مجلة الرسالة/العدد 251/تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
→ التاريخ في سير أبطاله | مجلة الرسالة - العدد 251 تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة [[مؤلف:|]] |
في عيد الربيع ← |
بتاريخ: 25 - 04 - 1938 |
فرديناند برونتيير
1894 - 1906
للأستاذ خليل هنداوي
- 3 -
خلال العوالم النفسية
إن علم النفس - في كلا العصرين المدرسي والإبداعي - لم يصل إلى القول بأن كل شئ في النفس الإنسانية واضح جلي. وكورنيي وديكارت يؤمنان بهذا الوضوح. أما راسين ومدام فايت وروسو فلا يؤمنون إيمانهما
يقول هرميون لأوريست؛
- من قال لك. . . إنني قلت لك إنني قتلت (باروس) ولكن هذا ليس إلا جزءاً من نفسي الذي أبغضه وأريد نسيانه وأريد جزءاً آخر يقول عكس هذا
والأميرة (كلاف) لا تعرف ولا تريد أن تعرف لماذا لم تحب (كلاف) ولماذا أحبت (آخر) بدلا منه. إنها تناضل ولكنها لا تستطيع أن تفسر أسباب هذا النضال
أصحاب المدرسة الإبداعية قد أحبوا الأهواء المضطربة، وملئوا رواياتهم بالمشاعر المظلمة، والنفوس التي يناقض بعضها بعضاً، ولم يجهلوا أن كل شخص إنما هو عالم بذاته بل جملة عوالم مختلفة. ولكن هؤلاء كأولئك قد جربوا أن يعملوا من هذه العوالم عوالم عقلية حيث يمكن النفاذ بوضوح من الأعمال إلى الأسباب. وقد أعطوا أمثلة على ذلك أسلوبهم الذي يعبر - بنظام عن الفوضى - وبوضوح عن التشويش
وهكذا كان علم النفس في المدرسة الاتباعية واضحاً لأنه يرى أن كل شئ يمر بالنفس، وكل شئ في النفس بالشعور. وبين المادتين - سواء تعاكسا أو اتحدا - يمكن دائماً أن نجد مذهباً واضحاً قابلا للتحليل. ولكن هذه النظرية (الديكارتيه) قد تحورت في القرن الثامن عشر (إذ ليس الإنسان ما يريد أن يكونه، أو ما تسمح له نفسه بأن يكون. فالمادة تعمل فيه وتؤثر فيه وهو يحتمل تأثير المناخ والبيئة، وهو يخضع لجسده ولكل ما يؤثر في جسده.
وإن للمناخ والوسط تأثيراً كلياً وباستطاعتهما أن يغالبا الطبع الذاتي، ناهيك بأن التأثيرات التي تأتي من الجسد هي حالات وصدف تفر من كل منطق، ولقد تكون حياتنا الباطنة - في كثير من مواطنها - خالية من العقل
فالوراثة التي جعل منها - زولا - قاعدة علم النفس تستطيع أن ترتب الحوادث النفسية على حوادث سابقة. وأصحاب هذا المذهب يخضعون التحليل العلمي للمنطق العقلي، ويرجعون الحوادث النفسية لحالات عضوية خاضعة لنظم المادة. ولكن هذه المادية قد حطمت والتحليل العلمي قد نوقش فكان صبيانياً!
وهاهنا تظهر مبادئ علم النفس المدرسي التي ظن أنها تهدمت. فان بعض علماء ما وراء الطبيعة من الألمان - كشوبنهاور وهارتمان - جربوا بأن يقولوا: إن العالم لا يُقاد بالعقل، وإنما يقاد بالإرادة دون أن تحسب حساب نفسها، ودن أن تقلق لكونها حقه منطقية. ولقد كان لفلسفة (شوبنهاور) تأثير ذائع في فرنسا حول سنة 1880 وهي ولا ريب تمت بصلة إلى علم ما وراء الطبيعة. ولكنها تعتمد في كثير من أصولها على نظريات نفسية طبية.
