الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 282/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 282/للأدب والتاريخ

بتاريخ: 28 - 11 - 1938


مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 43 -

من شئونه الاجتماعية

لم يكن الرافعي عضواً في جماعة من الجماعات، ولا منتسباً إلى حزب من الأحزاب أو طائفة من الطوائف؛ إذ كان يؤثر الوحدة والاستقلال في الرأي. وكان من التعصب لرأيه والاعتداد بنفسه بحيث يأبى أن ينزل عن رأي يراه مجاملة لصديق أو خضوعاً لرأي جماعة ينتسب إليها؛ وكان له من علته سبب آخر نّبهتُ إليه عند الحديث عن نشأته. ثم إن الرافعي لم يكن رجلاً اجتماعياً يلتزم ما تفرض عليه الجماعة من تقاليد ويتخذ أسلوبَ الناس فيما يليق وما لا يليق؛ فهو لا يعتبر إلا رأيَه أو حاجتَه أو مصلحتَه فيما يكون بينه وبين الناس من صِلات، ولم يكن يعرف هذا (النفاق الاجتماعي) الذي يسميه الناس: التقاليدَ، أو الأدب اللائق!. . . فهو بذلك كان عالماً منفرداً يسير في نهجه إلى الهدف المؤمَّل على وحي الفطرة أو هَدْى الإيمان. سمَّ هذا شذوذاً في الخُلق، أو سمَّه استقلالاً في الرأي وأسلوباً من التعبير عن الشخصية المتميزة بخصائصها؛ فما يعنيني هنا إلا إثبات هذه الحقيقة في التاريخ كما شهدتها في معاملاته وفي صِلاته بالناس، وكما لمحتها في جملة من أحاديثه. . .

. . . هذه الأسباب هي أهمّ ما كان يباعد بين الرافعي والاشتراك في الجماعات، أو يباعد بينها وبينه!

على أن ذلك لم يكن يمنعه أن يكون هواه مع جماعة من الجماعات أو حزب من الأحزاب في وقت ما لسبب ما، ولم يمنعه ذلك أن يكون عضواً في بعض الجماعات

وأول أمره في ذلك - على ما أعرف - أنه شرع وهو شاب لم يجاوز العشرين في تأليف جماعة من الشباب تدعو إلى نوع من الإصلاح الديني؛ وكان معه على هذا الرأي صديقان من أترابه، أذكر منهما الأستاذ عبد الفتاح المرقي المحامي؛ وقد اتخذوا (مسجد البهي) في طنطا مكاناً لاجتماعهم وتبليغ دعوتهم، وطنطا، كما قد يعرف كثير من القراء، مركز هام من مراكز الثقافة في مصر، وفي أهلها حفاظ وتحرج، ولها صبغة دينية نشأت من أن فيها معهداً دينياً كبيراً في (الجامع الأحمدي) كان في وقت ما يشتد عدْواً في مسابقة الجامع الأزهر بالقاهرة. والأزهريون في طنطا، كالأزهريين في القاهرة إلى عهد قريب: أكثر أهل العلم في مصر حفاظاً على القديم، وأسرعهم إلى سوء الظن بكل إصلاح جديد، من ذلك لقي الرافعي وصاحباه في دعوتهم ما لقوا من عِداء طلبة الجامع الأحمدي وعلمائه، حتى هم الطلبة مرة أن ينالوهم بالأذى في أبدانهم. . . فلم يجد الرافعي وصاحباه في النهاية بداً من التسليم، وانحلت الجمعية الرافعية الصغيرة. . .

حدثني الرافعي حديث هذه الجمعية في خريف سنة 1932 بعد ثلث قرن مما كان؛ وكنت ذهبت إليه يومئذ في وفدٍ ثلاثة ندعوه إلى الاشتراك معنا في جماعة أنشأناها بطنطا في ذلك الوقت باسم (جماعة الثقافة الإسلامية) تدعو فيما تدعو إلى العمل على إحياء الشعور بمعنى القومية الإسلامية العربية، واتخذت لذلك وسائل وشرعت نهجاً؛ وكانت تضم فيمن تضم طائفة ممتازة من أهل الرأي والعلم والأدب، لكل منهم صوت ورأي وجاه في قومه. . .

ولبى الرافعي دعوتنا بعد تمنع، وانتظمت الجماعة على رأي واحد إلى هدف واحد، فلما استكملنا الأهبة، دعونا الشباب المثقفين في طنطا إلى اجتماع عام في ناد كبير، وكان الرافعي من خطباء الاجتماع. . .

