مجلة الرسالة/العدد 25/الشافعي واضع علم أصول الفقه
→ جواب رسالة حزينة | مجلة الرسالة - العدد 25 الشافعي واضع علم أصول الفقه [[مؤلف:|]] |
في الأدب العربي ← |
بتاريخ: 25 - 12 - 1933 |
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق. أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية
الآداب
- 3 -
وكان الشافعي في أول أمره يطلب الشعر وأيام الناس والأدب. قال الشافعي: (وخرجت من مكة، يعني بعد أن بلغ قال: فلزمت هذيلا بالبادية أتعلم كلامها وآخذ اللغة وكانت أفصح العرب) ابن حجر ص50.
ثم توجه الشافعي إلى الفقه يدرسه وقد اختلفت الروايات في سبب توجهه إلى الفقه أو تكاد ترجع كلها إلى نصح الناصحين له: إن يصرف جهده وذكاءه في علم تكمل به سيادته من غير خطر على دينه ولم يكن يومئذ إلا الفقه سبيلا إلى ذلك
ويعبر عن روح الوقت من تلك الناحية: ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة: لما أردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم وأسأل عن عواقبها فقيل لي: تعلّم القرآن، فقلت: إذا تعلمت القرآن وحفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد ويقرأ عليك الصبيان والأحداث ثم لا تلبث أن يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو يساويك في الحفظ فتذهب رياستك، قلت: فان سمعت الحديث وكتبته حتى لم يكن في الدنيا أحفظ مني، قالوا: إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك الأحداث والصبيان ثم لم تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب فيصير عاراً عليك في عقبك، فقلت لا حاجة لي في هذا، ثم قلت: أتعلّم النحو، فقلت: إذا تعلمت النحو والعربية ما يكون آخر أمري؟ قالوا تقعد معلما واكثر رزقك ديناران إلى الثلاثة، قلت وهذا لا عاقبة له، قلت: فان نظرت في الشعر فلم يكن أحد أشعر مني، ما يكون من أمري؟ قالوا: تمدح هذا فيهب لك ويحملك على دابة أو يخلع عليك خلعة، وأن حرمك هجوته فصرت تقذف المحصنات، فقلت: لا حاجة لي في هذا قلت: فأن نظرت في الكلام فما يكون آخره؟ قالوا لا يسلم من نظر في الكلام من شنعات الكلام فيرمى بالزندقة، فأما أن يؤخذ فيقتل، وأما بسلم فيكون مذموما، قلت: فأن تعلمت الفقه؟ قالوا: تسأل وتفتي الناس وتطلب للقضاء وإن كنت شابا، قلت: ليس في العلوم شيء أنفع من هذا، فلزمت الفقه وتعلمته) - تبييض الصحيفة - ص11و12 وتفقه الشافعي أول أمره على (مسلم بن خالد الزنجي) مفتي مكة سنة 180هـ 796م مولى بني مخزوم، وقد اختلف النقاد في أمر مسلم فقيل: ثقة وقيل ضعيف وقيل: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث
ونقل: انه كان يرى القدر ولعل هذا هو سر تضعيفه
ويقولون: أن مسلم بن خالد الزنجي قال للشافعي: أفت يا أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي، وكان الشافعي حينئذ دون عشرين سنة.
وأخذ الشافعي في مكة عن: (سفيان بن عيينة الهلالي) المتوفى سنة 198هـ 813م أحد الثقاة الأعلام، روي عن بعضهم: أنه اختلط سنة 197هـ 812م.
ثم رحل الشافعي إلى المدينة ليطلب العلم عن (مالك بن أنس) فقرأ الموطأ على مالك بعد أن حفظه عن ظهر قلب في مدة يسيرة وأقام بالمدينة إلى أن توفي (مالك) سنة 179هـ 795م.
وخبر رحلته إلى مالك مروي على وجوه مختلفة تتفق كلها في أن الشافعي كان فقيرا لا يملك نفقة السفر على فرط شوقه إلى الأخذ عن إمام دار الهجرة.
ثم يسر الله له أسباب الرحلة، وأحسن مالك لقاءه لما تفرس من نجابته وفضله.
