مجلة الرسالة/العدد 251/التاريخ في سير أبطاله
→ ليلى المريضة في العراق | مجلة الرسالة - العدد 251 التاريخ في سير أبطاله [[مؤلف:|]] |
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة ← |
بتاريخ: 25 - 04 - 1938 |
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
- 9 -
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم
وكان لنكولن يرى في هذا الطواف مدرسته التي يتلمس فيها المعرفة وأي معرفة هو أحق بها من دراسة طباع الناس والوقوف من كثب على أحوالهم بل والنفاذ إلى سرائرهم وخلجات نفوسهم؟ أي معرفة هو أحق بها من هذه وهو في غد رئيس الولايات ومحطم الأصفاد؟
لذلك كان في طوافه إذا فرغ من عمله يغشى المجالس وينطلق إلى البلاد القريبة فيسمع ويرى، ويأخذ بقسط من الأحاديث، ويدلي بآرائه إذا عن له أن يبدي آراءه في أمر ويستفهم الناس ويسألهم عن أمانيهم؛ وله مما يلقى إليه من القضايا هاد يرشده في تطلعه وتقصيه
ويظل هذا شأنه حتى ينتهي دور المحكمة فيعود إلى سبر نجفيلد وتنظر زوجه فإذا هو يدخل الباب وفي عينيه الحنين إلى زوجه وأولاده، وفي أساريره من البشر بقدر ما في جيبه من المال؛ ثم يدفع إليها بمظلة قديمة مهلهلة حائلة الصبغة يمسكها بعضها إلى بعض بخيوط ورقع، ويلقي إليها حقيبة اتخذها من رقعة بساط قديم بها من الأوراق ما ضاقت عنها جيوبه وما صغرت دونها قبعته، ويقبل على بنيه فيرفعهم على كتفيه وذراعه كالعملاق وهم فرحون يتسابقون إلى محادثته حتى لتضيع كلماتهم فيما يثيرون من زياط، وأمهم تكظم الغيظ لهذا الخروج على النظام
وكانت مدرسته في المدينة إذا فرغ من قضاياه الكتب يستوحيها، وإن له فيها لغنية ومتعة. وما تلك الكتب التي يقرأ اليوم؟ إنه شكسبير العظيم الذي رفع المرآة فانعكست فيها الطبيعة واضحة سافرة كأتم ما يكون الوضوح والذي مست ومضة من عبقريته القلب البشري فأنارت أكثر نواحيه، وهو مولع منذ حداثته بدراسة النفس البشرية والغور إلى أعماقها، ومن غير شكسبير يهديه السبيل؟ لذلك كان إذا تناول كتاباً من كتب القانون ساعة أو بعض ساعة ثم ألقاه عمد إلى مأساة أو ملهاة من آثار شكسبير فأكب عليها ونسي كل شيء سواها؛ فإذا أتى عليها فكر وفكر وظل شاخصاً ببصره في ثرى الأرض أو في لازورد السماء كأنما أخذته عن نفسه حال. . .
وكانت له في بعض آثار بيرون متعة، ومن بينها قصته العظيمة (دوجوان) وهو بين هذا وذاك يقلب صفحات التاريخ العام وصفحات تاريخ بلاده يستزيدها معرفة بأحوال الأمم ويرى فيها خطى البشرية في شتى مراحلها. أو ليس الزمان يسير به ليضعه بعد سنوات على رأس أمته؟
ومن عجيب أمر هذا العصامي أنه تناول فيما تناول من الكتب كتب العلوم وأخذ يدرسها وقد جعل لها ساعات من فراغه، فهذا علم النبات له نصيب من جهده، وذاك علم الحيوان له نصيب، ثم هذه الكهربة تصيب من عنايته حظاً ليس باليسير!