صعد الرافعي إلى المنصة، فوقف برهة يجيل نظره في ذلك الجمع الحاشد، ثم انطلق في خطبته. . .

وعلى أن الدعوة إلى الاجتماع كانت عامة، وكان موضوعه هو الثقافة الإسلامية؛ فإنه لم يشهد هذا الاجتماع من شيوخ (الجامع الأحمدي) ومدرسيه غير ثلاثة من الشيوخ، وطائفة غير قليلة من المدرسين غير الشيوخ؛ ولم يفت الرافعي أن يلاحظ ذلك؛ فمال في خطبته إلى هذه الناحية، ينعى على شيوخ الأزهر أن يتجاهلوا واجبهم في مثل هذه الدعوة، وأن يؤثروا القعود على الجهاد لله! وكان فيما قاله: (. . . إن أدبياً كبيراً من وزراء الدولة قد قالها مرة منذ ثلاثين سنة: لو قعد حماري في الأزهر خمس عشرة سنة لخرج عالماً. وما نحب أن يقولها اليوم أحد ليلحد في كفاية طائفة من أهل العلم والدين هم أكرم علينا. . .!)

قالها الرافعي في حماسة وانفعال وفي لهجة خطابية صارمة، فسمع المجتمعون همهمة عن يمينه وشماله، أما عن يمينه فكان للشيوخ الثلاثة قد آذاهم ما قال الرافعي، وأما عن الشمال فكان طائفة من المدرسين غير الشيوخ في الأزهر قد خافوا أن تؤول كلمة الرافعي تأويلاً ينالهم بالشر من إخوانهم الأزهريين. . .

وعلى أن الرافعي كان بريء الصدر فيما قال، ويعلم الأزهريون قبل غيرهم أن هواه معهم، وعلى أن صدر كلامه وخاتمته لم يكن فيه ما ينبئ عن قصد الإساءة، فان هذه الكلمة التي قالها قد أحدثت دوياً بين الأزهريين تهدد الجماعة في نشأتها

وسعى ساع إلى شيخ الجامع الأحمدي (المرحوم الأستاذ محمود الديناري) فأنباه أن الرافعي قد قال في خطبته: (لو قعد حماري في الأزهر بضع سنين لخرج أعلم من شيخ الأزهر. .!)

وكتبها كاتب في رسالة خاصة إلى الأستاذ الجليل الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر. . .!)

وتسامع بها الشيوخ على ما حكاها الراوي فراحوا يتناولون الرافعي وجماعته بما وسعهم من التجريح في أعراضهم ودينهم ومقاصدهم، وقال قائل منهم: (وما حاجتنا إلى هذه الجماعة فيما تدعو إليه؟ لقد انتشر الإسلام ومد ظلاله في العالم على حد السيف فما يغنى غناءه في هذه الدعوة كاتب يكتب أو خطيب يخطب!) وامتدت هذه المقالة الطائشة على لسان طائفة. . .

وعرف الطلاب من الأمر ما عرفوا فأعلنت طائفة منهم الحرب، وسعتْ طائفة في وفد إلى مدير المديرية تطلب إليه أن يقمع هذه الفتنة بسلطانه، واصطبغت المشكلة صبغة سياسية

كان للأزهريين يومئذ في السياسة دولة وسلطان. . .

وإذا اتصل الأمر بالسياسة فقد فزع طائفة من الموظفين المنتسبين إلى الجماعة فآثروا البراءة منها على الدفاع عنها، وأشفقت طائفة على مصير الجماعة فأوفدت وفداً إلى الأستاذ الديناري شيخ الجامع يحقق له الرواية ويبدد سوء الظن ويعتذر. . . ولكن شيخ الجامع رد الوفد رداًّ غير جميل وقال عن الرافعي ما قال. . .

وجاء الخبر إلى الرافعي بما أحدثت كلمته، فما أفزعه من ذلك إلا أن يصدق شيخ الأزهر ما نقل إليه منسوباً إلى الرافعي وإنهما لصديقان من زمان. . . فكتب إليه:

(. . . وإن شيخاً من علماء الجامع الأحمدي يزعم أن الإسلام قد انتشر على حد السيف، وهذا كلام، وسيبقى كلاماً ما دمت ساكتاً عنه، فإذا عرضتُ له بالمناقشة فقد تغير وجهه، لو كان وجه النهار لأسودّ!)

وعلم شيخ الأزهر حقيقة الدعوى التي ادعاها خصوم الرافعي عليه وما زادوا فيها ونقصوا، فكتب يعتذر إليه، وكتب إلى شيخ الجامع الأحمدي. . .