وتلقى الشافعي في المدينة عن غير مالك كإبراهيم بن أبي يحيى الذي يقول الرازي: اتفقوا على أنه كان معتزليا.
وخرج الشافعي إلى اليمن بعد موت مالك.
(قال الشافعي: لما مات (مالك) كنت فقيرا، فاتفق أن والي اليمن قدم المدينة فكلمه بعض القرشيين في أن أصحبه فذهبت معه واستعملني في أعمال كثيرة وحمدت فيها والناس أثنوا علي) الرازي ص 18.
وكادت الولاية تشغل بالشافعي عن العلم حتى نبهه بعض شيوخه فانتبه
قال الشافعي: كنت على عمل باليمن واجتهدت في الخير والبعد عن الشر، ثم قدمت المدينة فلقيت ابن أبي يحيى وكنت أجالسه، فقال لي: تجالسوننا وتسمعون منا فإذا ظهر لأحدكم شيء دخل فيه. ثم لقيت ابن عيينة فقال؛ قد بلغنا ولايتك فما أحسن ما انتشر عنك، وأديت كل الذي لله عليك ولا تعد قال الشافعي رضي الله عنه: موعظة ابن عيينة أبلغ مما صنع ابن أبي يحيى - الرازي ص 20
وقد أخذ الشافعي عن جماعة من أهل اليمن منهم مطرف بن مازن الصنعاني المتوفى سنة 191هـ 806م
وقد كذبه يحيى بن معين وقال النسائي ليس بثقة، وقال غيره كان قاضي صنعاء، وكان رجلا صالحا وعمرو بن أبي سلمة المتوفى سنة 214هـ 829م وهو صاحب الاوزاعي
ويقولون إن الشافعي جمع كتب الفراسة من اليمن واشتغل بها حتى مهر فيها
ارتفع شأن الشافعي في اليمن (ثم أن الحساد سعوا إلى هارون الرشيد، وكان باليمن واحد من قواده فكتب إليه يخوّفه من العلويين وذكر في كتابه: إن معهم رجلا يقال له: محمد بن إدريس الشافعي يعمل بلسانه ما لا يقدر المقاتل عليه بسيف، فإن أردت أن تبقي الحجاز عليك فاحملهم إليك. فبعث الرشيد إلى اليمن وحملوا الشافعي مع العلوية إلى العراق) الرازي ص18.
وتلك هي المحنة التي اقتضت دخول الشافعي العراق. وفي حديث هذه المحنة اختلاف كبير وقد يكون أسلم هذه الروايات من الحشو وأدناها إلى الاعتدال والقصد: ما رواه ابن عبد البر في كتاب (الانتقاء) قال:
حمل الشافعي من الحجاز مع قوم من العلوية تسعة وهو العاشر إلى بغداد وكان الرشيد بالرقة، فحملوا من بغداد إليه وأدخلوا عليه ومعه قاضيه (محمد بن الحسن الشيباني) وكان صديقا للشافعي وأحد الذين جالسوه في العلم وأخذوا عنه فلما بلغه أن الشافعي في القوم الذين أخذوا من قريش بالحجاز واتهموا بالطعن على الرشيد والسعي عليه، اغتم لذلك غما شديدا: وراعى وقت دخولهم على الرشيد قال: فلما أدخلوا على الرشيد سألهم وأمر بضرب أعناقهم: فضربت أعناقهم إلى أن بقى حدث علوي من أهل المدينة وأنا، فقال للعلوي: أأنت الخارج علينا والزاعم أني لا اصلح للخلافة؟ فقال العلوي: أن أدعى ذلك أو أقوله قال: فأمر بضرب عنقه، فقال العلوي: أن كان لابد من قتلي فأنظرني أكتب إلى أمي بالمدينة فهي عجوز لم تعلم بخبري، فأمر بقتله فقتل.
ثم قدمت و (محمد بن الحسن) جالس معه فقال لي مثل ما قال للفتى فقلت: يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي وإنما أدخلت في القوم بغياً علي؛ وإنما أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف بن قصيولي مع ذلك حظ من العلم والفقه والقاضي يعرف ذلك. وأنا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان ابن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف. فقال لي: أنت محمد بن إدريس؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين قال: ما ذكرك لي محمد بن الحسن ثم عطف على محمد بن الحسن فقال: يا محمد ما يقول هذا هو كما يقوله؟ قال: بلى وله من العلم محل كبير، وليس الذي رفع عليه من شأنه، قال: فخذه إليك حتى أنظر في أمره، فأخذني محمد وكان سبب خلاصي لما أراد الله عز وجل منه ص - 97 - 98.
