مجلة الرسالة/العدد 261/بين الرافعي والعقاد
→ بين العقاد والرافعي | مجلة الرسالة - العدد 261 بين الرافعي والعقاد [[مؤلف:|]] |
بين الرافعي والعقاد ← |
بتاريخ: 04 - 07 - 1938 |
القديم والجديد
نقد وتحليل
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
- 1 -
لعل من أسوأ سيئات عصور الانتقال ظاهرة التمرد التي تغلب على الناشئين فيها، فقد كان الناس قبل أن يبتلوا بعصر الانتقال هذا يرجعون فيما يختلفون فيه إلى أصول مقررة تستند إلى ما يسلمون به جميعاً من دين، أو عرف مستمد من دين، أو إلى أدب عريق تحددت أحكامه وتبينت معاييره ورسخت أصوله على طوال القرون. فلم يكن صغير يخرج على كبير في تحديد ما ينبغي، ولم يكن ناشئ يتطاول على أستاذ فيما يعلم أنه ناشئ فيه وإنه حديث العهد به. فكان الصغير إذا خالف في سلوكه رأى الكبير يخالف وهو يعرف أنه مخطئ، ولم يكن ناشئ مبتدئ في الأدب أو غير مبتدئ يخطر بباله - إذا لم يقتنع برأي أستاذه أو من هو في منزلة أستاذه في اللغة أو في الأدب أو في الدين في مسألة بدا له فيها رأي خاص - أن يعيب أستاذه أو يثلبه أو يصغره أو يحاول أن يعرضه لسخرية الناس. وكان الكبار إذا اختلفوا يتحاكمون إلى ما أجمعوا على التسليم به من الأحكام والأصول. فلم يكن الخلاف في المقاييس ولكن في طريقة القياس؛ لم يكن في القواعد ولكن في التطبيق. فكانوا سرعان ما ينتهي خلافهم إلى اتفاق إن كانوا ممن يبتغون الحق للحق لا للشهوة، أما الذين تأخذهم العزة بالإثم فلا ينزلون على حكم الحق وإن وضح فأولئك في كل عصر هم مصدر الشقاق والفراق، سواء أكان العصر عصر استقرار في المعايير أم كان فيها عصر اضطراب يشبه الفوضى كعصرنا الذي نعيش فيه
كان الأمر كذلك وكان الناس في راحة من أجل ذلك. كان يكفي أن يحتج أحد المتناظرين لرأيه بآية كريمة أو حديث شريف أو رواية في اللغة ثابتة تشهد لأحد الرأيين حتى ينزل صاحب الرأي الآخر على رأي الأول من غير أن يجد في نفسه غضاضة، لأنه في قرارة نفسه يعرف انه نزل على حكم الآية أو الحديث أو الرواية الصادقة، وهذه عنده أحكام يجب أن تطاع وأصول يجب أن تتبع، والغضاضة كانت عنده والهوان في مخالفة تلك الأحكام والأصول بعد أن وضح له وجه الحق منها، لا في مخالفتها نزولا على حكم الهوى والشهوة. وكان الأمر في ذلك كله مداره الدين وعلمُ المرء أن الله سائله عن الحق لَم لمْ يتبعه وقد وقر في نفسه، وعن الباطل كيف اتبعه ولبس به الحق رغم ضميره ورغم قلبه. فكان هذا الوازع الداخلي حاملاً على الحق صارفاً عن الباطل حق الضعف في الناس على الأخص بفشو هذا التجديد الذي يستمد كل قوته من جلال الغالب في نفس المغلوب
ومسألة القديم والجديد عمرها لا يكاد يزيد على ثلاثين عاما أثارها في الناس نفر تثقفوا ثقافة غربية من غير أن يكون لأكثرهم من الثقافة الإسلامية نصيب مذكور. والغرب والشرق على طرفي نقيض لا يلتقيان كما يقول رديارد كبلنج، وإن كان من الممكن أن يلتقيا في العلم الذي هو مفخرة الغرب والذي هو جزء من الإسلام الذي يدن به الشرق. لكن الذي أثاروا مسالة القديم والجديد لم يكونوا يعرفون، ولعل أنصارهم لا يزالون يجهلون أن العلم الذي ظهر به الغرب هو في الإسلام جزء من الدين، وأن المدنية الغربية ليس فيها ما يستحق أن يطلب ويؤخذ إلا ذلك العلم الطبيعي الذي اهتدى إليه الغرب بالعقل والتجربة، والذي يمثل فطرة الله التي فطر عليها الأشياء. أما فطرة الله التي فطر عليها الناس فتلك يمثلها الإسلام عن يقين فكأن الغرب والشرق قد اقتسما علم الفطرة: عَلِمها الغرب في الماديات بالعلم والتجربة وعلمها الشرق في الروحانيات والاجتماعيات بالدين والوحي. فكان