مجلة الرسالة/العدد 279/مقالات في كلمات
→ الحقائق العليا في الحياة | مجلة الرسالة - العدد 279 مقالات في كلمات [[مؤلف:|]] |
التعليم والمتعطلون في مصر ← |
بتاريخ: 07 - 11 - 1938 |
للأستاذ محمود غنيم
العدل المطلق
أسرفت القوانين على اختلاف أنواعها في توخي العدالة، ولكن يظهر أن تحقيقها لا يزال يقتضي انتظار زمن طويل، إن لم نقل: إن ذلك مستحيل
أرأيت ذلك الذي يطيح القصاص برأسه جزاء إثم اقترفه؟ لقد حكم القضاء بإدانته مرتاح الضمير، معتقداً أنه أقر الحق في نصابه، وقابلت أنت الحكم بالهتاف للعدالة، ونسيت أن لهذا الحكم العادل ناحية فيها ظلم صارخ. ما ذنب أطفال هذا المجرم الذين أسقطهم القضاء من حسابه، فحرمهم كاسبهم، ورماهم باليتم من غير إثم اقترفوه؟ أغلب الظن أن القصاص العادل مهد لهؤلاء الأطفال البرآء سبيل الأجرام، فكأنه استأصل شراً وأنبت شروراً، وأراح الإنسانية من وجه ثم أتعبها من وجوه
ما ذنب المرأة يلقي زوجها في أعماق السجون باسم القانون، فتتضور تلك الحرة جوعاً، أو تأكل بثدبيها؟ وقد تكون حياتها - وهي البريئة الطليقة - أشأم من حياة زوجها - وهو المذنب السجين -؟
وكم تكون دهشتي كلما تذكرت حكم الفقهاء في طلاق السكران المتعدي! إنهم يوقعون طلاقه تغليظاً عليه، كأن مسألة الطلاق لا تعني إلا إياه، وليس الرجل فيها إلا طرفاً من طرفين، بل من عدة أطراف، إذا لم نسقط من حسابنا شريكته في الحياة وأطفاله الصغار. ألسنا بذلك نكون قد قضينا على زوجة، وشردنا بنين، لأننا أردنا أن نلقي على رجل سكران درساً أشك كل الشك في قسوته؟ أجل، فمن الجلي أن الرجل هنا يرتكب أخف الضررين، ففي استطاعته أن يتزوج لأن أمر زواجه موكول إليه، أما الزوجة المنكودة - التي لم تعاقر الكأس ولم تغش الحان - فعليها أن تنتظر ثم تنتظر، لأن أمر زواجها ليس إليها
كلنا يهتف للمساواة ويعتبرها ضرباً من ضروب الأنصاف، ولكني ألاحظ أن ذنباً واحداً قد يقترفه اثنان، معيشة أحدهما في السجن لا تختلف عنها كثيراً في منزله، بينما يؤثر ثانيهما الانتحار على أن يقضي في السجن سحابة نهار. فهل تعتبر توحيد الحكم عليهما من العدل في شيء؟ ثم ماذا تقول إذا كان أحدهما متعطلاً لا كسب له، وكان للثاني عمل يدر عليه الربح الوفير؟ لا شك أننا في هذه الحالة نكون قد حكمنا على الثاني بغرامة فادحة، لم يصب الأول منها قليل ولا كثير
ولقد يتخاصم المتخاصمان أحدهما في سعة من الرزق يستطيع أن يستعين بجيش من مهرة المحامين، بينما ثانيهما مقل لا يستجيب له إلا من يقنع بالأجر الطفيف، وهكذا يسوي القانون بينهما في كل شيء، ويغفل هذه الناحية الحساسة، ذات الأثر البالغ في تكييف الحكم، وتكون النتيجة أن ينتصر باطل الأول على حق الثاني باسم العدل والقانون
وبعد فلست أجهل أن القوانين لا تنظر إلى الأفراد بمقدار ما تنظر إلى المجموع، وأنها كثيراً ما تضحي بمصلحة الفرد في سبيل الصالح العام، ولكنني أبحث عن العدل المطلق، العدل الذي لا يشحذ مديته على كبش من كباش الفداء
اللذة السلبية
عرفت بالتجربة أن من أطيب الأوقات التي تمر بالإنسان تلك الأوقات التي ينسى فيها نفسه بسفر طويل وإن كان لغير غرض، أو بإمعان في تفكير وإن لم يكن من ورائه طائل، أو بانهماك في (لعبة) وإن كانت غير ذات جدوى. وجلي أن الإنسان لا يفيد من ذلك فائدة يستطيع أن يرجع إليها ما يشعر به من لذة، فهل مصدر تلك اللذة هو مجرد نسيان الإنسان نفسه حيناً من الدهر؟ إن صح ذلك فأحر بنا أن نطلق على هذه اللذة أسم (اللذة السلبية)
