الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 279/الحقائق العليا في الحياة

مجلة الرسالة/العدد 279/الحقائق العليا في الحياة

مجلة الرسالة - العدد 279
الحقائق العليا في الحياة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 07 - 11 - 1938


للأستاذ عبد المنعم خلاف

الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب

(ألفاظ إذا نطقت بها تتحرك لها في نفسي دنيا كاملة!)

تلك أعمدة الكون الخفية، تسكن قممها عقول المتأملين، وتسجد على أقدامها قلوبهم. قد أسبغ خالق الكون وواهب الحياة على العقول والأرواح ظلالاً من تكريمه واحترامه حين أوجد لها هذه الحقائق، وأوحى لها أن تتعرف إليها كما أوحى إلى الأجساد أن تتعرف إلى التراب والماء والغذاء والهواء. . .

وليت شعري! هل تسعفني خواطري الدائمة الدوران حول هذه الحقائق فتحضرني جميعها وأنا أكتب عنها؟

إني أبدأ الكتابة الآن وليس في نفسي إلا صور مبهمة منها. أما تركيز أفكارها وتجميعها وتجنيدها وعرضها، فأمر أسأل (الحق الأول الأكبر!) أن يتولى هو بفنه الخالق (إخراجه) من قلمي العاجز كما يخرج النخلة السحوق من النواة الضئيلة!

وإن تعجبوا فعجب لجماد الأقلام وطين الألسنة حين يتولاهما الجشع فيحاولان أن يمسكا السيالات التي لا تمسك!

وليت شعري! متى يأتي الإنسان الذي يستطيع أن يقول كل ما في رأسه بألفاظ ترضيه وتترجم عن التيارات العميقة المتلاطمة في قرار قلبه؟

إنه لاشك الإنسان الأخير الذي يختتم به وجود الإنسانية هنا على الأرض. . . ولعلها ما تلاحقت أنسالها في الأرض إلا لتقول (الأسماء كلها) التي علمها الخالق أباها آدم. . .

فالإنسان الأخير هو آدم ثان جاء ليختم الدورة التي بدأها آدم الأول. . . هو الإنسان الذي صبت فيه كل جداول البيان وسكنت فيه كل أطياف المعاني، فوعى كل كلمة نفسية ولفظية اختلج بها قلب أو فكر أو لسان. . .

هو الإنسان الذي يأتي بعد أن لم يبق شيء في عالم الآفاق وعالم الأنفس إلا وجد له لفظاً إنسانياً يصوره ويحدده. . .

هو ابن الإنسانية الواحدة الهائلة التي تنقلت في الدهور والأحقاب فوقع عليها كل الضوء وكل الظلام!!

1 - الإيمان:

أنا الآن في (الرستمية) على أديم الأرض مباشرة، وتحت السماء مباشرة. . . حافي القدمين مجرودهما، جاث على الركبتين معقورهما، شاخص العينين محرورهما، مرهف السمعين مشدودهما، صامت الشفتين معقودهما. . . في الظلام الصارم! والريح تصفر في كل ما يحيط بي من مبان ومنافذ وأشجار. . . وبنات آوى تعوي وتعترك على قرب مني. . . وكلاب الرستمية وكلاب تلك القرية الماثلة على رأس تعريجة من تعاريج نهر (ديالى) تتبادلان نباحاً دائماً متشابهاً هو عندي نغم يهيئ في نفسي جواً معنوياً لليالي القرى والخيام. . والنوم ذائع السلطان منشور الأعلام على مباني (دار المعلمين الريفية)، وعلى أجساد ساكنيها من الطلاب والمعلمين. . وكل ما في جسمي ونفسي يقظ: كل خلية وكل شعرة، وكل قوى جاذبة أو دافعة، وكل خاطرة جديدة عابرة أو مخزونة غابرة، مستجمع أرواح آبائي وأرواح أنسالي. . في خيالي، وجميع حياتي الذاهبة في الأزل والآنية في الأبد!

أنا في ساعة خبال أو عقل، وفي جد أو مجانة؟ لا أدري. لا أدري إلا أن الرحى الدموية الحمراء التي في صدري تدور دوراناً لا عهد لي به من قبل. . .

أنا أيتها الأكوان الناطقة والصامتة الموغلة في الصمت، أحاول أن أتكلم عنك بين يدي أبي وأبيك! بالكلمة التي أعياني النطق بها كما أعيا كل كائن يحسها حقيقة شائعة في نفسه ولكن لا يستطيع البيان. . .

أدير فكري وكل حواسي في الدنيا لأجد ابتداء القول، فلا أظفر إلا بالاستغلاق؛ وإن كنت أظفر بامتلاء أوعية أخرى لا سلطان للبيان على نقل ما فيها. .

كل فراغ حياتي مملوء بخواطر مستبدة بي، ألاقي بها الحركة والركود، والنور والظلمة، والبحر والصحراء، والنملة والجمل، والعلم والجهل، والسلامة والسقم، وكل شيء، وكل شيء، وكل شيء. . .