ولكن فيم العجب؟ وهل تضيق العبقرية عن شيء؟ أني وإن كنت أسلم بما للبيئة من خطر وبما للميل النفسي من اثر في توجيه المرء، أعتقد أن العبقرية إنما هي فوق ذلك، وأن العبقري مهما تناول من الأعمال فإنما ينفذ إلى لبابها بقوة نفسه. وهذا لنكولن لو لم يكن محامي أو رجل السياسة ما قعد به شيء عن أن يكون الشاعر الفحل! أو لو أنه أفرغ إلى العلم جهده وجعل للدراسة والتحصيل وقته لكان لنا منه العالم الفذ أو الفيلسوف المبتدع. ولقد تأتى له أن يقول الشعر في بعض المناسبات فجاء شعره صورة من نفسه تشعرك بساطة العظمة والسمو
وإنك لتحس الشعر في نفسه وتراه ينظر إلى الحياة والناس نظرة الشاعر؛ ولكن خياله لا يطغي على عقله كما أن عقله لا يأتي على نوازع قلبه. وإني أراه في ذلك أكثر الناس شبهاً بجوت شاعر ألمانيا الأكبر، ذلك الذي كان يجمع بين اللمعة الخيالية والنظرة العلمية والحكمة العملية. . .
وكان ابراهام قد بلغ أشده واستوى، وأخذت نظرته إلى الحياة والناس تزداد عمقاً وهو في أول العقد الخامس؛ وصار يحس كأن شيئاً يقلقه، شيئاً خفيّاً لا يدرك كنهه يقلقه ويحرك نفسه وينقبض له صدره أحياناً؛ فهل أخذت السياسة تدب في نفسه من جديد فهو يتأهب ويتحفز؟
ولاحظ أصحابه أن إمارات الحزن التي ارتسمت على وجهه منذ حداثته أخذت تزداد وضوحاً، فهو على الرغم من عذوبة روحه في أحاديثه وطلاقة بشره في قصصه، تنطوي نفسه على كثير من الهم لا يعرف مبعثه؛ وهو إذا خلا إلى نفسه فكر وأمعن في التفكير، وقد ترَّبد وجهه وانعقدت عليه كآبه مخيفة ينزعج لها خاطر من يراه؛ وكثيراً ما وافاه صديقه هرندن وهو على هذه الحال؛ وكثيراً ما سمعه يغمغم بمثل أنين المحزون. . .
وهو يدعي منذ زمن (أيب العجوز) أطلقها عليه الناس وهو في ريعان فتوته وربيع حياته، وذلك لما كان يظهر على وجهه من تجاعيد هي من أثر الهم لا من أثر السنين؛ وكان يسره أن يستمع هذا الاسم الجديد كما كان يسره أن يسمعهم يدعونه باسمه الآخر (أيب الأمين)
ما باله اليوم مهموماً وقد بسط الله له رزقه كثيراً حتى لقد باتت تجدي عليه المحاماة - على قناعة في الأجر - ما يزيد على خمسمائة من الجنيهات كل عام؟ أجل ما باله مهموماً وقد استطاع أن يلقي عن كاهله ذلك العبء الذي آده حمله زماناً، فلقد خرج من الدين الأهلي؟ يا ويح نفسه من هذا الهم الدفين الذي يتزيد منه على الأيام. . .
ليس غير السياسة يلقي بنفسه في غمرتها لتقوم أحداثها بين نفسه وبين همومها. ليس غير السياسة تشغله عن وساوسه وتباعد بينه وبين امرأته التي ما برحت تنغصه وتضايقه في غير موجب
إن زوجه تعيش اليوم من وراء كده في رغد؛ فهو يلقي إليها كل ما تصل إليه يده لا يسألها إلا أن تدفع له ثمن ما يطلب من الأشياء وهي قليلة؛ وما كانت له بالمال حاجة وهو الذي لا يعرف أبهة المظهر ولا تغتره شهوات الحياة. حسبه من المال ما يسد به رمقه ويستر به جسده، وأمر ذلك موكول إلى امرأته؛ ثم ما يفرج به الكرب عن بعض المساكين وهو يفعل ذلك في كثير من الأحيان على كره منها. أما هي فلا ترضى بغير فراهة المظهر وأناقة المنظر؛ تروح وتغدو في مركبة هي اليوم بعض ما تملك، وما رأى الناس زوجها في تلك المركبة قط؛ وتلبس من الثياب ما تحكي به أهل باريس، وتقتني من الأثاث ما تدل به على كثير من الزوجات. . . تفعل ذلك وإن كان زوجها ليطلع على الناس في حلل تطاول عليها العهد وقبعة متضعضعة متغضنة؛ على أنها تراه في ذلك هو الملوم، فهي ما زالت تهيب به أن يغير من عاداته وأن يعنى بهندامه، وهو لا يحفل إلا النظافة، حتى أنها لم تجد بدَّا آخر الأمر من أن تسكت وهي كارهة. . .
