مجلة الرسالة/العدد 261/بين العقاد والرافعي
→ بين مذهبين | مجلة الرسالة - العدد 261 بين العقاد والرافعي [[مؤلف:|]] |
بين الرافعي والعقاد ← |
بتاريخ: 04 - 07 - 1938 |
1 - صرخة مفزوع
2 - ابن الرومي حياته من شعره
للأستاذ سيد قطب
- 10 -
نحن نعتذر لأخينا صاحب (العصور) وناشر (على السفود) ونحس في أنفسنا استعداداً للعطف على صرخته في العدد الماضي من الرسالة!
نحن نعتذر فالظاهر أن الضربة التي ووجه بها كانت اعجل مما ينتظر وآلم مما يحتمل، لأنها خلعت عنه لحية الوقار المستعار وشعار العدالة المصطنع، وقد شاء أن يلوح بهما في عام 1938 فبدا للناس على حقيقته يحلل المر عاماً ويحرمه عاماً، ويدور في التحليل والتحريم حول الأشخاص في الوقت الذي يعيب فيه نصرة الأشخاص!
هذه هي المسألة يا صاحب العصور ونحن نعذرك في المهاترة التي أجبتنا بها، ونعذر أنفسنا إذا وقفنا لحظة على أول درجات السلم في هذه المهاترة، لنرتفع بعدها إلى مستوانا، ونأخذ في القضية الأولى التي تهم القراء
ونحن حين نعتذر إليك عن توجيه تلك الضربة، نعتذر لأنفسنا عن احترامنا لك إلى هذا الحد الذي أوجب البطر، ولو استطعنا من أول الأمر أن نهبط إلى المستوى الذي هبطت إليه في كلمتك الأخيرة لتغير وجه المسألة!
أنت يا سيدي - أولاً - لا تفهم الكلام، ومن هنا كان تفسيرك للجملة التي أقول فيها:
(وأننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته، وأشد الناس فهماً لها، واقتناعاً بها، ونسجاً على منوالها). ففهمت منها أن الذي يقول ذلك يكون (طبعة ثانية) للعقاد
وهنا كلام نقوله للناس، وكلام نقوله لك:
فأما كلمتنا لمن يفهمون فان الخلاص لطريقة في الأدب والاقتناع بمذهب خاص، والنسج على منوال مدرسة معينة، لا يعني تقليد شخص معين فقد ينشأ إمام وينشئ له مدرسة، ويكون لهذه المدرسة تلاميذ، ثم يكون لكل تلميذ من هؤلاء طابعه الشخصي ومميزاته الذاتية، ولا سيما إذا كانت هذه المدرسة هي مدرسة العقاد التي تقوم في أساسها على الدعوة إلى أدب (الشخصية) وتنكر التقليد وتشتط في إنكاره. فمن يخلص لطريقة هذه المدرسة، فإنما يخلص للاستقلال و (الخصوص) والتفلت من القيود والتقليد
وأما كلمتنا لك، فنحن نسلم أننا (طبعة ثانية) من العقاد، فماذا تكون أنت؟. إننا نقول لك: كن أنت - إن استطعت - طبعة ثانية من العقاد أو أي فنان سواه، أو كن - على حد تعبيرك المؤدب - الطبعة التي تتركها في الرمل قدم العقاد تكن خيراً مما أنت الآن عشرات المرات!
وأنت يا سيدي - ثانياً - لا تحترم نفسك. فلقد كنت تقول يوم نشرت كتاب (على السفود) إنك تريد به (مثالا يحتذيه الذين يريدون أن يحرروا بالنقد عقولهم من عبادة الأشخاص ووثنية الصحافة في عهدها البائد). فكانت مسألة نصرة الأشخاص يوم ذاك - على ما تدعي - بعيدة عن غرضك، بل كنت ممن يقاومونها وينشرون هذه الكتب (الساقطة) لدفعها
ثم هاأنت ذا الآن تقول إنك كنت وقتها تناصر شخصاً وأنك تبت مما عملت: (سقت نقدي مساق من لا يبرئ نفسه مما تناول ذلك النقد من رأى أو اتجاه. فلم أخرج ذاتي من مجال النقد الذي سقت، معترفاً بان ذلك رجوع إلى الحق، واطمئنان إلى اتجاه جديد) وتعني بهذا أنك - إذن - ممن كانوا يناصرون الأشخاص على الأشخاص، بينما كنت يومها تبرأ من ذلك.