الشرق مخطئا حين لا يأخذ بعلم الغرب، وكان الغرب ضالا حين يخالف الإسلام كما أنزله فاطر الفطرة على محمد عليه الصلاة والسلام. وكان سبيل الكمال لهما معا وللإنسانية أن يجتمعا على العلم والدين، علم الغرب الطبيعي ودين الشرق الإسلامي، فيجتمع لهما بذلك علم الفطرة ونظامها في المادة والروح. وكان هذا أيضاً هو سبيل التجديد الصحيح لمن يريد أن يكون مجدداً مصلحاً، يجدد للشرق شبابه ومجده من غير أن يعرضه لشر ما يهدد الغرب من أخطار. وهذا هو السبيل الذي دعا إليه جمال الدين الأفغاني وسار على آثره فيه محمد عبدة. لكن دعاة التجديد الذين جاءوا بعدهما ممن لم يكن لهم مثل علمهما ولا بصرهما بالإسلام ضلوا سبيل الدعوة وصدّقوا الغرب في ظنه الذي ظن بالإسلام من أنه كان سبب تأخير الشرق. ولما لم يطيقوا أن يهاجموا الإسلام مواجهة فيدعوا الناس صراحة إلى نبذه، عمدوا إلى مهاجمته مداورة بدعوة الناس إلى قبول كل ما عليه الغرب إن كانوا يريدون أن يكون لهم ما للغربيين من قوة وحياة. وزعموا للناس أن المدينة الغربية كل لا يتجزأ، فأما أن تؤخذ كلها أو تترك كلها، إما أن تؤخذ باجتماعياتها وأدبياتها وعلمياتها وإما لا يؤخذ منها شيء. فوقع الناس بهم في مصيبة طامة وفتنة عامة لأن الناس يلمسون قوة الغرب ويريدون أن يكون لهم مثل قوة لينجوا مما هم فيه من رقه واستعباده. فإن كان حقاً ما يزعمه لهم دعاة التجديد الغربي من أن لا سبيل إلى ذلك إلا بأخذ المدينة الغربي بحذافيرها فليس لهم فيما يبدو مفر من ذلك ولو كان في ذلك خروج على الإسلام. ونجحت حركة الالتفات التي قام بها دعاة الغرب ضد سلطان الإسلام في نفوس من أصغى إليهم من الناس حين ألجئوهم إلى أن يميزوا أنفسهم ذلك التمييز بين الإسلام وبين القوة والحياة، من غير أن يتعرض أولئك الدعاة في سبيل ذلك الخطر الذي كانوا تعرضون له من غير شك لو أنهم دعوا الناس مباشرة إلى نبذ الإسلام. وأصبح الذين أصابتهم فتنة ذلك التجديد كمن أحاط به العدو لا بد له من الموت أو التسليم، أو كمن وجد نفسه مضطراً إلى الاختيار بين قتل ولده وبين الحياة. ولقد كان سهلاً على من وقف هذا الموقف من الناس أن يفك عن نفسه ذلك الحصار ويخرج من ذلك الاضطرار الوهمي لو أنه كان يعرف حقيقة دينه وتاريخه حتى صدر الخلافة الراشدة على الأقل، لكن أولياء أمور المسلمين عفا الله عنهم وتداركهم بهدايته وتسديده كانوا ولا يزالون يهملون تعريف المسلمين بدينهم، وتنشئ أبنائهم وبناتهم في الروح الإسلامي بالتربية الإسلامية. ومن هناك كان المسلمون عوناً لعدوهم على أنفسهم. ومن هناك كان كل ما أصاب أولئك (المجددون) من نجاح، وما يهدد الإسلام في بلاده وفي نفوس أهله من خطر. ومن هنا أيضاً هب لدرء هذا الخطر فريق من المجاهدين المحتسبين الذين آتاهم الله فقهاً في الدين وقوة في الجنان وبسطة في البيان، وفي طليعة هؤلاء كان الرافعي رحمة الله عليه فالمسألة بين القديم والجديد كما يسمونها ليست مسألة اختيار بين أدب وأدب وطريقة وطريقة، ولكنها في صميمها مسألة اختيار بين دين ودين. فالذين يسمون أنفسهم أنصار التجديد يؤمنون بالغرب كله ويريدون أن يحملوا الناس على دينهم هذا ولو خالف الإسلام في أكثره. والذين يسميهم هؤلاء أنصار القديم يؤمنون بالإسلام كله وبالقرآن كله ويأبون أن يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض، أو أن يدينوا للغرب مؤمنين به من دون الله. وكل الخلاف بين أنصار (القديم) وأنصار (الجديد) منشؤه هذا ومرده إلى هذا. هؤلاء مثلاً يريدون متابعة الغرب في السفور والاختلاط لينعموا بالحب! كيفما شاءوا، وأولئك يرون السفور والاختلاط مفسدة أي مفسدة