مجلة الرسالة/العدد 25/فلسفة ديكارت
→ التفاؤل والتشاؤم وهل لهما أسباب تاريخية؟ | مجلة الرسالة - العدد 25 فلسفة ديكارت [[مؤلف:|]] |
جواب رسالة حزينة ← |
بتاريخ: 25 - 12 - 1933 |
للأستاذ زكي نجيب محمود
تمهيد
وثبت الفلسفة في عهد الإغريق وثبة جريئة، كانت من غير شك شذوذا نابيا لا يستقيم مع طفولة العقل عندئذ، ولا يتفق مع سير الإنسانية الوئيد المتثاقل. وما ظنك بثلاثة من قادة الفكر وأفذاذهم البارزين الذين لا تزال فلسفتهم إلى هذا اليوم موضوعا للبحث والدرس، واغلب الظن أنها ستظل موضوعا للبحث والدرس إلى غد وبعد غد! ما ظنك بهؤلاء الجبابرة ينشرون تلك الفلسفة العالية وذلك الفكر الرفيع في أوساط من الناس يستحيل على عقولهم الفجة الساذجة أن تتسع لأشباهها، أو قل لا تدنو من عشر معشارها! ما ظنك بسقراط وأفلاطون وأرسطو، أولئك العباقرة الفحول ينتجون هذه الفلسفة في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح، أي منذ خمسة وعشرين قرنا!
لم تسغها العقول وقتئذ، إذ لم تقو على هضمها وتمثيلها، فكان طبيعيا أن يكون نصيبها الطي والإهمال، حيث استقرت في بطون أسفارها قرونا وقرونا، تنتظر العقل الناضج الرشيد، تنتظر هذه الإنسانية المتلكئة في سيرها حتى تسمو وترتفع إلى حيث هي، وعندئذ تستطيع أن تنشر صفحاتها المطوية وتخرج إلى شمس كنزها الدفين.
ولكنها وقفت تنتظر حينا طويلا من الدهر حتى سئمت الانتظار! وحق لها أن تمل وتسأم، فقد أقبل الناس على عصر بل عصور، اصطلح المؤرخون على أن يطلقوا عليها اسم العصور الوسطى كانت مظلمة شديدة الظلام، تتخبط في ديجور من الجهل، لا يكاد ينفذ فيه قبس واحد من نور، كأنما أصاب الدهر سنة من النوم أو إغفاءة من السهو، فبدل في مواضع الأزمان، حيث قدم ما كان يجب أن يؤخر، وأخر ما يجب أن يقدم!! في تلك العصور سيطرت الكنيسة على العقول إلى أقصى حدود السيطرة، وحرمت على الناس كل ضرب من ضروب التفكير الحر الطليق، كما حضرت عليهم كل دراسة لا تمت إلى الدين بسبب وثيق. اسمع إلى البابا غريغوري الأكبر، رئيس الكنيسة الأعلى، كيف ينحو باللائمة المرة، والتقريع اللاذع، على رجل من رجال الدين، وشى به إليه انه يصرف شطرا من زمنه في قراءة الآداب القديمة فيقول: (لقد وصل إلى علمنا ما نخجل لذكره، ذلك انك تدرس الآداب القديمة لأصدقائك فامتلأ قلبنا غضبا منك، وازدراء بك، وحسرة عليك، فان لسانا ينشد مديح المسيح، لا يستطيع أن يتغنى بالأدب القديم)
ولكن هيهات أن تصاب الإنسانية بالجمود دون أن تمضي في سبيلها قدما، لا تتقهقر خطوة إلا لكي تتحفز للوثوب الفسيح، فبالرغم من هذا الستار الصفيق الذي اسدلته الكنيسة في العصور الوسطى دون العقول، لتحول بينها وبين التفكير في مظاهر الوجود، فقد نفذ إلى النفوس بصيص من نور، فساورها القلق من هذا الاستسلام المطلق للكنيسة ورجالها. وهنا بدأ الشك يتسرب إلى العقيدة الراسخة شيئا فشيئا، حتى قال (ابيلار) في جرأة الثائر: (يجب إلا نؤمن بمذهب لأنه من عند الله، بل لأن الدليل العقلي قائم على صحته. فان الشك يدعونا إلى البحث، والبحث يوصلنا إلى العلم الصحيح)