قلها يا مولانا كلمة صريحة أنت وأمثالك ممن لا يجدون في أنفسهم الشجاعة الكافية لمواجهة من يريدون مواجهته، فيلفون ويدورون، ويتخذون طرائق المرأة في الدفاع والهجوم. قل: أنه ما دامت الشتائم توجه إلى العقاد فهي حينئذ نصرة مذهب على مذهب؛ أما حين تكون مدافعةٌ وردٌّ لهذه الشتائم، فهي - إذن - نصرة أشخاص على أشخاص!
وقل يا مولانا: إنك تحقد على العقاد حقدا دفينا لا سبب له - إذ ليس بينكما منافسة على أدب ولا موهبة فنية - وأنك لهذا ترحب بشتائم الرافعي له وتطبعها وتروج لها وتسميها علوا عن الشخصيات. وأما حين يقوم (أديب) مثل (سيد قطب) ليكشف عن شنعة هذه الشتائم، وليشرح بعض نواحي أدب العقاد بالقدر الذي تتسع له مجلة، فانك تتألم وتثور حفيظتك فتسمي هذا الشرح وذلك الرد مناصرة للشخصيات؟ قلها يا مولانا واسترح. أراحك الله
قلها ولا تخش (صديقك) العقاد كما عبرت عن العلاقة بينكما قبل العدد الأخير، وأنت تتخاذل وتتضاءل وتدخل بعضك في بعضك، وتدعي صداقة الرجل الذي ثلبته وشتمته، ومهدت لشتمه بأحقر الوسائل.
قلها. ورزقك على الله!!!
أما سيد قطب. فسمه أديبا. سمه باسمه مجردا. فسيظل هو هو الذي أسقط عنك لحيتك المستعارة، وأثارك كل هذه الثورة وكشف للناس عن خبيئة نفسك، وحقيقة آرائك، ثم ها هو ذا الآن يمتحن رجولتك التي لا تثبت على رأي، ولا تواجه الخصوم و (الأصدقاء) بما يقابل به الرجال الرجال. أما أنك لم تفهم ما كتبت، فأبن الرومي يقول في هذا كلاماً أحيلك عليه إن كانت لك دراية به!
وقل بعد هذا ما تشاء، فلن اهبط مرة اخرى، ولن اجرف (الرسالة) ولا قراءها إلى حيث تابعناك قليلا في لغة الكلام
أما كلمتي اليوم عن العقاد، فعن كتابه (ابن الرومي. حياته من شعره) وإنما اخترت هذا الكتاب بالذات لأمور:
الأول: ما يدعيه خصوم العقاد من أن الصحافة تساعده، وتشهر مؤلفاته ولا تقبل نقالات النقد التي يكتبها نقاده.
والثاني: أن هذا الكتاب مظهر من مظاهر عبقرية العقاد الفنان والناقد. والبصير بالطبائع والفنون
والثالث: أن فيه تصحيحاً لكثير من النظرات الفنية وشرحاً لكثير مما نتحدث عن من (أدب الطبع)
فماذا كتب في الصحف عن هذا الكتاب الفريد؟
إنها بضع كلمات بين ثناء كالإعلان، أو نقد كالشتائم. وهي في مجموعها لا تساوي ما يكتب عن مؤلف صغير لأديب ناشئ
والحقيقة أن ذلك نصيب كتب العقاد كلها من الصحف، فإذا استثنينا (وحي الأربعين) والمعركة التي دارت حوله وجدنا ما يشبه التعمد في إدارات الصحف للسكوت عن كتب العقاد.
وقد طالما سمعت أصدقاءه يشكون لأن مقالاتهم عنه دفنت في مكاتب رؤساء التحرير!
وتلك ضريبة العظمة التي يسددها العقاد!
وإنه لمن المفزع أن يعقد الإنسان موازنة بين كتاب ابن الرومي وصداه بقوله حتى ليحس إنما ألقى به في موماة تائهة لا حياة فيها ولا إحساس. لا تستطيع إلا العبقرية دون سواها من المواهب الإنسانية أن تخرج هذا المؤلف على هذا النحو.
