مجلة الرسالة/العدد 246/التصوف الإسلامي
→ مظاهر الحكم في مصر الأموية | مجلة الرسالة - العدد 246 التصوف الإسلامي [[مؤلف:|]] |
من شهداء الإسلام ← |
بتاريخ: 21 - 03 - 1938 |
نشأته وأصوله
للمستشرق الإنجليزي الدكتور ريولد نيكلسون
الأستاذ بجامعة كمبردج
يعد الصوفيون الحسن البصري واحداً من جماعتهم. والواقع أنه كان إلى حد بعيد يعلق أهمية عظمى على الاستقامة النفسية، ولم يكن قانعاً بالعبادات الظاهرية فحسب. ولقد قال: (مثقال ذرة من الورع السالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة) بيد أنه على الرغم من أن بعض أقواله الواردة في التراجم المتأخرة تؤيد الزعم القائل بأنه كان صوفياً عميقاً، إلا أنه ليس ثمة شك في أن تصوفه - إذا جاز أن ينعت بهذا الاسم - كان من النوع الشديد الاعتدال؛ وأنه كان في حاجة قصوى إلى الحمية والهيام الذي نجدهما عند الصديقة الورعة رابعة العدوية التي تربطها به الأقاصيص
ولقد اختلف الصوفية أنفسهم في تفسير أصل اسم (الصوفي) وذهبوا في ذلك مذاهب شتى متباينة، ومن بين الاشتقاقات التي ذكرت ثلاثة تستحق عناية الباحث وهي التي تربطها بكلمة (سوفوس) اليونانية (المقابلة لـ في الإنجليزية) أو صفا أو (صوف)
أما الاشتقاقان الأولان فلا يدعمهما أي أساس لغوي ولسنا بحاجة لنقاشهما. ولو أن الاشتقاق من (صفا) مقدم لدى من يعتد به من شيوخ الصوفية، ومقبول على العموم في الشرق. والسبب في هذا الترجيح يتضح لنا من مثل هذه التعاريف كقولهم: (الصوفي من يحفظ قلبه صافياً لله) و (الصوفية الاصطفاء) وإذا فهمناها على هذا الاعتبار فقد صارت للكلمة دلالة سامية هيأتها للاختيار دون سواها
ومهما يكن الأمر فإنه يمكن إرجاعها إلى أصل ضئيل، ذلك أنه كان من مألوف عادات المتقشفين والزهاد عادة في العصور الأولى من الإسلام وهي لبس الصوف لما كانوا عليه - كما يقول ابن خلدون - من مخالفة الناس الذين يرفلون في الثياب الغالية، ولهذا فإن اسم (صوفي) الذي يدل لأول وهلة على المتقشف المرتدي الصوف صار كمدلول القاووق على الرهبان الكابوشيين؛ وطبقاً لما يذكره القشيري أصبح هذا اللفظ شائع التداول قبل نهاية القرن الثاني للهجرة أعني منذ عام 815م؛ مع أنه في خلال هذا الوقت أخذت حركة الزهد في الإسلام تصطبغ إلى حدٍ ما بصبغة جديدة. ولابد أن معنى صوفي - بفرض وجود الكلمة إذ ذاك - قد أصابه بعض التغيير. ويخيل إلي أن هذا اللقب الذي نحن بصدده الآن يعين نقطة انتقال من الزهد السني، وأنه - كما يقرر الجامي - قد أطلق أولاً على أبي هاشم الكوفي المتوفى قبل سنة 800م الذي أسس (خانقاه) للصوفية في الرملة بفلسطين. ومهما يكن الأمر، فإن الفارق بين الزهد والتصوف (ذلك الفارق الذي هو على وجه العموم كالتفرقة بين الحياة الطهرية وبين طريق الكشف في التصوف الغربي في القرون الوسطى) أقول إن هذا الفارق قد أخذ في الظهور قبل انصرام العهد الأموي، وسرعان ما تقدم في صدر العصر العباسي تحت تأثير الأفكار الأجنبية وعلى الأخص الفلسفة اليونانية. ولندع الكلام عن مدى تطور هذه الحركة الأخيرة للكلام عنها في فرصة أخرى وسنتناول الآن في إيجاز أصل الصوفية كما تسمى عادة، والظاهرة الأولى للدوافع الخاصة التي قامت عليها