ثارت النفوس إذن ثورة عنيفة هدامة، وتناولت بالتحطيم تلك الأغلال الثقيلة التي فرضتها عليهم الكنيسة فرضا؛ والتي كبلت عقولهم حينا طويلا، فحبست عنها الحياة والنور: وكانت فورة الغضب حامية جارفة، اكتسحت أمامها الحدود والسدود، وقوضت العقائد المتأصلة في النفوس، وزلزلت بمعول الشك تلك الآراء التي بلغ يقينها درجة تدنو من التقديس. كانت العصور الوسطى تفرض على ساكنيها التسليم بكل شئ، فجاءت هذه النهضة الفكرية تحتم الشك في كل شئ::
ولم يكن ذلك الشك هداما وكفى، لم يكن يريد أن يقوض البناء، ثم يهمل أنقاضه مركومة بغير تشييد، كلا بل أراد أن يهدم باطلا ليقيم صرح الحق قويا متينا. ذلك ما قصدت إليه الفلسفة في فجر العصر الحديث، ولكن أين عساها أن تجد اللبنات التي تقيم بها ذاك الحصن الجديد؟ أتلتمس ذلك في فلسفة العصور القديمة، أم تلتمسه في فلسفة العصور الوسطى؟ لقد مزجت بينهما جميعا، وكان لها من هذا المزيج ما تريد. فقد كان القدماء ينشدون الحكمة الفلسفية، أو أن شئت فسمها حكمة دنيوية، وكان أهل العصور الوسطى يبحثون عن الحكمة اللاهوتية، فجاءت الفلسفة الحديثة واعترفت بالمطلبين، ثم ألفت بينهما، واتخذت منهما غرضا واحدا. فكان لابد لها أن تأخذ بالحياتين الأولى والآخرة في وقت معا. لابد لها أن تميل بأسرها نحو هذه الحياة الواقعة، وأن تتجه بكليتها نحو الغريب المرقوب على السواء.
فقد كانت الوثنية الأولى تعتد بالعالم الكائن فحسب، وكانت مسيحية العصور الوسطى تعنى بالعالم الآخر فحسب، ثم تبع ذلك مرحلة انتقال ظهرت فيها النزعتان جنبا إلى جنب: النزعة الوثنية المطبوعة بالطابع الدنيوي، والنزعة الدينية الزاهدة في الحياة الدنيا، ثم جاء العصر الحديث فكان ما أسلفنا من تآلف بين الوجهتين،، وجمع كل رجل في نفسه كلا الجانبين. وذلك إنما يكون بأن نخلق من روحك عالما تعيش فيه عيشة مطمئنة راضية، لا تقف عند الحياة الدنيا محصورا في حقائقها المحسة الضيقة، وكذلك لا تقصر نفسك على الحياة الروحية، فتمر عليك الحياة، أو على الأصح تمر أنت على الحياة، دون أن تشق عبابها وتخترق غمارها. لا تنصرف بالأولى عن الآخرة، ولا تصدفنك الآخرة عن الأولى. لا تعن بالجسد وتهمل الروح، ولا تعن بالروح وتزدري الجسد، بل أجمع بينهما في وحدة متآخية، وأنا أظن أن ذلك ما يدعو إليه الإسلام في الحديث النبوي الشريف: أعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وأعمل لأخرتك كأنك تموت غدا. . . مزج بين الروح والمادة، بين الدين والدنيا.
