعت 160 كيلو متراً في جادات ولو أنها معبدة إلا أن المطر الغزير قد أتلف أجزاء كبيرة منها، فكاد السير عليها يكون مستحيلاً.

بعد أن قضيت بضعة أيام في الموصل رأيت فيها معالمها التاريخية، والإنشائية، وجزءاً كبيراً من أطرافها (كبلدة تلكيف، والشيخ عدي، والعمادية وغيرها)، وبعد أن فرجني على بساتينها الغناء، ومبانيها الجديدة المشيدة، وشوارعها المرصوفة الواسعة، السيد خير الدين بك العمري رئيس بلدية الموصل، أخذت السيارة منها إلى معاقل قبائل شمر العتيدة.

كنت قد أرسلت خبراً للشيخ عجيلي الياور برغبتي في زيارتي معاقله، فلما بلغني خبر ترحيبه واستعداده لإرسال سيارة من سياراته الخاصة الفخمة تحملني من الموصل إلى خيامه، شكرت له ترحيبه، واعتذرت من قبول الذهاب في سيارته، لأن سيارتي كانت حاضرة. فقبل العذر عن هذه، ولكنه حتم أن يستقبلني رجاله في مناطق معينة من الطريق، وأن يصطحبنا دليل منهم إلى الخيام، خشية أن نضل.

قمنا بالسيارة صبيحة يوم الثلاثاء 22 من مارس 1938 من الموصل ووجهتنا (تل أعفر) - وتل أعفر هذه قرية في وسط الطريق الذي طوله خمسون ومائة كيلو متر بين الموصل ومضارب قبائل شمر بالشلقاط.

تقع هذه القرية على نهر دجلة الذي رأيت النساء يغسلن الأواني والثياب على ضفتيه، وأدهشتني طريقة غسل النسوة للملابس، إذ تمسك كل امرأة مطرقة خشبية لدق الثياب.

ولست أفهم الصلة بين إزالة الأوساخ من الثياب وبين دقها بذاك المضرب الخشبي وهي موضوعة على صخرة سوى تمزيقها، ما لم يكن لديهن سر لا نفهمه!!

في تل أعفر أبى مستقبلونا من رجال الشيخ عجيل الياور إلا أن نشرب الشاي فأجلسونا في شيخانة (مشرب الشاي) بسيطة، أحسن الموجود في القرية، وغير مزدحمة بالناس. بعد دقائق قدم لنا الشاي الأسود في كوبات صغيرة، وكان طعمه مثل الماء المذاب فيه (الشبة) الثقيلة جداً

ثم واصلنا المسير، ومعنا دليل الشيخ. أما عن رداءة الطريق فحدث ولا حرج، المطر المنهمر يكاد يغرق السيارة بمن فيها، أما العشب الأخضر النضر على جانبي الطريق، والأزهار البديعة الألوان، المختلفة الأنواع، فتسبح كلها في لجج متموجة. وظهر الجو كأنما خيم عليه ضباب متكلم، إذ يسمع تساقط المطر ولا ترى وحداته لغزارته وسرعته

منظر من مناظر الطبيعة العظيمة الهائلة، فضاء في فضاء لا يحجب النظر فيه إلا الأفق، ويجري الإنسان فيه بقوة العلم والاختراع. فلا ماء المطر على غزارته بمستطيع إطفاء نار السيارة، ولا السيارة تكل عن مسابقة العواصف والمطر، ولا إرادة الإنسان بمستضعفة حتى تبلغ المرمى

الطبيعة عاصفة ثائرة. والإنسان جبار لا ينثني عزمه متى عزم

هانحن أولاء نترك الطريق الطيني المبلل بعد أن سرنا عليه ساعات، ويشير الدليل بالسير على مروج خضراء غارقة في الماء، وبدأ الخفاق يدق بقوة وسرعة، فالعشب مرتفع، ولا يؤمن معه العثار، ولكن من ذا الذي يجرؤ أن يزيد من مخاوف السائق الكردي التعب، الذي هدته وعورة الطريق ورداءة الجو؟!

