الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 25/جواب رسالة حزينة

مجلة الرسالة/العدد 25/جواب رسالة حزينة

بتاريخ: 25 - 12 - 1933


للأستاذ مصطفى كامل

أترى في الناس أحداً ينفر من إنسان كان مريضاً بداء خبيث ثم بريء منه؟ وإن نفراً يقره الناس على هذا الخوف السخيف أم يستحمقونه؟ ثم مالفرق بين المرض الجسماني وبين السقطة الخلقية وكلاهما مرض قد يبرأ منه المريض؟

ثم ما ذنبه؟ أيمكن أن إنساناً يطلب المرض بمحض اختياره أم ترى أن المريض ضحية بائسة لا تتمنى على الله شيئا في الدنيا إلا البرء منه؟ ولو أن إنسانا ترك لمناه وهواه لما طلب إلا أن يكون صحيح الجسم سليم النفس

ثم ما فضل السليم على المريض أو الذكي على الغبي؟ وما فضل الكريم على اللئيم؟

هل يمكن أن يكون أحد من الناس من عمل نفسه، أم هو من عمل الأسلاف والبيئة والأجواء والتعليم والثروة وظروف الحياة؟ أليس الفرد نتاج ملايين من العوامل المتفاعلة التي تكوننا وتجعلنا في الصورة التي نحن عليها؟

أترى أحداً استطاع أن يكون ملكا ولم يرض، أو نبيا ولم يفعل؟ أو ثريا ولم يقبل؟ فوالله لو أن أمور الدنيا في مكنة الناس لكانوا ملائكة جميعاً

طبعت على ما فيَّ، غير مخير ... هواي، ولو خُيرت كنت المهذبا

كلما عرضت لي في أمور الحياة مثل حال هذه الفتاة، خطرت ببالي جملة رائعة ما أزال أذكرها (لبول بورجيه) في كتابه (التلميذ) قال: (أيمكن أن نحترم لاعب الروليت الذي يلعب عشر مرات متوالية على الأحمر والأسود، ألا إنما الفضيلة والرذيلة هما الأحمر والأسود، والفتاة الشريفة، واللاعب المحظوظ سواء في المواهب)

ألا إنما الفاضل من الناس فاضل بسبب الظروف التي عصمته، والمجرم من الناس مجرم بسبب الظروف التي أضعفته.

ولو أن المجرم وضع مكان العالم الورع الشريف وله نفس العوامل في الماضي، ونفس الحوادث في البيئة وأوضاع الحياة، لما كان إلا الرجل الفاضل الورع الشريف، ولو أن امرأة شريفة عرضت لها نفس عوامل المرأة التي سقطت لما ظلت امرأة شريفة، وإذن فما فضل إنسان على إنسان؟ الا أننا كلنا من عمل ما لا نملك في نفوسنا مما قد يرجع إلى م قبل وجودنا.

لقد كنت في إحدى القهوات مرة، فلمحت مربياً معروفاً خالس الناس وأخفى بيبة منسية في جيبه، وهو مع ذلك رجل معروف كان يجب أن يكون له من تربيته حصانة فلا يتدنى، ومن رزقه حائل فلا يسفل، ولو لم يكن من ظروف هذا الرجل ما يحميه من الإسفاف لما كان إلا من طريدي القانون.

وإذن فما ذنب مريض قد مرض برغم انفه، ثم بعد ذلك قد بريء، ومع ذلك فما معنى أن نجعل الماضي رجسا للحاضر ودنسا للمستقبل، لقد مات هذا الماضي ولم تعد له من علامات الحياة وا أسفاه إلا ذكريات من عمل الرؤوس وخيالات النفوس.

ليمض هذا الصديق في حبه، فليس في الدنيا كافة ما يعدل القلب المفعم بالحب بهجة ولذة وسعادة، ولينبض قلبه بهذا الحب قبل أن تسكن نامته، وليملأ بيته وعشه الجميل قبل أن يوحش قبره، ولينعم حياته بالأمل والحب والجمال قبل أن تجف الحياة.