ولقد كان يهرب من المنزل أكثر الوقت، فيقضي النهار كله في محل عمله أو يقضي طرفاً من في أنحاء المدينة في بعض المنتديات أو في بعض الحوانيت، يتحدث إلى هذا ويسأل ذاك عن حاله، ويستشيره هؤلاء في أمر قضائي، ويعقد غيرهم حوله حلقة يتساقطون فيها الحديث، ثم يعود إلى منزله فيمضي الوقت في القراءة أو في ملاعبة أولاده؛ وإنه ليحذر في هذه الملاعبة أن تدخل زوجه الحجرة فجأة فتراهم يركبون ظهره وهو يزحف بهم على البساط، فتصرخ وتعكر عليهم صفوهم!
عجيب أمر تلك المرأة التي تحب بعلها وتعلي قدره ثم هي لا تفتأ تمد له من أسباب الشحناء والشقاق ما يخيل إليه أنها تبغضه، لولا أنه يعتقد أنها ما اختارته زوجاً - على الرغم مما وقع يومئذ منه في حقها - إلا لما تضمر من محبته والإعجاب به. . .
دخلت عليه مرة ومعه رجل من أصحابه، فسألته عن أمر كانت طلبت إليه قضاءه، فلما علمت أنه لم يقضه عنفته وولت محنقة فجذبت الباب وراءها فأحدث ضجة مزعجة؛ ونظر لنكولن إلى صاحبه وقد قرأ في وجهه الدهش، فقال وهو يبتسم ليخفي بابتسامته ما به: إن الأمر هين، وإن هذه عادة امرأته مردها إلى حدة مزاجها ولن يكربه ما فعلت بالباب فلعله يكفكف من حدتها
هذا طرف من حياة لنكولن في سبرنجفيلد بعد أن عاد من وشنجطون، وبعد أن انتهت الدورة الثامنة لطواف الهيئة القضائية في تلك الأصقاع؛ وإنه ليتطلب مخرجاً من هذه المدينة وما كان له من مخرج إلا أن تستثيره السياسة من جديد. . .
وآن للسياسة أن تدعوه إليها، وقدر لتلك الدعوة أن تجئ عن معضلة العبيد، فلقد باتت تلك المعضلة وهي كبرى المسائل القومية لا مناص من مواجهتها إذ صارت تحمل في تضاعيفها كل ما عداها من المسائل
ازداد ثراء أهل الشمال بسبب الصناعة، واتسع نطاق التعليم عندهم، وقوي نفوذهم وتسامت إلى الحياة نظرتهم، لذلك شاعت في الشمال حركة الدعوة إلى تحرير العبيد وتعالت أصوات الداعين واشتدت على الأخص حركة المنادين بالا يسمح بعد بانتشار العبيد في ولايات جديدة
وبقى أهل الجنوب أهل كسل وخمول، لا تزال حياتهم تقوم على الزراعة، والزراعة عندهم تقوم على أيدي العبيد، وازداد طلب القطن فاشتدت الحاجة إلى العبيد؛ لذلك ازدادت في الجنوب حركة التمسك بالعبيد، واشتدت على الأخص حركة المنادين بوجوب السماح للعبيد بالانتشار فيما عساه أن يضم إلى الاتحاد من ولايات
وماذا يخيف أهل الشمال من انتشار العبيد؟ إن للمسألة وجهاً آخر إلى جانب الوجوه الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، وجهاً لا يقل خطره إن لم يزد عن هاتيك الوجوه؛ وذلك أن التمثيل النيابي في أحد مجلسي الاتحاد، وهو المجلس الأدنى، كان قائماً كما رسم الدستور على قاعدة لمسألة العبيد فيها دخل كبير؛ وذلك أن كل ولاية كانت ترسل إلى ذلك المجلس من الممثلين عدداً يصغر أو يكبر حسب عدد سكانها. ومن عجب الأمور أن العبيد، ولم يكن لهم حق في شئ حتى في أنفسهم، قد أقيم لهم وزن في هذا الباب فقيس عدد السكان في الولايات بما يقطنها من بيض وعبيد على أن يعد كل خمس من العبيد بثلاثة من البيض؛ ومعنى هذا أن انتشار العبيد يزيد عدد ممثلي الولايات الجنوبية في المجلس الأدنى للاتحاد؛ أما في المجلس الأعلى (مجلس الشيوخ) فكان يمثل كل ولاية عضوان صغرت تلك الولاية أو كبرت. . .