نعم ينبغي ألا تكون ماديا فتنكر هذه القوة التي يفيض بها الوجود، كما يجب ألا تكون صوفيا زاهدا، يزوّر عن هذه المادة التي تملأ جوانب الكون. ولتكن (أيها الإنسان) موضعا يتصافح عنده الطرفان المتخاصمان، ونقطة يلتقي لديها الشطران النقيضان. . . ألست تريد أن تمجد الطبيعة المادية إلى أقصى حدود التمجيد، مفتونا بدقائقها المتناغمة؟ ثم ألا تريد أن تكون مع ذلك لاهوتيا يعبد الروح الأعلى الذي يستغرق الوجود بقوته؟ أو بعبارة جلية موجزة، ألا تريد أن تسرح فكرك في الطبيعة وما فوق الطبيعة على السواء؟ أذن فأبحث الإنسان: تناول الإنسان بالتحليل والدرس، فهو جماع الحكمتين، وملتقى الجانبين. التمس عنده الطبيعة المادية في أدق ترتيب وأحكم تصوير، والقوة الروحية في أروع مظاهرها وأسمى مجاليها. أنه الإنسان الذي أنزله الله في الأرض، ليكون لسانا ناطقا بحكمته، وترجمانا يفصح عن قوته، ورسولا أمينا يصل ما بين الله والعالم المادي، وأذن فقد بات طريق الفلسفة واضحا معبدا. . . فإذا أرادت الحق، فلتبدأ سيرها من النفس، نفس الإنسان، ثم تسلك سبيلها، راسخة القدم موطدة اليقين، حتى يصل بها البحث إلى معرفة الله والعالم المادي. . . لقد انعكس الوضع، وانقلب المنطق نتيجةً لمقدمة، فقد كانت الفلسفة في بادئ أمرها. تفتح سيرها ببحث القوة والمادة، أعني الله والطبيعة، لكي تنتهي إلى الإنسان؛ أما الآن فهي تبدأ جهادها بدراسة النفس الإنسانية ثم تنتقل منها إلى العالم الخارجي.
بذلك الشك حطمت الفلسفة الحديثة كل ما نزل عند القدماء منزلة اليقين، وعلى هذا الأساس الجديد من توحيد المادة والروح في الإنسان، واختصاصه بالبحث أولاً، ثم الانتقال منه إلى العالم الخارجي، قام البناء الجديد.
وكان أول من وطد ذلك الأساس وشيد عليه البناء فيلسوفنا رنيه ديكارت
فلسفته
1 - العقل يثبت وجود نفسه:
أن هذا الرأس الصغير الذي تحمله فوق منكبيك، ليفيض بالآراء ويزدحم بالعقائد، وتعمره شتى المعلومات، التي تقطر إلى ذهنك من هنا وهناك. فهذه الطائفة من المعارف قد رأيتها بعينيك وتلك سمعتها بأذنيك، وثالثة لم تسلك إلى ذهنك طريق الحواس، ولا أوحي إليك بها إنسان آخر، إنما نبعت من نفسك الباطنية، فأنت توقن ولا ريب أن النار محرقة لأنك لمستها بيديك، ولا يخامرك شك في أن رجلا أسمه نابليون كان يعيش في أوائل القرن التاسع عشر، لأن إجماع الرواة يؤكد ذلك، ولا تتردد في أن تحكم بأنك ما دمت موجودا في حجرتك، يستحيل أن تكون أنتفي نفس الوقت جالسا في المقهى، لأن عقلك يعلم ذلك بالضرورة. . . وهكذا تستطيع أن تستعرض معلوماتك جميعاً، فتراها قد سلكت إليك هذا الطريق أو ذاك، فهي إما نفذت إليك من الخارج بواسطة الحواس، أو لدنية نبعت من ضرورة عقلية، ومع ذلك فكثرتها الغالبة تقع عندك موقع اليقين الذي لا يحتمل الشك والجدل.
ولكن ألا يجدر بك أن تثوب إلى نفسك فتعسر معها الحساب على هذا الاطمئنان السريع والتصديق العاجل بصحة هذه الحقائق مع أنها قد تكون خطأ كلها؟ أليست هذه الحواس التي تركن إلى أمانتها، خادعة في كثير من الأحيان، فتوهمك مثلا أن القمر لا تعدو مساحته القرص الصغير، وهو ليس كذلك؟ وهذا العقل الذي تعتمد على أحكامه، ألا يقدم لك صورا وأفكارا بعضها وهم خاطئ؟ هذا صحيح لا ريب فيه. فأفرض منذ الآن أن تطمئن إلى ما يقدمانه إليك من الحقائق، تقبلها بالشك ولا تجزم بصحتها، وإذن فهذه معلوماتك جميعا قد هدمت من أساسها. . . فما يدريك أن هذه الأجسام المادية موجودة حقيقية؟ وما يدريك أن الله موجود؟ ثم ما يدريك أنك أنت نفسك موجود؟ ستقول العقل أو الحواس: كلا، لا تفعل. فقد تبين لك أنهما كثيرا ما يكونان مبعث الخطأ والزلل، ولا يحتمان الحق واليقين. . إذن فلا تتردد في أن تنزع من نفسك جميع العقائد والآراء والأفكار، وأفرض أن كل ما يصادفك باطل ليس له وجود، ولا تصدق ما تمدك به الذاكرة الكاذبة والحواس الخادعة؛ وأدَّع أن الجسم والصورة والامتداد والحركة والمكان كلها من خلق الخيال. فما الذي يبقى من الحق بعد؟ لا شئ: اللهم ألا حقيقة واحدة، ستصمد لهذا الشك الجارف، وتظل ثابتة لا تميل أمام عاصفة الأفكار والجمود، لا بل تزداد يقينا كلها أمعنت في الشك والإنكار، تلك هي أن هناك شخصا يشك!. . أرفض الحقائق، وشك في صحتها ما وسعك الرفض والشك ولكنك لن تستطيع أن تشك في أنك تشك.