ولكي نعرف معنى هذا المقال يجب أن نستعرض (ابن الرومي) قبل هذا الكتاب وبعده، ثم نستعرض فهم الأدب والحياة، وفهم الفنون والطبائع قبل صدوره وبعده
فماذا كان ابن الرومي قبل كتاب العقاد عنه؟
إنه كان بضعة أخبار متناثرة في ثنايا بعض كتب الأدب والتاريخ القديمة أغلبها عن طيرته وتشاؤمه، وأقلها عن حياته ومعاشه. بضعة أخبار ضئيلة هب كما قال عنها الكاتب العظيم: (ومثلنا في ذلك كمثل المنقبين في المحفورات، إذ يعترون ببعض العظام المهمشة من جسم مدثور فهم يقيسون المفقود على الموجود، ويصنون بما وجدوه على الضياع، ولو لم يكن به قوام)
وماذا صار بعد كتاب العقاد؟
إنه صار إنساناً حياً، نراه ونأنس به، وندرك خفايا ضميره وخوالج نفسه، ونعرف حركاته وسكناته، ومن ورائها أسبابها وبواعثها، ولم تعد تخفى علينا ملامحه بين الملامح الكثيرة
وليس هذا بالشيء القليل، ولا بالميسور لكل كاتب. ولكنه ليس الكسب الوحيد الذي تخرج به، فقد عرفنا شكل خلقته بمحاسنها وعيوبها، وعرفنا أخباره وسيرته في لبابها، وعشنا معه في داره، ورافقناه في غدواته وروحاته، وعلمنا أسفاره ورحلاته، وشاهدنا ما حدث له من خير وشر، وما لاقاه من نعيم وجحيم
ولم نعرف هذا وذاك وحدهما، فقد تصورنا في لمحات سريعة صورة العصر الذي كان يعيش فيه، بل عشنا في صميم هذا العصر بضع ساعات، ولقينا شخصيات هذا المجتمع، وفهمنا طباعهم الغالبة، وسيماهم الظاهرة والباطنة، وكدنا نكابد ما كانوا يكابدون من تقلب الصروف، وألاعيب السياسة، وأعاصير الانقلابات، وتيارات الدسائس. . إلى آخر ما يعرفه المطلع البصير من مجتمع يعيش فيه فعلاً، ويدرج بين أهله وعشيرته
وما تستطيع غير العبقرية أن تنفخ الحياة في العظام النخرة بعد أن تكسوها لحماً وتملؤها دماً، وتنفث فيها من الخوالج والخواطر ما يفهمها حساً وفكراً. وما تستطيع غير العبقرية أن تنفخ في ميت العصور روحاً، وتبعث هوامد السنين حية تتحرك وتمر مرها في الفلك ودورات النجوم من جديد
ولكن هذه القدرة الخالقة، لم تقف عند هذا الحد، ولم يكن ابن الرومي ولا حياته، ولا فنونه ومزاياه، هي التي أفادت من هذه القدرة حياة. . بل لم يكن هذا إلا أقل ما في الكتاب من مزاياه
وإنما الميزة الكبرى - في نظرنا - هي البيان العجيب للفن والحياة والبائع الإنسانية، وشرح العبقرية الفنية وحدود النظر للأدب نظرة صحيحة، وتصحيح كثير من الأغلاط الشائعة في ذلك قديماً وحديثاً. بحيث تصلح فصوله أن تكون ديواناً للنقد البصير الحصيف في الأدب العربي، ومقوماً للطبائع والأذهان والافهام، لمن يجد في نفسه استعداداً للإفادة