أما فيما يتعلق بأصلها فلسنا نستطيع أكثر من نقل الملاحظات التي قدم بها ابن خلدون لفصله عن الصوفية في مقدمة كتابه التاريخي الجليل حيث يقول: (إن هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، وأصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف، فلما نشأ الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوّفة)
من هذا يتضح لنا أن التصوف - إذا لم يكن في أصله تطوراً لحركة الزهد التي كان الحسن البصري ممثلها البارز كما رأينا - قد نشأ على كل حال من هذه الحركة وتفرع عنها. ولم يكن التصوف نظاماً تأملياً كهرطقة المعتزلة، ولكنه إيمان عملي وقاعدة للحياة، فيقول الجنيد: (ما أخذنا التصوف من القيل والقال ولكن من الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات) وكان الصوفيون القدامى زهاداً نسّاكا، كما كانوا أيضاً أكثر من ذلك، ذلك أنهم إما طلعوا على الناس بالجوهر الروحي والرمزي الموجود في الإسلام، أو أنهم أدخلوه فيه إذا لم يكونوا قد وجدوا حينذاك. ويقول السهروردي: (التصوف غير الفقر، والتصوّف غير الزهد، والتصوف اسم جامع لمعاني الفقر ومعاني الزهد مع مزيد وإضافات لا يكون بدونها الرجل صوفيا وإن كان زاهداً فقيرا) ثم يمضي بعد قليل في شرح الخلاف في قوله: (الفقير في فقره متمسك به متحقق بفضله، يؤثره على الغنى متطلعاً إلى ما تحقق من العوض عند الله لحديث نبوي)، فكلما لاحظ العوض الباقي أمسك عن الحاصل الفاني، وعانق الفقر والقلة، وخشي زوال الفقر لفوات الفضيلة والعوض، وهذا عين الاعتدال في طريق الصوفية، لأنه تطلع إلى الأعواض وترك لأجلها، والصوفي يترك الأشياء لا للأعواض الموعودة، بل للأحوال الموجودة، فإنه ابن وقته، وأيضاً ترك الفقير الحظ العاجل، واغتنام الفقر اختيار منه وإرادة، والاختيار والإرادة علة في حال الصوفي، لأن الصوفي صار قائماً في الأشياء بإرادة الله لا بإرادة نفسه، فلا يرى فضيلة في صورة فقر ولا في صورة غنى، إنما يرى الفضيلة فيما يوفقه الحق فيه ويدخله عليه)
ومفتاح التصوف نكران الذات وعدم الأثرة أو بمعنى آخر (الحب) ومع أن هذه الفكرة ليست غريبة بأكملها، إلا أنها كانت بعيدة جداً عن أن تكون معروفة للمسلمين الأتقياء الذين كانوا متأثرين تماماً بقوة الله وبطشه أكثر من رحمته وغفرانه. . وإن جل تاريخ التصوف لهو مناهضة التفرقة غير الطبيعية بين الله والإنسان، وتبعاً لذلك لا أرى ثمة ضرورة تدعونا للبحث عن أصل المذاهب الصوفية في غير الإسلام، على الرغم من أنه من الخطل ألا نذكر الأثر المسيحي الذي أثر ولابد في الحركة في طورها الأول.
أما الطابع التفكيري الذي أُشربوه شيئاً فشيئاً، والذي بد لهم على مر الزمن فقد كان بين مد وجزر وارتفاع وانخفاض طوال العصر الأموي وطيلة قرن تقريباً بعد تقلد بني العباس مقاليد الخلافة والحكم. ولا يزال الصوفيون الأوائل ينهجون منهج السنة، فَصِلَتهم بالإسلام نسبياً كصلة متصوفي الأسبان في القرون الوسطى في الكنيسة الكاثوليكية. ذلك بأنهم كانوا يعلقون كبير أهمية على بعض النواحي الخاصة في التعاليم الإسلامية ويولونها جل اهتمامهم بدرجة تجعل النواحي الأخرى تكاد تكون في حيز العدم. وهم لا ينهمكون في علم الكلام ولكنهم يكرسون أنفسهم لمسائل تتعلق باللاهوت العملي، وإن نكرانهم للذات وتقشفهم البالغ أقصى نهايته وتقواهم الحادة واعتزالهم. . . كل هذه الأمور جعلت خواص رسالتهم الأولية توصف بالذهول
ترجمة: ح. ح