ويقول ابن حجر في كتاب (توالي التأسيس) ص71 (وأما الرحلة المنسوبة إلى الشافعي المروية من طريق عبد الله محمد البلوي فقد أخرجها (الابرى) و (البيهقي) وغيرهما مطولة ومختصرة وساقها (الفخر الرازي) في مناقب الشافعي بغير إسناد معتمدا عليها وهي مكذوبة وغالب ما فيها موضوع، وبعضها ملفق من روايات ملفقة، وأوضح ما فيها من الكذب، قوله فيها: أن أبا يوسف ومحمد بن الحسن حرضا الرشيد على قتل الشافعي، وهذا باطل من وجهين: أحدهما أن أبا يوسف لما دخل الشافعي بغداد كان مات ولم يجتمع به الشافعي
والثاني أنهما كانا أتقى لله من أن يسعيا في قتل رجل مسلم لاسيما وقد أشتهر بالعلم، وليس له إليهما ذنب إلا الحسد على ما آتاه الله من العلم، هذا ما لا يظن بهما وان منصبهما وجلالتهما، وما أشتهر من دينهما ليصد عن ذلك.
والذي تحرر لنا بالطرق الصحيحة: أن قدوم الشافعي بغداد أول ما قدم كان سنة 184هـ800م. وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنتين، وأنه لقي محمد بن الحسن في تلك القدمة، وكان يعرفه قبل ذلك من الحجاز وأخذ عنه ولازمه.
وممن أخذ عنهم الشافعي في العراق (وكيع بن الحراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان الكوفي الحافظ) المتوفى سنة 190هـ 805 - 806م و (حماد بن أسامة الهاشمي الكوفي) المتوفى سنة 210هـ - 852م، و (عبد الوهاب بن عبد المجيد البصري) المتوفى سنة 194هـ 809 - 810م. وقد قرأ الشافعي كتب (محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة 189هـ 804 - 805م ولازمه وأخذ عنه.
ولم نر فيما بين أيدينا من تراجم الشافعي ذكر مدة مقامه في بغداد في هذه القدمة.
وقدم الشافعي بعد ذلك إلى بغداد سنة 195هـ 810 - 811م فأقام سنتين واشتهرت جلالة الشافعي رحمه الله في العراق وسار ذكره في الآفاق وأذعن بفضله الموافقون والمخالفون. وعكف عليه للاستفادة منه الصغار والكبار من الأئمة والأحبار من أهل الحديث والفقه وغيرهما، ورجع كثيرون منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه وتمسكوا بطريقته كأبي ثور وخلائق لا يحصون. . . . وصنف في العراق كتابه القويم ويسمى (كتاب الحجة) ويرويه عنه أربعة من جلة أصحابه وهم: أحمد بن حنبل، وأبو نور، والزعفراني، والكرابيسي) (شرح المذهب للنووي) ج1 ص9
ثم خرج الشافعي إلى مكة وعاد إلى بغداد في سنة 198هـ 813 - 814م وأقام بها أشهراً، ثم انه خرج إلى مصر في هذه السنة كما في معجم الأدباء ويقول ياقوت في موضع آخر (ويقال: إن الشافعي رضي الله عنه قدم إلى مصر سنة 199هـ 814 - 815م في أول خلافة المأمون وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس ابن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله بن العباس استصحبه فصحبه وكان العباس هذا خليفة لأبيه على مصر) ج6 ص 394. وفي شرح المهذب: (وقال الربيع قدم الشافعي (مصر) سنة مائتين ولعله قدم في آخر سنة تسع جمعا بين الروايتين)
وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من الشام والعراق واليمن وسائر النواحي للأخذ عنه وسماع كتبه الجديدة) ص9
وفي ابن خلكان: (ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة فأقام بها شهراً ثم خرج إلى مصر وكان وصوله إليها سنة تسع وتسعين ومائة وقيل إحدى ومائتين)