وكان الرافعي جالساً إلى مكتبه في المحكمة حين جاءه الرسول يدعوه إلى مقابلة شيخ الجامع الأحمدي فرده، وعاد يدعوه ثانية ويلح في الرجاء فحدد الرافعي موعداً. . .

وذهب إلى لقاء الشيخ فاستقبله العلماء بالباب في حفاوة بليغة، وسعوا بين يديه مهرولين إلى مكتب الشيخ؛ قال الرافعي: (ووجدت الشيخ في انتظاري وبين يديه (إعجاز القرآن)؛ فما لقيني حتى قال: (أتعرف يا سيدي أنني مدين لك؟ هذا كتابك لا أجد لي رفيقاً خيراً منه؛ إنه زادي وعمادي. ثم عبث في درج مكتبه قليلا فأخرج ورقة فيها شعر مكتوب، فدفعها إليّ وهو يقول: وهذه قصيدة أعددتها لأنشدها بين يدي المليك في طريق عودته إلى القاهرة من مصيفه؛ لا أجد من يصلحها خيراً منك، فأنت أنت للشعر وللبيان!)

قال الرافعي: (وبدون هذا كانت تقنع نفسي وترضى، ولكنها كانت وسيلة الشيخ إلى استرضائي بعد الذي قال عني منذ أيام؛ طاعة لأمر شيخ الأزهر. . . . . .!)

تم الصلح بين الرافعي والأزهر، ولكن الأزمة التي كانت، لم تبق على الجماعة فانحلت بعد ما طار منها أكثر أعضائها من الموظفين خشية التهمة بالسياسة، وكان للسياسية يومئذ حديث طويل. . .

ولم يشترك الرافعي على ما أعلم في غير هاتين الجماعتين

ولم تتهيأ للرافعي رحلة من الرحلات يفيد منها علماً أو تجربة طول حياته، غير رحلة أو رحلتين - لا أذكر - إلى الشام، لم يفارق مصر إلى غير الشام من بلاد الله؛ فزار طرابلس حيث ما تزال أسرة الرافعي لها ذكر وجاه، وزار لبنان حيث عرف صاحبة حديث القمر في سنة 1912 على أن الرافعي كان يحب الرحلة ويطرب لها ويتمنى لو أتيحت له ولكن موارده المحدودة كانت تقعد به؛ ولما كان في بطانة المغفور له الملك فؤاد، كان له جواز سفر مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد المصرية؛ فكان يعد حصوله على هذا الجواز ظفراً بأمنية عزيزة، لأنه أتاح له أن ينتقل ما شاء بين البلاد من غير غرم، فلا يكاد يستقر في بلد، فيوماً في القاهرة، ويوماً في الإسكندرية، ويوماً في بور سعيد؛ يفيد من هذه الرحلات ما يفيد لأدبه أو لبدنه وأعصابه. حدثني مرة أنه كان ينظم قصيدة من مدائحه الملكية فأحس شيئاً من التعب والملال، فقصد إلى المحطة فاتخذ مقعده في قطار كان على أهبة السفر إلى بور سعيد، فأتم قصيدته هناك ثم عاد. .

وقد كان هذا الجواز هو سبب ما بينه وبين الأبراشي باشا مما فصلت مجمله في فصل سابق، حين امتنع الابراشي باشا مد أجل هذا الجواز بعد انتهائه!

وكان يغبط الذين يجدون في طاقتهم أن يقضوا الصيف من كل عام في أوربا ويتمنى لو أتيح له، ليفيد من ذلك شيئاً يجدي على أدبه. على أنه مع ذلك كان يرحل إلى أوربا أيان يريد، ولكن في السيما. . .

كان يسمى السيما: خارج القطر! ويزعم أن في ذهابه لمشاهدتها كلما سنحت له الفرصة غناء عن السفر، فسواء عنده أن يرحل إلى أوربا في قطار أو باخرة، وأن ترحل إليه أوربا بحالها في رواية يشاهدها على ستار السيما؛ فلكيهما أثر متشابه في نفسه؛ وذلك بعض مذهبه في فلسفة الرضا والسعادة!

وكم كان ظريفاً أن تسمعه يتحدث إلى صديق من أصدقائه قائلاً: (هل لك أن تصحبني الليلة إلى خارج القطر؟) يلقي هذا السؤال بلا تكلف ولا قصد إلى الفكاهة، لأن كلمة (خارج القطر) كانت عنده علماً عرفياً على السيما لا يحتاج إلى تعليق!