اسمعه يتحدث عن (عبادة الحياة) في أدب ابن الرومي: (حب الحياة خليقة نادرة، وإن ظن أنها اعم شيء بين الناس وعامة الأحياء، فليس الحب - سواء حب حياة، أو حب شيء من أشيائها - سهلاً رخيصاً يطمع فيه كل من يريد. فمن الناس من يحب الحياة وكأنه مسوق إلى حبها، ومنهم من يحبها كأنه مأجور على عمله، ومنهم من يحبها كأنما يحب شيئاً غريباً عنه؛ ومنهم من يحبها كما (يحب) الحيوان الأعجم ما هو فيه؛ ومنهم من يحبها حب العاشق الذي يختار معشوقه، أو يستوي عنده الحب على القسر والحب على المشيئة، لأنه يريد ما يقسر عليه ويأبى أن يفرض للفراق وجوداً، أو يتوقع لهواه تغيرا، فهو سعيد بأن يحب، وان يسمح له بأن يحب؛ وهو يحب الحياة لأنه حي لا موت فيه، ولا عمل لكل حاسة في نفسه إلا أن تحس وتحيا، وتستجد إحساساً وحياة، ولا تشبع من الإحساس والحياة. وهكذا كان ابن الرومي يعبد الحياة عبادة لا يبتغي عليها أجراً غير ما يبتغيه خلص العابدين. فكان حياً كله لا مكان فيه للموت إلا الخوف منه والتفكير فيه)
وإنك لتقرأ هذا فتعجب لانتباه العقاد لكل ألوان (حب الحياة) وفهمه لأصحاب هذه الألوان وطبائعهم، وتعرف أن ذلك وليد إدمان اطلاع وملاحظة للنفوس والآداب، ولكنك خليق أن تقدر وراء الاطلاع والملاحظة طبيعة فائقة مستعدة للنفاذ في اطلاعها وملاحظاتها، وفي تقييد ما تلاحظه، وطريقة تقييده كذلك
وما التفت العقاد إلى هذا كله إلا لأنه في خلة حب الحياة كابن الرومي مع الفرق بين طبيعته الصارمة، وطبيعة ابن الرومي المتماوجة. نعم هذا سر التفاته للحياة ومحبيها وطرائق حبهم وطبيعتها. ودواوينه فائضة بدلائل هذا الحب بل العبادة للحياة
ثم يتحدث عن (حب الطبيعة) بمناسبة حب الشاعر القديم لها:
(وصف الطبيعة شعراء كثيرون، ولم يمنحها الحياة إلا قليلون! أما الذين منحوها حياة نحبها وتحبنا، ونعطف عليها وتعطف علينا، ونناجيها وتناجينا، فأقل من هؤلاء القليلين.
وذاك أن الشاعر قد يؤخذ بأحمرها وأبيضها وأصفرها وأخضرها، ويفتن بما فيها من الزراكش والأفانين، ثم لا يعدو بذلك أن يمدح شيئاً قد يجد مثله في ألوان الحلي وأصباغ الطنافس ونقوش الجدران. أو نحن نخطو وراء ذلك خطوة فنقول: إنه لا يعدو بذلك أن ينظر إلى دمية فاتنة، يروقه منها وجه مليح، وقوام ممشوق وحسن مفاض على الجوارح والأوصال ولكنه لا يتطلع منها إلى عطفن ولا يفتش فيها عن طوية.
وقد يستريح الشاعر إلى الطبيعة لأنها ظل ظليل، ومهاد وثير وهواء بليل، وراحة من عناء البيت وضجة المدينة، فلا يعدو بذلك أن يستريح إليها كما تستريح كل بنية حية إلى الماء والظل والهواء. كذلك تهجع السائمة في المروج وكذلك تهتف الضفدع في الليلة القمراء.
وقد يمنحها الشاعر حياء من عنده، أو من عند الخرافات والأساطير، فإذا هي حياة بغيضة لا تصلح للتعاطف والمناجاة، ولا يصدر عنها إلا الفزع والإحجام، ولا تقوم بينه وبينها إلا الحواجز والعداوات.