فإن آثار العالم - شاركوا - 1870 - 1890 تعمل على إثبات النظرية القائلة بأنه يمكن أن ينشأ في العقل من موضوع واحد أفكار وإيرادات مجهولة لا يعيها العقل الواعي؛ ولكنها تؤثر في الجسم تأثيراً أشد وأوسع مدى من تأثيره
والعالم - ريبو - بدرسه لأمراض الذاكرة والإرادة يثبت أن فينا - ذاكرات - لا نعيها ولكنها تحيا في أنفسنا منتحيه بعيدة، وباستطاعة داء ما أن يوقظها ويحيها. (وبطرس جابي) أقر بأنه يمكن في الكائن الواحد أن تقيم نفوس متعددة، كل نفس لها عالمها، وكل نفس تظهر بدورها. والفلاسفة أنفسهم يغادرون العالم الواعي ويفتشون عن المسائل الكبرى في عالم غير واعي حيث لا سلطه للعقل ولا للمنطق. والطبيب الكبير (فرويد) انطلق إلى دراسة الغريزة الجنسية وقال: إن فينا كائنين، كائناً طبيعياً يلائم طبيعتنا، وكائناً سطحياً يأتي بتأثير التربية والمجتمع. وشعورنا لا يريد أن يعرف إلا الثاني، ولكن الأول هو الذي يبقى قادراً قاهراً. وهو الذي يطلب ألينا في أعماق أنفسنا حركة أو حلماً أو جنوناً أو جريمة. وهذا التحليل النفسي - في عدم الوعي - لا يبقى مغلولاً في درس الحالات الشاذة. والفيلسوف - برغسون - يجد أن الشعور أو الوعي إن هو إلا جزء من كوننا العقلي وليس له دور لتحليل شئ أو عمله أو تفهمه. دوره دور عملي. . . وهو يوضح في بعض الأحيان نقطة الأشياء التي يجب أن نعمل عليها، والناحية من الفكر الذي يستطيع أن يعمل. ولكن عقلنا وشخصيتنا قد يفوقان هذا القسم غير الواعي. وعند برغسون وغيره من الفلاسفة يصبح غير الواعي شكلاً من الحياة الروحية، والينبوع الخفي العريض العميق حيث تجري يرقة حياتنا الواعية المنطقية. . . ونحو هذا الينبوع اتجه الرمزيون - منذ أعوام - والروائيون
المؤثرات الأجنبية في الأدب الفرنسي
لم تكن رواية تولستوى ودوستوفسكي رواية رمزية ولا مبهمة ولا رواية لا شعورية. على أنها في بعض نواحيها تحمل طابع الثقافة الفرنسية المدرسية على أنها أثرت في الطريقة التي جاءت بها الرمزية. فأشخاصها - ولا سيما أشخاص تولستوي - هم أقل اعتناء بالأفكار من المثل الأعلى، وأقل ضجراً في تحليل أنفسهم من أن يجدوا في أنفسهم بساطة عميقة. ويظهر أنهم يجهدون النفوس ليتفوقوا على ذواتهم المفكرة المعقدة ليبلغوا ذاتاً بسيطة غريزية حيث يجدون سبب حياتهم. فعقلهم وإرادتهم المفكرة تعترضهما اندفاعات لذة عابرة يحتملانها بتوبيخ ولذة. هذه رواية نفوس ابتدائية أو وحي نفوس قد تكون كثيرة الدعوة إلى المثل الأعلى، ولكنها عاجزة عن إيجاد مثلها الأعلى في الثقافة العقلية
وهنالك تأثير (إبسن) ورواياته المسرحية! ففي مسرحياته موضوعات شديدة عنيفة لأنه كتب في بلد ذي تقاليد راسخة، وأخلاق مفرطة. عمل (ابسن) على تحرير الفرد من حالة خانقة ومن أنانية متسيطرة. أراد أن يحيا الإنسان حياته فلا تكون المرأة عبدة للرجل ولا الأبناء عبيداً للآباء والأجداد. وهذه الموضوعات كانت سبب نجاح (ابسن) وقد لا يكون فيها ما يغري كثيراً ولكن في (ابسن) شيئاً وعبقرية. فان أشخاصه في الوقت الذي يعرفون فيه بوضوح ماذا يريدون، وعندما يفهمون أنفسهم، ويتفاهمون ما بينهم تراهم لا يحللون أنفسهم، ولا يتناجون ما بينهم محللين أنفسهم كالأشخاص في المسرح المدرسي والحساب الذي يجعلونه منهم يبدأ ثم ينتهي قصيراً. ولقد يخونون أنفسهم وقد تكون هذه الخيانة اندفاعية. وعملهم لا يظهر إلا لكي يعبر عن ضجرهم، وكثيراً ما لا يفهمون أنفسهم، ولا يفهمهم غيرهم. يشعرون بأنهم وحدهم ويحسون أنهم منقادون بما لا يُعرف نحو ما لا يُعرف في خباية من الأسرار والحرقة مما لا يندى منه الرواية إلا قليلاً. ثم يأتي زمان يحسون فيه رموزاً - رموزاً لا أفكارا صافية، ولكنها هادئة لا مضطربة. الحياة ليست خلاله منتظمة ولكنها معكوسة فيه كثيراً، والفن أو عدم الفن يشدد تأثير العمق والأسرار
(يتلى)
خليل هنداوي