وكان عجيبا في إيمانه بالغيب، وتناجي الأرواح، وتنادي الموتى والأحياء؛ وكان يؤمن بالسحر والعرافة؛ وكثيراً ما كنت تسمع منه: (حدثتني نفسي. . . أُلْقِي إلي. . . هتف بي هاتف) وكان يعني ما يقول على حقيقته. جلست إليه مرة في منزله، فأخذنا في حديث طويل. . . وعلى حين غفلة سكت، ثم قال: (وكيف صديقنا مخلوف؟) قلت: (لم أره من زمان!) قال: (إنه قادم الساعة. . لقد أُلْقِي إلي. . . أحسبه الآن يصعد في السلم. . .!) فما كاد يتم حتى دق الجرس. وكان الأستاذ حسنين مخلوف هو القادم، وسألت الأستاذ مخلوفا: أكان على موعد مع الرافعي؟ فنفى لي كل ظنة!

وسألني مرة أخرى: (ماذا تعرف عن صديقنا م؟) قلت: (لا جديد من أخباره!) قال: يهتف بي الساعة هاتف أنه في شر!) وفي صباح اليوم التالي كان نبأ شروعه في الانتحار منشوراً في الصحف!. . . وفي الرسائل التي تبادلاها بعد هذه الحادثة ما يبعد الظن بأن الرافعي كان يعلم شيئاً!

وكان بينه وبين رجل قضية، فغاظه، وجاءني الرافعي يوماً محنقاً وهو يقول: (سينتقم الله منه! سينتقم الله منه! قلبي يحدثني بأن القصاص قريب!) وفي الغد جاءنا نعى الرجل، وكنت مع الرافعي وقتئذ، فتندت عيناه بالدمع، وتناول سبحته وأخذ يتمتم في صوت خافت وشفته تختلج من شدة الانفعال!

هذه حوادث ثلاث رايتها بعيني، ولعلها من عجائب الأخبار عند بعض القراء، واحسبني قد رأيت له غير ذلك، ولكني لا أتذكره الآن. . .

وحدثني أن أباه كان مسافراً مرة إلى بلد ما، وكان عليه صلاة، فافترش مصلى وأخذ يصلي على رصيف المحطة، وإنه لكذلك إذ جاء القطار، قال: وكان أبي حريصاً على ميعاد هذه السفرة، يخشى شيئاً لو تأخر عن موعدها، وما كان بين موعد قدوم القطار وسفره ما يتسع لصلاة الشيخ؛ ولكن الشيخ استمر في صلاته على وّنَى واطمئنان؛ وما تحرك القطار إلا بعد أن فرغ الشيخ من صلاته، واطمأن في كرسيه، وحيَّا مودِّعيه ووصّي؛ وكان سبب تأخير القطار شيئاً غير مألوف يتصل بشأن من شئون المحطة!

وأحسبه ذكر مرة في بعض ما كتب كيف ثقل نعش أمه على كتفه ثم خف!

واخبرني أنه لما مات أخوه المرحوم محمد كامل الرافعي استحضر روحه فلبت نداءه، وكان بينهما حديث لا أذكره؛ وحاول مرة أن يعلمني وسيلة لتحضير الأرواح ولكني لم أتعلم!

وكان يحفظ كثيراً من الأدعية والدعوات لأسبابها!

ولما وقع في حب (فلانة) ونال منه الوجد بها، لجأ إلى العرافين في أمل يأمله، فكتب تميمة فعلقها في خيط فربطها في سارية بأعلى الدار تتلاعب بها الريح. . . قال: ولكن أمورا عجيبة مفزعة وقعت لي ولأهلي ولسكان الدار جميعاً في خلال اليومين اللذين كانت التميمة معلقة فيهما؛ فأيقنت أن ذلك من ذلك؛ فان لكل تميمة غايتين: أحدهما ما تأمل وثانيتهما مما تخاف، وكان ما وقع لي وما يتهددني من شر أكبر عندي من الأمل الذي أرجو؛ فندمت على ما كان، وتسللت إلى السطح فحللت رباط التميمة وفضضت خاتمها. . قال: فما فعلت ذلك عادت الأمور تسير على عادتها في رفق وأناة، وزال ما كنت أحذر وهدأتْ نفسي من ناحيته؛ فما كان شأني في الحالتين إلا كراكب سفينة هبتْ عليها عاصفة ثم قرت!. . . قال: وما كان الذي وقع لي في هذين اليومين مما يقع في العادة، ولا كانت نهايته، وقد فضضت خاتم التميمة، بالنهاية التي تنتظر. . .!