سيري على بركة الله أيتها الجارية، وأي بركة تحدث لها، إذا كان عليها أن تصطدم فجأة بسيل جارف كون نهراً عالياً؟! إن للبادية لمخاطر ومفارقات، وإن لرجل البادية لنظرا

أشار الدليل على السائق بتحويل اتجاهه، وبشق الأنفس خرجنا من المأزق سالمين

هاهي ذي النفس تنتعش، والصدر ينشرح، فقد ظهرت بعض بيوت الشعر، وفي مقدمتها الخيام البيضاء - خيام العلم والنور، والكرم والضيافة - التابعة لشيخ المشايخ

وهاهي ذي عيون البدو ترمقنا من بعيد، وسيارة الشيخ تسرع في استقبالنا، ونصل إلى المضارب أخيراً، فيزيل عناءنا بشر الشيخ وسجاياه العربية البدوية الكريمة: أهلاً ومرحباً، هاهو ذا المطر قد كف، والسماء بدأت تتكشف، والعاصفة أخذت تهدأ. إن في مقدمكم الخير بنزول الغيث فما أكرمه من مقدم. فسلمنا عليه وجلسنا خارج الخيام، على مقاعد من قماش ذات مسندين وظهر من الخشب (مثل ما نستعمله على ظهر الباخرة أو في الحديقة) فقلت في نفسي: غريب هذا في هذه البيئة! وما أسمع إلا والشيخ صفوك بن الشيخ عجيل الياور وولي عهد ملك البادية يقول: -

(مرحباً بكم. إننا سعداء جداً برؤيتكم هنا)

قال ذلك في نطق صحيح ولهجة إنجليزية أمريكية. فذهلت! شيخ بدوي قح، يرتدي الملابس البدوية والعقال، وبينه وبين الحضر أميال وأميال، أو إن شئت فقل بينه وبين العالم والحياة أجيال، يكون هو هذا المتكلم المداعب في لباقة ولياقة!؟ يا ما في الدنيا عجايب!

وقلت: إنها مفاجأة ظريفة من رجل الصحراء، فاستدرك مسرعاً وقال: بل من رجل البادية

قلت: وما الفرق بين الصحراء والبادية أيها المعلم اليقظ؟

قال: إن الصحراء مجدبة ورمالها أخشن وتراكمها أسمك. أما الأرض هنا (أي بين النهرين دجلة والفرات - موزوبيتميا فمن أخصب بقاع العالم

حقاً لقد رأيتها كلها مغطاة بالعشب المترعرع بقوة، ونبات القمح والشعير حسن النماء، وشجر الزيتون مورق مورف. . انصرفت إلى تفكيري الخاص برهة، أعلل سبب تحول هذه الصحراء إلى بادية ممرعة. وأسعفتني معلوماتي الجغرافية، فتبينت أنه الرافدان بما امتازا به من روافد طميية سميكة إبان الفيضان، ولعدم تنظيم تصريف مياههما لقلة مشاريع الري، تفيض هذه المياه المتدفقة عاماً بعد عام على المساحات الشاسعة جداً فيما بين النهرين وعلى جوانبهما الأخرى. فتتشبع الأرض سنوياً بالمياه ويمتزج رملها بالطمى، فأصبحت بقاعاً من أخصب واصلح البقاع الزراعية في العالم

ولذلك لون التربة أغبر بين الصفرة والحمرة والسمرة، فلونها مخالف لما نراه في صحراء ليبيا أو قرب غزة والعريش مثلاً

هذا تصحيح من رجل البادية عرفه بالتجربة العملية وليس من الكتب، ورجل البادية ولو أنه محدود التفكير إلى حد كبير لبيئته وظروفه، إلا أنه كما لحظت حاد البصر نافذ البصيرة متوقد الذكاء كريم، له استعداد قوي للتقدم، ولكنه شديد الرضى سريع التسليم

ومن أهم ما لفت انتباهي اعتماده على القدرة الإلهية، أو على من يتوسم فيه رعاية مصالحه؛ وكل البدو في هذه المناطق خاضعون للنظام العشائري البحت، ويأبون تدخل الحكومة في فض مشكلاتهم من أي نوع، ولو فرض وكان لبعضهم مشكلات تصل إلى المحاكم في بغداد أو غيرها مثلاً، فشيخ مشايخ شمر أو ابنه، هو الذي يمثل هؤلاء أمام الجهات المختصة ويدفع عنهم ويفض هذه القضايا. ولهذه الاعتبارات وأشباهها تخضع القبائل لرئيسهم خضوعاً تاماً، وهو يسهر على مصالحهم. ويسرني أن أذكر بعض المشروعات الإصلاحية التي بدأت فعلاً بين هذه القبائل البدوية في المقال التالي

زينب الحكيم