نعم مهما شككت فلست أنكر أني أشك، ولما كان الشك ضربا من ضروب التفكير، أذن فلا شك أني أفكر. وبديهي أي لو لم أكن موجودا لما فكرت، وأذن فأنا موجود وليس في وجودي شك
(أنا أفكر فأنا إذن كائن) تلك هي القاعدة الأساسية التي اتخذها ديكارت أساسا قديما أقام عليه فلسفته بأسرها. ويلاحظ أن إثبات الوجود هنا لا ينصب إلا على العنصر المفكر من الإنسان ولا يتعداه إلى الجسم، ذلك لأنه أثبت وجوده بناء على وجود تفكيره، أي عقله، ولم يقم الدليل بعد على وجود الجسم. ولكن مالنا وللجسم الآن؟ هانحن أولاء قد حصلنا على العقل وأيقنا بوجوده، وهو أساس المعلومات جميعا، وحسبنا ذلك لنهتدي عن طريقه إلى معرفة الحقائق التي ننشد، وهكذا بدأ ديكارت بالشك إلى حيث انتهى إلى اليقين. وقد قال قائل: (كلما فكرت ازددت شكا) فعارضه ديكارت بقوله: (بل كلما شككت ازددت تفكيرا، وازددت بالتالي يقينا بوجودي).
حقا لقد انتزع ديكارت من غمار الأنقاض التي ركمها الإنكار والشك، يقينا لا يأتيه الباطل، ذلك أنه هو موجود لا ريب في وجوده. ثم يقرر أن كل حقيقة يستطاع إثباتها بمثل هذا اليقين القاطع، لا يجوز له أن يتردد في اعتبارها حقا لا يقبل الشك. ثم يستطرد قائلا أن الإنسان يخرج إلى هذا العالم وفي فطرته طائفة من هذه الحقائق اليقينية الثابتة التي تحتمل الإنكار أو الشك، وهي لا تأتي عن طريق التحصيل، كالحقائق الرياضية مثل2و2 تساوي4، فهذه حقيقة مؤكدة، وليست تجيئك عن طريق الحواس، إنما هي مفطورة فيك منذ الولادة، وقل مثل ذلك في كل البديهيات العقلية كأن تقول أن الجزء أصغر من الكل وما إلى ذلك مما هو معروف معلوم.