وكان يؤمن إيماناً لا شك فيه بأن يوماً ما سيأتي فيرتد إليه سمعه بلا علاج ولا معاناة، لأن بشيراً من الغيب هتف بهذه البشرى في نفسه وهي لابد واقعة! وقد مات وعلى مكتبه رسالة من صديقه الأستاذ فليكس فارس يشير عليه بتجربة لترد عليه سمعه الذي فقده منذ ثلاثين سنة أو يزيد، ورسالة أخرى من صديقه الأستاذ حافظ عامر فيها شيء يشبه ذلك!

وأحسبه قال لي مرة أو مرات وكنت جالساً أتحدث إليه: (ارفع صوتك بالحديث لعل الساعة الموعودة قد حانت فأسمع ما تقول!)

ولو أنني ذهبت أستقصي ما أعرف من مثل هذه الأخبار ما وسعني الوقت، وفي بعض ما قدمت الكفاية لمن يلتمس أسباب العلم

وكان الرافعي ولوعاً بالرياضة البدنية من لدن نشأته، يعالج أسبابها في أوقاتٍ رتيبة، وكان المشي الطويل أحبًّ رياضة إليه

خرجت مرة في جماعة من صحبي يوم شم النسيم للرياضة بُعيد الفجر، وكان معنا ماؤنا وطعامنا وقد عزمنا أن نقضي اليوم كله في الخلاء، فلما صرنا على بعد ميل من المدينة والشمس لم تشرق، لمحت الرافعي على بعد يخب في مشيته على حافة قناة بين زرعين؛ فلما دنوت منه رأيته يميل فيبلّل كفيه بأنداء الفجر على أوراق البرسيم فيمسح بها وجهه وهو مغتبط مبسوط؛ وأقبلت عليه أسأله، قال: هذه رياضة تحلو لي كثيراً، فما أتركها إلا لعارض، بل إني ليطيب لي أحياناً أن أخرج من البيت قبل الفطور لأجول هذه الجولة، ثم أعود لأفطر وأخرج إلى الديوان. . قلت: وهذا الندى الذي تغسل به وجهك؟ قال: إنه ينِّضر الوجه ويردَ الشباب! ثم سأل: وأنتم أين تقصدون؟ قلت: هذه رياضة لا نقوم بها في العام إلا مرة، وأن معنا لطعاماً وماءً وحلوى؛ فهل تصحبنا؟

قال: وددت ولكن في غير هذا اليوم. . . أسأل الله لكم العافية! ونالنا في هذا اليوم شر لم نتوقعه، فعدنا قبل أن ينتصف النهار محزونين!. . .

وسمع الرافعي بما نالنا فقال: (هو ذلك! إن الشر ليتربص بالمسلم الذي يحتفل لهذا اليوم أكثر مما يحتفل لمطلع المحرم! هذه وصية أب!)

. . . وكان يعالج كثيراً من وسائل الرياضة غير المشي، وقد أتقن أكثر تمرينات (صاندو) الرياضي الفرنسي المشهور. وقد اجتمعت على مكتبه مرة صورتا الشيخ محمد عبده وصاندو؛ فاسترعى اجتماعهما ملاحظتي، فقال: (هذان قوتان تعمل في نفسي: قوة في روحي وقوة في جسدي!)

وكان سباحاً ماهراً، وكانت له جولات في السباحة يشهدها شاطئ سيدي بشر في الصيف، وكان يقصد هو وأسرته للاستحمام هناك جانباً من الشاطئ غير مطروق لعنفوانه وشدة موجه وكان يمزح ويسميه (بلاج الرافعي) إذ قل أن يقصد إليه للاستحمام أحد من المصطافين في سيدي بشر غير الرافعي وأسرته

ولا يطعن في قدرة الرافعي على السباحة أنه أوشك أن يغرق مرة؛ كان ذلك قبل منعاه بأشهر، وكاد يغرق معه طائفة من أولاده، لولا أن أسرع حارس الشط لنجدتهم

وللرافعي صورة طريفة تصورها منذ بضع عشرة سنة، وتمثله في زي أبطال الرياضة المشهورين: عاري الجسد بارز العضلات؛ وددت لو حصلت على هذه الصورة!

وله مقالات مشهورة عن الرياضة البدنية، نشرها مسلسلة في مجلة (المضمار) الرياضية التي كانت تصدر في القاهرة منذ بضع عشرة سنة

وكانت عنايته بالرياضة من أسباب قوته البدنية، ومن أسباب قوته العصبية أيضاً، ومن هاتين كان اصطبار الرافعي على العمل الشاق فيما يعالج من شئون الأدب

ولكنه وا أسفا. . . قد مات بغير علة، لأن القدر أقوى من احتيال البشر!

(شبرا)

محمد سعيد العريان