أغلب الظن أن ذلك صحيح، وعليه يكون مجرد الشعور بالحياة عبئا على الأحياء، ويكون الاحتيال على التخلص منه بين فينة وأخرى داعية سرور وارتياح. ومما يدعم هذه النظرية تلك اللذة التي يشعر بها المخمور، وماذا يفيد المخمور من جرعات الراح التي يتجرعها بين تغضن الأسرَّة وتقطيب الوجه، إلا فترات غيبوبة ينسى فيها نفسه، ويعدم شعوره، ويفارق حيويته إلى حين؛ حتى إذا ذهبت نشوته، وتسرب إليه شعور، ودع نعيمه، وعاد إلى دنيا الهموم؟
إذا وافقتني على ذلك استطعنا أن نحل ذلك اللغز الذي حير الأفهام من قديم الزمان، وهو (متى يستشعر النائم لذة النوم) إن قلت: قبله، قلنا: لا يستشعر الإنسان لذة شيء قبل مباشرته، وإن قلت: أثناءه، قلنا: لا شعور للنائم. وإن قلت: بعده، قلنا: ما شعور الإنسان بلذة شيء فات؟ أقول: إذا وافقتني على تلك النظرية استطعنا أن نعتبر لذة النائم من نوع اللذة السلبية، أعني تلك اللحظات التي غرق فيها في السبات، فغاب عن الوعي، واطرح أعباء الحياة، وتخلص من نير الشعور
ولعل من هذا كان حظ الإنسان من الآلام النفسية يتناسب مع مبلغ حدة شعوره ودقة إحساسه طرداً وعكساً، فإن ذا الحس المرهف أشد حيوية من غيره. والمشاهد أن أشد الناس تمتعاُ بالحياة هم أقلهم حظاً من التفكير والإحساس، لأنهم إلى الموت أقرب منهم إلى الحياة. ومن قديم قيل:
والعيش خير في ظلا ... ل النوك ممن عاش كدا
غير أنني أخشى إذا تمشيت مع هذه النظرية أن أنحدر إلى القول بأن الموت هو السعادة الأبدية
اللذة والألم
هل تحسب أن بائع العطور يستشعر ما تستشعر أنت لها من رائحة زكية؟ إن الإنسان ليجلس في بستان برهة من الزمان، فتصاب أعصاب حاسمة شمه بالشلل، حتى ما يفرق بين ورد وريحان، أو فل وياسمين
هذا مثل مادي يبين لنا تصريف اللذة والألم في الحياة، فالمنظر الجميل إذا أدمنت التحديق فيه أصبح مألوفاً عادياً لا يحرك مشاعرك؛ والطعام الشهي إذا أكثرت تناوله فقد جاذبيته، بل قد يصل إلى درجة تعافه معها النفوس. ولقد يظفر الموظف بإجازة يوم فيشعر بغبطة لا حد لها، ثم يسامح بعد ذلك شهورا فتفقد المسامحة سحرها، بل إن الألم الذي يستثقل وطأته الإنسان يتسم به الجسم على مر الأيام، ويخف حمله بطول المران عليه
إذن لابد من ألم الجوع والظمأ حتى يستشعر الإنسان لذة الشبع والري، ولابد من جحيم الفراق حتى يشعر بنعيم الوصال، ولابد من حرارة العمل حتى يحس برد الراحة، بل لابد من المرض حتى يدرك الإنسان أنه صحيح معافى. بعد هذا نستطيع أن نقول بملء الفم: إن الألم شرط في إحداث اللذة، وإن النعيم المحض لم يكتب لمخلوق في هذه الحياة، وإنما تمني به الكتب المقدسة البررة الصالحين في دار الخلود. ومن هنا التمس الناس السعادة من قديم الزمان في كل مكان فأعياهم التماسها، لأنهم يبغونها صرفاً غير مشوبة بشائبة، ولم يفطنوا إلى أن الألم شرط في إحداثها، ومقوم من مقوماتها اللذة والألم متكافئان، حظ الناس منهما واحد، مهما تفاوتت أقدارهم في الهيئة الاجتماعية، وتفاوت حظهم من الجاه والمال، غاية ما في الأمر أن لكل منهما صوراً وأشكالاً متباينة وإن كان الشعور به في قرارة النفس واحدا
فعزاء للفقراء، وليعلموا أنهم هم وأرباب المال والجاه. على قدم المساواة
(كوم حماده)
محمود غنيم