فاعذروني أيها الفارغون!

واطلبوا التوفيق لقلمي المسكين الذي يتصدى للنار ليكتب فيها عنها. . .

ويتصدى للريح العصوف ليحملها قبل أن تحمله وتذروه مع الهشيم. . .

الإيمان؟!

يا لله من ابتذال الألفاظ الكريمة ونزولها من لمعات الفكر العالي وسبحات الروح، إلى رؤوس الأغبياء والجامدين والمحدودين!

ويا لله من جناية التجسيم والتشبيه على المعاني التي حياتها في أن تكون مطلقة متفردة منساحة في محيطات ربها انسياح الكهرباء والجاذبية والإشعاع!

ويا لله لغذاء الملائكة إذا ولغت فيه الكلاب والخنازير والقردة!

وأواه من الذين ينظرون إلى الألفاظ الحية نظرهم إلى الحجارة والصخور!

أخذوا هذه الكلمة التي لا يمكن أن يكون قد نطق بها ناطقها الأول إلا بوحي، وصاروا يلوكونها كما يلوك الملقنون بعض الألفاظ يلقونها على أجساد الموتى. . .

أخذوها من معادنها ومناجمها العميقة في قلوب الأنبياء وخواطر الأصفياء وألقوها في أفواه التماسيح والقردة، فصارت تعض وتقهقه بها ممسوخة في غير موضعها، كموسيقى الجنازات.

أخذوها كما يأخذون الوردة المنضورة الممطورة من غصنها، فلا يزالون يبتذلون شذاها على أنوفهم المزكومة، وحريرها بين أصابعهم القاسية، حتى يمزقوها فلا يبقى منها في أيديهم غير جثة مسحوقة يلقونها في التراب. . .

أخذوها من نصابها في قلوب الأنبياء وخواطر الأصفياء. ووضعوها على قلوبهم الضيقة كما توضع الشموع على القبور. . .

صيروها ملكاً لكل بليد أبله، تموت وتنطفئ على شفتيه الكلمات المنيرة كما تموت العروس في جلوتها. . .

ثم وضعوها في قواميسهم وكتبهم بجانب هذه الجمادات والجيف: تراب. رصاص. ذهب. حديد. معدة. .!

فيا موحي المعاني! حررني من ألفاظهم الميتة الجامدة التافهة، واحلل عقدة من لساني حتى أبين معناك في قلبي. وما أهول معناك فيه!

الطبيعة كلها أوتار مرنة، وكلمات مبينة، وأصابع مشيرة، يسمعها ويقرؤها ويراها ذلك الراهب الذي سجنته بين ضلوعي!

وأناملي الآن تحاول أن تشير إليك بالقلم والمداد في رموز أغني بها وأبكي!

ليس الكلام هنا شيئاً يذكر بجانب الفكر، وليس الفكر شيئاً يذكر بجانب الوجدان. . .

ولكي أكتب عن معناك كتابة عارف. . . لابد لي من جسد آدم الذي لامسته يدك، وعمر نوح الذي طال فيه سرك، وعقل إبراهيم الذي سعى أمامه نورك، وأذن موسى التي رن فيها صوتك، وإنشاد داود الذي ترقرق فيه نغمك، ويد عيسى التي كان معها إذنك، وكمال محمد الذي انطلقت منه إلى الإنسانية كلمتك الخاتمة. . .

أجل! لابد لهذا أن أغتسل بالبحر كله، وأتوضأ بالشعاع كله، وأتوج بالشمس والقمر والنجوم. . ثم أندمج في كل شيء لأتسمع إلى الهمسات والأحاديث الدائمة بين العوالم والأكوان عن الظاهر الباطن، والأول الآخر. . . . المتكبر! الذي أذابها وأفناها انتظار لمحة لوجهه ذي الجلال!

ولكن يا طين آدم! مالك ولهذا العلو الشاهق؟

يا خنفساء الغبراء! لا تحلمي بجو النسور. . .

يا جُعَل! إن شذا الورد يخنقك. . . فلا تطلب سكنى الرياض. . .

كيف يقوى على سنا الرب قلب ... ليس يقوى على سنا المربوب!

والكلمات لا تَناهي لدى الله ... فلابد من بقاء الغيوب

أجل يا (باكثير)!

ولكن الذي يتصدى لكبرياء الإلهية، إنما يحاول أن يبلغ أقصى حدوده وأدنى حدودها ليعود فبقول كلمة تربح ذلك الراهب السجين، وتكون مشاركة منه في عزف اللحن الدائم مع أوتار الطبيعة، وفي تسجيل الكلمات المبينة مع أفلام الطبيعة. . . . حتى يرى بعد ذلك كلمته هذه طائرة بجوها الموسيقي، تخفق بجناحيها في رئات الناس، وترقص في ضياء عيونهم، وتأكل من حبات قلوبهم، وتغرد في منطقة الصمت من أفئدتهم!