وأقام الشافعي بمصر إلى أن مات سنة 204هـ و819 - 820م كان في آخر عمره عليلاً شديد العلة من البواسير حتى قالوا: أن صدره أصبح ضيقا، وأنه كان يقول أني لآتي الخطأ وأنا أعرفه يعني ترك الحمية
وفي كتاب (توالى التأسيس) لابن حجر: (قلت: قد اشتهر أن سبب موت الشافعي: أن فتيان بن أبي السمح المالكي المصري وقعت بينه وبين الشافعي مناظرة فبدرت من فتيان بادرة فرفعت إلى أمير مصر فطلبه وعزره فحقد ذلك فلقي الشافعي ليلا فضربه بمفتاح حديد فشجه فتمرض الشافعي منها إلى أن مات ولم أر ذلك من وجه يعتمد) ص86
لم تقتل الشافعي شجة (فتيان) المزعومة إنما قتل الشافعي ما بذله من جهد عنيف في السنين الأربع التي أقامها بمصر ما بين تأليف وتدريس ومناظرة وسعي في بث مذهبه ومدافعة كيد خصومه، هذا إلى مرضه المنهك، وقد كان في ذلك العهد مصابا بنزيف من الباسور.
قال الربيع تلميذه: (أقام الشافعي ههنا أربع سنين فأملى ألفا وخمسمائة ورقة، وخرج كتاب (اللام) ألفي ورقة وكتاب (السنن) وأشياء كثيرة كلها في مدة أربع سنين، وكان عليلا شديد العلة. . .) ابن حجر ص83، وكان يلازم الاشتغال بالتدريس والإفادة في جامع عمرو. .
(وكان يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن فيسألونه، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه عن معانيه وتفسيره، فإذا ارتفعت الشمس قاموا واستوت الحلقة للمناظرة والمذاكرة: فإذا ارتفع النهار تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والشعر والنحو حتى يقرب انتصاف النهار ثم ينصرف إلى منزله) ابن حجر ص92
واخرج أبو نعيم من طريق ابن حسين البصري سمعت طبيبا مصريا يقول: ورد الشافعي مصر فذاكرني بالطب حتى ظننت أنه لا يحسن غيره، فقلت له أقرأ عليك شيئا من كتاب أبقراط فأشار إلى الجامع فقال أن هؤلاء لا يتركونني. ابن حجر ص66
وقد يكون الشافعي درس الطب فيما درسه من العلوم في العراق حينما جاءها أول مرة
وقد يكون درس علوم التنجيم أيضا هناك، وأنهم ذكروا أن الشافعي اشتغل بعلوم التنجيم؛ وكل ذلك يدل على ما كان شغف للإمام بالعلم كله.
وقد يكون هذا الجلوس المتوالي في الجامع من أسباب ما أصيب به الإمام من المرض. وذكر الأستاذ مصطفى منير أدهم في رسالته ورحلة الإمام الشافعي إلى مصر، أن أهل الإمام ذهبوا إلى الوالي في صباح الليلة التي توفي فيها، وكان الوالي هو محمد بن السري بن الحكم، وطلبوا إليه الحضور لتغسيل الإمام كما أوصى، فقال لهم الوالي: هل ترك الإمام دينا؟ قالوا نعم، فأمر الوالي بسداد ذلك الدين كله، ثم نظر إليهم وقال لهم هذا معنى تغسيلي له ص41.
وان صحت هذه القصة التي لم يذكر راويها لها استنادا فهي تدل على أن الشافعي خرج من الدنيا فقيراً كما دخلها فقيراً ولسنا نشك في أن الشافعي مات فقيراً، لكنا نشك في أمر استدانته، فقد روي ابن حجر في (توالي التأسيس) عن ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن سواد السرحبي قال: قال لي الشافعي أفلست ثلاث مرات فكنت أبيع قليلي وكثيري حتى حلي ابنتي وزجتي ولم أستدن قط ص67.
وتزوج الشافعي (حميدة) بنت نافع بن عنبسة بن عمرو بن عثمان ابن عفان فولدت له (أبا عثمان محمدا) وكان قاضيا لمدينة حلب (وفاطمة) (وزينب).