2 - إثبات وجود الله
يتضح مما سبق أن ديكارت بعد أن أنكر كل شئ، عاد فأثبت وجود نفسه، ثم أتبع ذلك بالاعتراف بوجود بعض الحقائق الفطرية الثابتة، كالتي قدمناها مثلا. . . . فنحن إذا زعمنا أن شيئا لا يستخرج من لا شيء، فإنما نقرر حقيقة لا تقل يقينا عن حقيقة وجود العقل المفكر، لأنها واحدة من تلك البدائة التي لا تحتمل الرفض والإنكار. إذ لا بد أن يكون الفرع مستغرقا في أصله، والنتيجة في مقدمتها. ومن ذا الذي يستطيع أن يصدق أن الجبل الشامخ قد خرج من ذرة حقيرة، وأن البحر الخضم قد اشتق من قطرة صغيرة؟. يستحيل أن يكون ذلك لأن الذرة لا تلد إلا ذريرة أصغر منها، بناء على البديهية التي أسلفنا ذكرها وهي أن شيئا لا ينشأ من لا شيء
أذكر هذه البديهية جيدا، ثم أستعرض ما يحويه رأسك من صنوف المعارف، قلب النظر فيما يدور بخلدك من أفكار، فماذا ترى؟ ترى أن لكل فكرة أصلا أعم منها وأشمل، وهذا طبيعي لأن الصورة لا يمكن أن توضح أكثر من أصلها، أو قل تجيء على مثاله على أكثر تقدير، كذلك ترى أفكاراً فطرية نشأت معك منذ ولدت ولم تستمدها من العالم الخارجي. ولكنك في هذا البحث الذي تستعرض به أفكارك وتردها إلى أصولها، ستصادف بينها فكرة ممتازة، هي فكرة الكائن اللانهائي، أي أنك تتصور كائنا لانهاية له ولا حدود، فمن أين جاءتك هذه الصورة؟ يستحيل أن تكون قد سبقت من فطرتك، لأنها أوسع منك، فأنت على نقيضها كائن محدود، وبديهي - كما أسلفنا لك القول - ألا تجيء الصورة أشمل من أصلها، ومحال أن يتفرع شيء من لا شيء، وبالتالي محال أن يتفرع الكائن اللانهائي المطلق من كائن نهائي محدود. تستطيع أن تعترض على هذا القول بأن تزعم أنك قد تستخرج من الواحد الصحيح عداً لانهائيا بالطرح المستمر، فتسير في العد سلبا، ناقص واحد، ناقص اثنان، ناقص ثلاثه. . . . . ناقص لا نهاية. وبذلك تكون قد حصلت على عدد غير محدود من رقم محدود. ولكنك نسيت حين تقدمت بهذا الاعتراض، إنها عندئذ تكون سلبية، في حين أني أتصور لا نهاية إيجابية، كالمكان اللانهائي والزمان اللانهائي وما إليهما.
أتستطيع أذن أن تحدثني من أين جاءتك هذه الفكرة، بعد أن وثقت معي أنها لم تتفرع عن فطرتك؟ لا أحسبك مترددا في أن توافق ديكارت فيما ذهب إليه من أن هذه الفكرة اللانهائية الكاملة لا يمكن أن تنبعث عن الطبيعة البشرية الناقصة، بل لابد لها من أصل يوازيها كمالا وعظمة، لضرورة التكافؤ بين العلة والمعلول، ومن هنا أصبح حتما علينا أن نسلم بوجود اله جامع لكل صفات الكمال، وهو الذي خلق في الإنسان هذه الفكرة وألهمه إياها، وأذن فالله موجود وليس في وجوده شك.
3 - إثبات وجود العالم الخارجي
لقد رأيت فيما سبق كيف حمل ديكارت معول الشك، وقوض به كل فكرة ورأي، وأنكر الوجود بأسره، بل وأنكر نفسه، خشية أن يكون مخدوعا متورطا في خطأ أوحى به إليه فقابله بالتسليم، ثم سار في طريق المنطق السليم حيث انتهى إلى إثبات وجوده، ثم رتب على وجود نفسه وجود الله، وهاهو ذا يستنتج من وجود الله وجود العالم الخارجي. . . أليس الله هو ذلك الكائن اللانهائي، المطلق القوة، الذي لا تحده الحدود؟ أليس هو علة وجود نفسه وهو خالق الكون؛ أذن فلا ريب في أنه كائن كامل لا تشوبه شائبة من نقص، لأنه ما دام قادرا، مطلقا في قدرته، فمن الطبيعي أن يكون عمله مثلاً أعلى للكمال، لأن ذلك في حدود استطاعته، وما دام حائزا ضروب الكمالات المختلفة، فهو إذن متصف بالصدق الذي لا يخالطه ذرة من خداع، ومعنى ذلك أنه يستحيل على الله أن يكون سببا في تضليل الإنسان وخداعه. فقد منحنا عقلا مفكرا، وضمن لنا أن نصل به إلى معرفة الحق إذا أحسن استعماله، فلا نعتبر حقا ألا ما يحكم العقل بصحته حكما يقينا قاطعا لا يقبل الشك.
وإذن فقد أصبح من اليسر أن نقيم الدليل على وجود العالم الخارجي، فقد كنا شككنا في وجوده، لجواز أن تكون عقولنا خادعة تصور لنا الباطل حقا، فأما وقد أقمنا الدليل على وجود الله، وأثبتنا له جميع صفات الكمال، ومن بينها الصدق، فيجب ألا يعثر بنا الشك في وجود الكائنات الخارجية، إذ لو كانت وهمية، لترتب على ذلك أن يكون الله خادعا، لأنه هو الذي أمدنا بتلك العقول الخادعة، وهو الذي يصدر لنا جميع ما ندرك، وإذن فالعالم الخارجي موجود وليس في وجوده شك.