لأن الله وهو أعلم بخلقه نهى عنهما في الكتاب. هؤلاء يريدون متابعة الغرب في ألا يتزوج متزوج إلا واحدة، وأولئك يرون إباحة تعدد الزوجات لأن الله سبحانه أباحه في الكتاب. هؤلاء يريدون التسوية بين الذكر والأنثى في كل شيء ظناً منهم أن الغرب يسوي بينهما، وأولئك يرون غير ذلك فيما لم يسوّ الله بينهما فيه في الكتاب. هؤلاء يرون الإسلام ديناً عربياً أنزل للعرب ولا يلائم إلا العرب، وأولئك يعتقدونه دين الإنسانية الكامل أنزل للناس كافة بما يضمن صلاح الناس كافة غير متقيد بزمان ولا متخصص بمكان كما نص الله عليه في القرآن وكما يتجدد عليه في كل عصر البرهان
ثم أنصار (الجديد) يضيقون ذرعاً بالقيود الأخلاقية التي قيد الدين بها الناس فيما يعملون وفيما يقولون، ويريدون أن يتحللوا منها فيزعموا للناس أن هذه الأخلاق وقيودها إن هي إلا عرف وتقاليد، وإن التقيد بالعرف والتقاليد في الفن والأدب يعوق الفن ويحول دون ترقي الأدب، فيجب إذن إطلاق الفن وتحرير الأدب من تلك القيود. ومن هنا نشأ خلاف آخر بين الفريقين نقل العراك بينهما من ميدان الاجتماع إلى ميدان الأدب. فأنصار الجديد يدعون إلى الفن العاري والأدب المكشوف ويّدعون للفنان والأديب حرية في القول والفعل لم يأذن الله فيها لإنسان، وأنصار قديم الإسلام يدفعونهم عن هذا ويحدون حرية الفنان والأديب بما حد الله به حرية كل إنسان من قيود الدين والأخلاق وإلا عمت البلية بالأدب وصار شراً ووبالاً على الناس. وأتسع الخلاف وتشعب بين الفريقين. بمضي أنصار الجديد الغربي في توهين السد الإسلامي الذي يجدونه قائماً في وجوههم أينما تلفتوا فيزعمون للناس من طرف خفي أن القرآن من صنع عبقري لا من صنيع الله، وأنه آية فنية لكنه آية فنية إنسانية لا معجزة إلهية، وإذن فينبغي أن يخضع لما يخضع له كل عمل إنساني من النقد والفحص والبحث العلمي فيما يزعمون، ويهب لدرء هذا الإفك العظيم كل كريم نجد من رجال الأدب أو غير رجال الأدب من المسلمين، ويقاتلونهم على إعجاز القرآن وحرمته وتقديسه، ويدعونهم إلى خطة إنصاف ليس من إنصاف بعده: إما أن يتركوا القرآن وشأنه لا يتعرضون له بشيء إن كانوا لا يؤمنون به، وإما أن يذكروه ويدرسوه إذا قدروا على دراسته، ولكن بنفس روح الاحترام والاحتياط والإجلال الذي يدرس به العلماء الشمس والنجم والبحر وما إليها من الظواهر الكونية الثابتة التي لا يد في خلقها للإنسان. وهي كما ترى كلمة سواء غاية في الإنصاف، لو كان لدى أنصار الجديد الروح الذي يقضي بقبولها لما كانت هنالك تلك المرارة في القتال التي جلبها عدم قبولهم شطر الكلمة الأول، ولاصطلح الفريقان وتحابا واجتمعا على التجديد الحق في الأدب وغير الأدب لو أن أولئك قبلوا شطر الكلمة الثاني. وإذن لما كان هناك أنصار جديد وأنصار قديم، ولكن فئة واحدة من المجددين المصلحين الذين يعملون بالحق للحق ضمن دائرتي العلم والدين اللتين يشملهما الإسلام جميعاً
إن من اشد ما يؤسف له أن تفترق قوة أولى القوة في الشرق هكذا فرقتين، إحداهما تهدم والأخرى تدفعها عن الهدم، فيشغل الفريقان جميعاً عن التجديد والبناء وعدوهما واقف لهما بالمرصاد. لكن التمني لا يجدي والواقع هو الواقع. فستستمر المعركة بين أنصار جديد الغرب وأنصار قديم الإسلام كأشد وأحمى ما تكون حتى يقضي الله بينهما حكمه. ومهما يكن من ذلك فالموقف بين الفريقين هو في صميمه كما صورنا. وعلى أساسه يمكن النقد في غير كبير عناء أن يضع الأمر بينهما في نصابه فيما كان وفيما يجد من خلاف. وسنضرب فيما نستقبل من الكلمات مثلاً لذلك بتبيين وجه الحق فيما احتدم حول أدب الرافعي رحمه الله من جدال.
محمد أحمد ألغمراوي