قد لا يدرك الإيمان على حقيقته إلا المؤمن الأخرس الأصم. . . الذي لم يقل ولم يسمع إلا الكلمات النفسية التي لا تصب بقوالب من الألفاظ الضيقة التي قد تكون منحرفة الوضع أو مبهمة الدلالة أو ناقصة الموسيقى. ولكل معنى في النفس جو موسيقي يجب أن يصحبه في اللفظ

وإني أرثي للذين لم يعرفوا الإلهية إلا من ألفاظ الكتب! ولأن الناس صاروا يأخذون عقيدتهم في الإلهية من الكتب ومن الأفواه، اختلفوا وتفرقوا وتباينت الصور التي في رؤوسهم منها. ولو أنهم أخذوها مباشرة من الطبيعة الواضحة الواحدة، التي ليس في كلماتها انحراف في الوضع، ولا إبهام في الدلالة، ولا نقص في الموسيقى. . . لاتفقوا وتلاقوا على فهم المعنى الواحد الذي يملؤها، كما كانوا أول زمانهم قبل تشعب الكلام بهم، ووجود ميراث من الكلمات المغلوطة التي تمحو طابع الفطرة البسيطة التي لا تعرف الرموز ولا تستغني بها عن النماذج الواضحة التي تملأ الطبيعة

ويا لله من جناية الناس على وسائل إنقاذهم ورفعهم من حضيضهم!

إن الملهمين والعلماء يفتحون لهم أبواب أقفاصهم وسجونهم حتى ينطلقوا ويفروا منها إلى الطبيعة. ومن الطبيعة تفد عقولهم إلى خالقها وصاحب المشيئة الغالبة عليها. ولكن الأغبياء والمحدودين من الدعاة يعودون بهم ثانياً إلى الأقفاص والسجون ويسدون أبوابها بالأوثان والأنصاب والصور والرموز، ويلهونهم بالخرافات

وعندئذ تموت وتنطمس الكلمات الحية المنيرة، فينطقون بها ويخيل إلى رائيهم من ذوي البصائر أنهم يلفظون حجارة أو جثثاً ميتة للمعاني الكريمة. . .

وإذا انقلب الوضع فصار الراعي يهتدي بالقطيع، فهنالك ضياع الجميع. . .

وهنا أسأل:

لماذا لا تخدمون الإيمان أيها الكتاب الموهوبون فتخدموا بذلك أقلامكم وتخدموا الحياة والفن؟

لماذا تلسعكم النار وتتحول أقلامكم إلى عقارب تلقونها بسرعة من أيديكم إذا ما سجل أحدكم كلمة مؤمنة؟

أنا أعرف السبب. أعرفه وأعزو إليه كل هذا الضعف: هو أنكم تأنفون من أحاديث العوام والعجائز والفقراء الذين جعلوا الإيمان غذاءهم وعزاءهم لأنهم فقدوا كل شيء سواه. فهم يعتزون به ويتزيدون فيه بأحلام المحرومين. فمن هنا تراكمت في نفوسكم (عقد نفسية) خفية في العقل الباطن تعقل أقلامكم عن الخوض في المعاني العامية. . .

ولكني أعيذ فطنتكم أن تجعلوا يد البستاني مرآة للبستان. . .

وإنكم إذ تتحاشون الحديث في الإيمان لمحرومون من منابع الإلهام الدائم، وحياة اللذة بالشعر، وحياة اللذة بالعلم، وحياة اللذة بالقوة، وحياة اللذة بالمجد الشخصي، واحترامكم لأنفسكم!

أتدرون أنكم لا تسبحون إلا في الضحضاح من المعاني المكشوفة الدائرة حول الظاهر من الحياة الدنيا، وأنكم تدورون في هذا الضحضاح دوراناً مضحكاً)؟

أتدرون أنكم بإهمالكم وصف الأفق الذي تلتقي فيه كل الحقائق والجمالات والكمالات والرائعات من عالم الخفاء وعالم الظهور، قد ضيعتم أعلى نغم وعطلتم شعركم من أعذبه؟

هبوا أنكم لم ترضوا بحديث بعض المأثورات من كتب الدين عن الإلهية، فلماذا لا تحدثون أنتم الإنسانية بحديثكم الشخصي عنها وهي تملأ كل نفس عالمة أو شاعرة؟

وهبوا أن بعض الأنجاس ولغوا في هذا النبع، فهل معنى ذلك أنه تنجس عند الذين يعرفون من أين ينبع وإلى أين ينتهي؟

كلا! لن تذهب مسؤولية ذوي الطباع الرحبة في التكلم للحق إذا تكلم فيه الجامدون أو الدجالون، بل إن مسئوليتهم تبدأ من هنا. . .

وإن الذي يخرج من الدنيا كاتباً أو شاعراً أو فناناً أو عالماً أو متأملاً، ثم لا يترك في ميراثه حديثاً عن (ملتقى الأكوان!) لا ريب أن يحكم عليه الحق بأنه أعمى، لأنه مر على حجرات جدرانها كلها مرايا فلم يرها ولم يحدثنا عنها. .

(بغداد - دار المعلمين الريفية)

عبد المنعم خلاف