الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 279/التعليم والمتعطلون في مصر

مجلة الرسالة/العدد 279/التعليم والمتعطلون في مصر

مجلة الرسالة - العدد 279
التعليم والمتعطلون في مصر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 07 - 11 - 1938


المدرسة وتكوين الأخلاق

للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر

قيمة الأخلاق وتكوينها

كان خير ما وصف به النبي ﷺ قول الله تعالى (وأنك لعلى خلق عظيم) وقوله: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) وفي هذا الدليل القاطع والحجة القوية على ما للأخلاق الكريمة من أثر في الحياة. والأخلاق الكريمة لا يحتاج إليها الإنسان في الزعامة أو القيادة أو الرياسة فقط، ولكنه يحتاج إليها في جميع الأعمال والمهن والحرف على اختلاف أنواعها، لما يجري فيها من معاملات بين الناس وأخذ ورد، ومد وجزر، تتطلب جميعها الحكمة وحسن التدبير والحسنى في القول، والصدق والأمانة في العمل. ولا غرو فالأخلاق لكريمة عماد تكوين الأمم وأساس نهضتها ورقيها. وفي ذلك يقول المرحوم شوقي بك:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

ويقول المغفور له سعد زغلول باشا: (نحن لسنا محتاجين إلى كثير من العلم، ولكننا محتاجون إلى كثير من الأخلاق الفاضلة)

والأخلاق كما تورث بذورها عن الآباء والأمهات تربى في النشء. وأمتنها وأقواها ما نشأ عليه الطفل منذ نعومة أظفاره، وهي فوق ذلك تربى في الشاب واليافع والكهل، بل وفي الشيخ بالتعود والمرانة ورياضة النفس. وليس شيء أدل على ذلك من آيات التأديب المختلفة التي نزلت في القرآن الكريم حتى قال الرسول ﷺ: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فمن تلك الآيات الشريفة قوله تعالى: (يا أيها المدثر قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر) وقوله تعالى: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) الخ. وانظر إلى قوله تعالى تعليما وتأديباً للمؤمنين: (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا) وإلى قوله: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعلمون خبيرا)

كل تلك الآيات المحكمات وغيرها تدل دلالة واضحة على أن الآداب تكتسب بالتعليم والمرانة والتعويد. فإذا فاتت الطفل فرصة تأديبه وتعويده الأخلاق الكريمة في منزله فيجب ألا تفوته تلك الفرصة في مدرسته حتى يستقبل الحياة العملية مزوداً بالزاد المثمر المنتج وحتى لا تضيع عليه فرصة ذهبية هي أولى الفرص بالتأديب والتموين. وهي فوق ذلك أحسنها وأثمنها وأغلاها. ولقد أيد ذلك الرأي علماء التربية والباحثون فأقاموا الدليل تلو الدليل على أن الأخلاق تربى في الإنسان وتقوى فيه بالتعويد ورياضة النفس. وقديماً قالوا في الحكم والأمثال (الحلم بالتحلم، والكرم بالتكرم)

فلم يبق إذن شك في ذلك وليس فيه ما يدعو إلى البحث والتنقيب إنما الذي يدعو إلى البحث والتنقيب هو:

أولاً - معرفة تلك الأخلاق الكريمة التي يجب أن يتصف بها الإنسان في حياته

ثانياً - طرق غرس تلك الأخلاق وتعهدها وما فعلت المدرسة المصرية في هذا السبيل وما لم تفعل

ثالثاً - معرفة ما يتصف به شبابنا في الوقت الحاضر من صفات لا تناسب نهضتنا ولا تتفق مع ماضينا وقوميتنا بما يقعد بهم عن الإقدام على الأعمال الحرة فيؤثر تأثيراً سيئاً في حياتنا الاجتماعية والاقتصادية ويؤدي إلى عرقلة سير النهضة القومية. وأخيراً بحث الطرق العملية المؤدية إلى استئصال ذلك

الأخلاق المطلوبة

مما لاشك فيه أن الأخلاق القويمة التي نصت عليها الشرائع السماوية كالصدق والأمانة والجد والاستقامة والصبر وفعل الخير وإحقاق الحق والعدل والمساواة في حرية الرأي والشورى. . . الخ هي الأسس التي يجب أن يعنى بها كل مصلح، والتي يجب أن يبثها في ولده كل والد، وفي تلاميذه كل مدرس. على أن هناك أموراً خلقية أخرى قد تؤدي إليها المحافظة على الأمور السابقة وتعودها كما يلزمنا المجتمع الحاضر وأحوال المدنية الحاضرة وأساليب الحياة الحالية بالعمل على خلقها في نفوس أبنائنا فرادى وجماعات حتى يتمكنوا من الخوض في معترك الحياة والنهوض بهذه الأمة نهضة حقيقية فعالة ويرفعوا رأس بلادهم ويثبتوا أقدامها بين الأمم الراقية.