أما الطبيعة التي تحب وتناجي، ويتم التعاطف بين الشاعر وبينها عن ثروة غزيرة من الشعر والشعور فهي طبيعة الحور الخافقات في الهواء، والعرائس السابحات بين الأمواج، والعذارى الراقصات في عيد الربيع، والجنيات الهامسات في رفرفة النسيم ورقرقة الغدير وحنين الصدى وحفيف الأغصان، وإن شئت فقل: إنها هي الطبيعة العامرة بما في البروق والرعود والسموات والأعماق من بطولة وعظمة ونضال جياش بالغضب الظافر والسطوة المجيدة والخطر المثير والشجاعة التي تقدم ولا تحجم وترجو ولا تخاف، أو إن شئت فقل: إنها هي الطبيعة التي تبث الأغراء في كل شيء حتى ليحذر الملاح لجة البحار مخافة أن تستهويه بنات الماء من وراء زرقة الأمواج فيثب إلى أحضانها وكأنما يثب إلى أحضان عروس طال بها عهد الغياب
فعلى هذا النحو تتجلى الطبيعة للعبقرية التي تحبها وتمنحها الحياة فليست هي دمية ولا حلية، وليست هي مروحة للهواء ولا مجلسا للمنادمة، ولكنها قلب نابض وحياة شاملة ونفس تخف إليها وتأنس بها، وذات تساجلها العطف وتجاذبها المودة، ثم هي عماد لا خواء فيه، وأسرة لا تبرح منها في حضرة قريب يناجيك وتناجيه، ويعاطيك الإخلاص وتعاطيه
وقد كان ابن الرومي يحب الطبيعة على هذا النحو ويستروح من محاسنها نفساً تتصبى الناظر إليها وتتبرج له (تبرج الأنثى تصدت للذكر) ويرى وراء هذه الزينة التي تبدو على وجهها عاطفة من عواطف العشق تتعلق بها العفة والشهوة تعلقها بالعاطفة الإنسانية الشاعرة)
هكذا يتحدث العقاد عن (حب الطبيعة) بالطاقة التي تحدث بها عن (حب الحياة) وبالشرح الوافي الذي تجده هناك
وليس من المصادفات أن يكون العقاد نفسه من محبي الطبيعة فهو إن لم يكن من طراز ابن الرومي، فعلى طراز يتفق وإياه في الأساس، ويختلف حين يكون حب العقاد ممزوجاً بالفلسفة، والوعي الفني لما يخالط نفسه من هذا الحب، وهو في هذا يتفق مع طبيعته، ويسير مع اتجاهه الخاص في حياته وتفكيره
ثم اسمعه يتحدث عن (التشخيص والتصوير) في ابن الرومي: (القريحة المطبوعة على إعطاء الحياة، مطبوعة كذلك على إعطاء الشخوص، أو على ملكة التشخيص
ولكننا نحب أن نستثني هنا ذلك التشخيص الذي تلجأ إليه ضرورة اللغة وتسهيل التعبير، مع المتكلم بما في كلامه من المجاز والمفارقة، فقد يتكلم الشاعر أو غير الشاعر عن الشمس بضمير المؤنث وعن القمر بضمير المذكر،، وقد يسند إليهما أفعال الأحياء العاقلة وغير العاقلة، ولكنه بعد تعبير لفظي ليس وراءه تصور، وليس وراء التصور - إن كان - اثر من الشعور، ولا سيما الشعور المتبادل بين طرفين متعاطفين وإنما المقصود بالتشخيص تلك الملكة الخالصة التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حيناً أو من دقة الشعور حيناً آخر. فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسموات من الأجسام والمعاني فإذا هي حية كلها لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة؛ والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر، ويهتز لكل هامس ولامسة، فيستعبد جد الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير، وتوقظه تلك اليقظة، وهي هامدة جامدة صفر من العاطفة خلو من الإرادة. وهذا الشعور الدقيق هو شعور ابن الرومي بكل ما حوله وسبب ما عنده م قدرة الأحياء وقدرة التشخيص: قدرة التشخيص التي هي ملكة مقصودة تكون عند أناس ولا تكون عند آخرين، وليست قدرة التشخيص التي هي حلية لفظية تلجئنا إليها لوازم التعبير ويوحيها إلينا تداعي الفكر وتسلسل الخواطر)
وعلى هذا النحو البارع يمضي العقاد في تصوير ملكات ابن الرومي مستطرداً إلى بحث كامل في الملكات عامة، يبين صحيحها من زائفها، ويكشف عن وشائج هذا بذلك مستلخصاً الصحيح من النظرات، ممحظاً خالصاً
وبمثل هذه البراعة يحلل الأمثلة التي يستعرضها من شعر ابن الرومي، ويكشف عن نواحي القوة أو الضعف فيها؛ فإذا الرجل شاخص وراء هذا التحليل، تطالعك نفسه كالصفحة المبسوطة تحت المجهر الدقيق
هذه ومضات عن ذلك الكتاب الذي ظن أحد الكتاب عندنا أنه يمنحه أقصى حقوقه حينما قال عنه: (لو تقدم به صاحبه إلى أية جامعة لمنحته الدكتوراه!)
هه! الدكتوراه!
ومن يكون الأساتذة الذين يناقشون هذه الرسالة إذن ولمن يمنح (كرسي الأدب) في أية جامعة من جامعات الدنيا إذ ذاك؟
(حلوان)
سيد قطب