ولنوجز ما أسلفنا في حلقات منطقية متتابعة، نقول: أنا أفكر، فأنا موجود، وليس في وجودي شك. ومادمت أشتمل على فكرة الكائن اللانهائي، وهذه لا يمكن أن تشتق من طبيعتي المحدودة، فلا بد أن تكون ناشئة عن سبب خارجي يتكافأ معها، وهو الله. ومادام الله حائزا لجميع ضروب الكمال، فيستحيل عليه أن يضللنا، ولابد أن يكون ما وهبنا من عقل أداة صالحة، وأن ما ندركه حق واقع، وإذن فهذا العالم الخارجي الذي تصوره لنا عقولنا موجود لا ريب في وجوده، وبعبارة أوجز، نقول إن ديكارت بدأ بإثبات نيته، ثم رتب عليها وجود الله، ثم استنتج من وجود الله وجود العالم الخارجي.
4 - ولكن ما هو لك العالم الخارجي؟ ومم يتكون؟ يحدثنا ديكارت أننا نستطيع أن نرد مظاهره إلى أصلين، أو فكرتين وهما الامتداد والفكر، أو بعبارة ثانية القوة والمادة. فهما شطران منفصلان لا يعتمد الواحد منهما على الآخر بأية حال من الأحوال، وهذا هو مبدأ ثنائية الوجود، أي شطر الكون إلى عنصرين متميزين، أما أحدهما وهو المادة وصفته المميزة هي الامتداد طولا وعرضا وعمقا، إذ لا نستطيع أن نتصور مادة بغير امتداد. وأما الثاني وهو العقل، فخاصيته المميزة هي الفكر، فهو يفكر تفكيرا متصلا لا ينقطع لحظة، كما ينبعث الضوء عن الشمس والدفء عن الحرارة. أي أنه في وعي مستمر دائم، حتى أن ديكارت لم يستطع أن يتصور الجنين وهو في أحشاء أمه بغير تفكير! ويظهر من هذا أن خلافا جوهريا يفصل بين شطري الوجود: المادة والروح، وبالتالي بين جسم الإنسان وعقله، فهما نقيضان مختلفان في الجوهر والعرض على السواء، وان كان ذلك كذلك، فكيف أمكن اتصالهما، وكيف يؤثر أحدهما على الآخر؟ هنا لا يتردد ديكارت في أن ينكر العلاقة بين عنصرين هما على أشد ما يكون التباين بينهما، ويعتقد أنها إرادة الله وحدها التي تشرف عليهما، وتدبر حركاتهما: فأما الجسم فخاضع لما تخضع له كل الأجرام المادية الاخرى من قوانين، وليس للعقل من القوة ما يستطيع بها أن يدفع الجسم إلى الحركة، اللهم إلا إذا وافقت إرادة الشخص إرادة الكائن الأعلى. إذن فالوجود عند ديكارت ينحل إلى عنصرين أساسيين، أو مادتين أوليتين، فكل أجزاء المادة، كائنة ما كانت صورها، مركبة من مادة متجانسة. وكل ما يحتوي عليه الوجود من قوة، أو بعبارة أخرى من روح، أو بعبارة ثالثة من عقل، فهو مركب من مادة متجنسة كذلك. ويشرف على العنصرين أو المادتين اله قادر حكيم.
ومما يجدر ذكره أن سبينوزا، وقد جاء على أثر ديكارت، لم يطمئن إلى هذا التقسيم الذي لا مبرر له، وصهر الجميع في وحدة متجانسة لا إنفصال فيها ولا اختلاف. وقد عجب من ديكارت، وتساءل: لماذا تقصر القوانين الآلية على الجسم وحده دون الروح؟ أما هو فلا يحجم عن أن يمد من نطاقها حتى تشمل العناصر الثلاثة: الله والعقل والمادة، استغفر الله، بل ليس ثمت عند سبينوزا من تثليث للعناصر، إنما الجميع عنصر واحد متجانس، يسير وفق قانون شامل لا يتبدل ولا يفنى.