هناك تكوين الشخصية القوية، وهذا يستلزم تقوية إرادة الفرد بمختلف الوسائل وتنظيم حياته وتوجيه نشاطه، وتوزيع العمل واللهو على أوقاته، ويستلزم تعويد الفرد على أن يكون ذا رأي مستقل يدافع عنه في صراحة وجرأة وقوة، ويستلزم أن يكون الفرد ذا جاذبية خاصة أساسها حسن المعاشرة والمجاملة وعمل الخير مما يحبب فيه معاشريه، ويجذب إليه كل من يحتك به ويعامله، ويستلزم أن يتعود تحكيم عقله في ميوله وأهوائه، فكلما استطاع الإنسان كبح جماح شهواته والتغلب على أهوائهوميوله، ارتفع بنفسه في عالم الفكر وسما بروحه سمواً يجعله قوي الشخصية مؤثراً في غيره تأثير المغناطيس في الحديد

وهناك غرس فكرة النظام واحترام القانون في نفوس الناشئين منذ نعومة أظفارهم حتى يعتاد الفرد ذلك من صغره من غير أن يحتاج إلى رقيب يحاسبه ويتتبعه أو إلى دافع خارجي غير نفساني يدفعه، ويستلزم ذلك تربية الضمير وتقويته حتى يكون كل لإنسان رقيباً على نفسه يحاسبها دائماً على كل صغيرة وكبيرة. حدثني صديق اعتاد أن يسمر بعض الليالي عند أحد الوزراء السابقين الذين تلقوا علومهم العالية في بلاد الإنجليز: أن ذلك الوزير قص عليه قصة صغيرة وقعت له في تلك البلاد في أحد أيام الصيف، وكان قد سافر إليها للنزهة والتروض. وتتلخص تلك القصة في أن أحد أصدقائه الإنجليز دعاه يوماً للصيد فخرج معه إلى مكان ناء بعيد عن أعين الناس، ثم دعتهما ظروف الصيد إلى الافتراق فافترقا كل يطلب صيده، فلما وجد المصري نفسه وحيداً وقد هجمت عليه جموع من الطير التي يعلم أن القانون يحرم صيدها لم يتردد في إعمال بندقيته وخرطوشه فيها حتى صاد منها كمية كبيرة معتقداً أنه فاز برزق عظيم وأنه سيسر صديقه به. ثم ما لبث أن التقى الصديقان، فكانت دهشة الإنجليزي عظيمة لما رآه يحمل الطير المحرم صيده، وأخذ يلومه على ارتكابه مخالفة قانونية، فأجابه السيد المصري بأن الفرصة كانت سانحة لذلك وأنه لم يره أحد، فما كان جواب صديقه إلا أن قال له: ولكنك يجب أن تكون أميناً على تنفيذ القانون في كل مكان وزمان سواء أكنت وحيداً أو معك غيرك، ثم أعطاه درساً عملياً في احترام القانون، فذهب به إلى أقرب مخفر للشرطة فسلم الطيور كلها هناك ودفع عنه في الحال الغرامة التي يجب دفعها نظير ارتكاب تلك المخالفة

هذا درس عملي عظيم إذا توخت مثله المدرسة في تربية أبنائها على احترام القانون والنظام العام أنتج أحسن الثمرات، وجاد بأطيب الخيرات والبركات. ثم لماذا نذهب بعيداً وعندنا من أمثال ذلك في صدر الإسلام الشيء لكثير؛ فلقد خرج عمر ابن الخطاب ذات ليلة يتفقد أحوال رعيته، فلما تعب اتكأ على جدار في جوف الليل وإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء. فقالت: يا أماه أو ما عملت بما كان من عزمة أمير المؤمنين؟ فقد أمر مناديه فنادى لا يشاب اللبن بالماء. فقالت: قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فانك بموضع لا يراه عمر ولا منادي عمر. فقالت الابنة: والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. كل ذلك وعمر يسمع تلك المحاورة فقال لمولاه أسلم: (علم الباب واعرف الموضع). ثم مضى؛ فلما أصبح الصباح قال: (يا أسلم، أمض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها؟ وهل لهما من بعل؟). فذهب ورجع فأخبر عمر؛ فدعا ولده وقال: (هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه. ولو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد؟). فقال له عاصم: (أنا يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني). فزوجها من عاصم فولدت له بنتاً وولدت البنت عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وهو ذلك الخليفة الذي يضرب به المثل في الورع والتقى والزهد وإحقاق الحق وإقامة العدل

عبد الحميد فهمي مطر