ولقد كان أهل الشمال في الأصل أكثر عدداً من أهل الجنوب فكانت لهم بذلك أغلبية في المجلس ولكنها كانت أغلبية صغيرة؛ ولقد أخذ عددهم يزداد كما ذكرنا فظلت لهم الغلبة؛ ولكن أهل الجنوب يريدونها أن تكون لهم ولن يتسنى لهم ذلك إلا بانتشار العبيد
لذلك نرى أن معضلة العبيد كبرى المعضلات وأنها ناجمة من عوامل أساسية ترجع إلى كيان الاتحاد نفسه ولمن تكون السيطرة فيه: لأهل الشمال أم لأهل الجنوب؟ وهما قسمان متباينان مزقت بينهما عوامل البيئة، هذا إلى ما في المعضلة من عناصر خلقية إنسانية لها نصيبها من الخطر والاعتبار
ولما تقدمت بالاتحاد السنون أصبحت مسألة العبيد بحيث أن أدنى اضطراب فيها يؤدي إلى زلزلة في هيكل الاتحاد كله! ولقد فطن قادة الرأي إلى ذلك من أمر بعيد، وذلك حينما انضمت ولاية جديدة هي ولاية مسُّوري إلى الاتحاد عام 1820 ولنكولن يومئذ في الثانية عشرة، فلقد أصدر المجلس قراراً خطير الشأن عرف باسم (اتفاق مِسُّوري)، ومؤداه أنه لا يسمح بانتشار العبيد شمال خط عرض 36 اعني أن هذا الخط يفصل بين الولايات التي يسمح فيها بنظام العبيد والولايات التي يحظر فيها ذلك النظام
منذ ذلك اليوم يعمل الساسة على توطيد هذا الاتفاق وكان من أكبر الداعين إلى مراعاته دوجلاس ذلك الذي رأيناه منذ أعواميجلس إلى جانب لنكولن نائباً في مجلس مقاطعة ألينوس. ومما يذكر له في هذا الصدد قوله: (إن هذا الاتفاق أبدي وجوهري)
ولقد رأينا فيما سلف كيف كان دوجلاس ينافس ابراهام وهو يمد عينيه إلى الهدف، ورأينا كيف كان يأخذ الطريق على منافسه في كل شئ. وهاهو ذا اليوم وله في الحزب الديمقراطي مركز الصدارة، يرج البلاد رجة عنيفة بخطوة جريئة من خطواته
طلبت ولاية واسعة في الشمال الغربي هي ولاية نبراس كنسيكا إلى الاتحاد أن يضمها إليه، فسرعان ما عادت مسألة العبيد إلى الظهور كما عادت من قبل في عدة حوادث وآخرها أخذ تكساس من المكسيك
عادت المشكلة وتفاقمت، فهذه الولاية تقع شمال خط عرض 36 ومع ذلك قام رجال الحزب الديمقراطي يدعون إلى جعلها ولاية من ولايات العبيد! ولا تسل عما قام في الشمال إزاء ذلك من هياج وغضب ونفور، وهنا يخطو دوجلاس خطوته فيعلن أن قيام العبيد في ولاية أو عدم قيامهم أمر يجب أن يترك الخيار فيه إلى الولاية نفسها ولا عبرة بعد ذلك برأي مجلس الاتحاد. بذل دوجلاس كل ما في وسعه وهو يومئذ عضو في مجلس الشيوخ حتى اصدر المجلس قراراً بذلك، على الرغم من اتفاق مسُّوري وعلى الرغم من تصايح أهل الشمال وانزعاجهم
وسرت في الشمال موجة من الهياج والسخط لن يصفها كلام؛ ورأى كل من له حظ من الفكر أن هذا القرار الذي بذل دوجلاس ما في وسعه لاستصداره هو الجمرة التي سوف تتوهج بعد حين فتندلع منها نيران الحرب الأهلية. ولقد كانت هذه الخطوة من جانب دوجلاس، وما أعقبها من حوادث، سبباً في عودت لنكولن كره أخرى إلى ميدان السياسة وقام بين الرجلين من جديد جلاد وصراع
(يتبع)
الخفيف