الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 246/من شهداء الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 246/من شهداء الإسلام

بتاريخ: 21 - 03 - 1938


عمار بن ياسر

للأستاذ كامل محمود حبيب

(ابشروا آل عمار فإن موعدكم الجنة)

(حديث شريف)

وقف بباب دار الأرقم رجل آدم طوال أصلع أشهل العينين بعيد ما بين المنكبين. . . وقف يردد بصره فيما حوله وإن الشيطان ليوسوس له يريد أن يثنيه عن عزمه، وإن قلبه لينتفض مما استولى عليه من الرعب. وكيف لا يستلبه الفزع من بعض عقله وهو في هذا البلد وحيد؛ فما من عشيرة تحميه، وما من أهل يدفعون عنه الأذى؛ وقريش من ورائه في الصولة والسلطان أشداء على صحابة محمد ورفاقه، يصبون عليهم فنوناً من القسوة والعذاب في غير رحمة ولا شفقة؟ واصطرع في رأس الرجل عاملان: هنا النبي الكريم يشرق النور الإلهي من جبينه فيسطع متألقاً يجذب إليه جماعة ممن رضي الله عنهم، وهناك قريش لا تستطيع أن تنزل عن كبريائها في هوان وذلة وهم سادة القوم وأمراؤهم فكيف يلقون السلم في ضعة؟ كلا، بل أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون

أفينكص الرجل على عقبيه ليتردى في الغواية مرة أخرى ويعكف على أصنام من حجارة لا حول لها ولا طول، أم يندفع فيلج باب دار الأرقم ليلقى محمداً. . . ثم يتلظى - بعد حين - بنار يؤج سعيرها وتنبعث من قلوب عليها أقفالها. . . قلوب قريش المغيظة المحنقة؟ وأطرق يفكر ما يطمئن إلى أمر. . .

وجذبه من أخيلته صوت أقدام تسير إليه في وناء وثبات. . . فإذا صهيب بن سنان أمامه، فاندفع يحدثه: (ما تريد يا صهيب؟) قال صهيب (بل ماذا تريد أنت يا عمار) قال: (أريد أن أدخل على محمد فأسمع كلامه) قال صهيب: (وأنا أيضاً، فوربي لقد دفعني قلبي إليه وإن خواطري لتضطرب في خيالي خشية مما ألاقي بعد) ثم انطلقا جنباً إلى جنب إلى حيث النبي فأسلما معاً، وما استطاعا أن يبرحا الدار حتى خيم الظلام على الأرض، فخرج يتسللان. . .

وأشرق نور الإيمان في قلب عمار بن ياسر فما استطاع أن يكتم نزوات الفرح والغبطة في قلبه، فراح إلى أبيه (ياسر) وأمه (سمية) يحبب إليهما الإسلام فأسلما. وانطلق هو يعلن عن إسلامه في جرأة لا يرهب القوة والثائرة، ولا يخاف العذاب الأليم

وأفتتن آل حذيفة في تعذيب آل ياسر - وما آل ياسر سوى عمار وأمه وأبيه - لا يتورعون من شر. . . لقد مات ياسر في العذاب، وماتت سمية إثر طعنة من يد أبي جهل؛ وعمار يشهد فما وهن وما استكان، فأغلظوا عليه وفي قلوبهم مراجل من الغيظ يحمى عليها بنار من الصلف كلما خبت زادها الشيطان سعيراً.

وفي ذات مرة أخذوا يغطونه في الماء المرة بعد المرة فما تركوه حتى نزل عند رأيهم وقد بلغ به الجهد مبلغه، وهم يقولون له: (اللاّت والعزى إلهك من دون الله) فيقول هو: (نعم) ويقولون له: (هذا الجعل إلهك) فيقول: (نعم). وحين انفلت من بين أيديهم استشعر وبال أمره فراح يكفر عن خطيئته بعبرات الأسى والندم، ويستغفر الله أن زل لسانه، وفي قلبه حسرات وحسرات. ولقيه رسول الله (ص) وهو في أحزانه ما يستطيع أن يكفكف بعض عبراته يمسح عن عينيه وهو يقول: (ما ورائك؟) قال عمار: (شر يا رسول الله، والله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير) فقال: (وكيف تجد قلبك؟) قال: (مطمئن بالإيمان) قال (فإن عادوا فعد) فانطلق عمار وقد مسحت كلمات النبي (ص) على أحزانه

وانطلق الفوج الأول من المسلمين إلى الحبشة فراراً من أذى قريش وخوفاً من الهوان والفتنة، وعلى أثره الفوج الثاني وفي أكبادهم حرق أن نأوا عن وطنهم وأولادهم وعشيرتهم، وعمار صابر على أذى الكفار يتحمله في جلد وصمت على حين لا يستطيع أن يصبر عن مشرق النور والرحمة من وجه النبي (ص)، وما يزيده العذاب إلا إيماناً بمحمد (ص) ودين محمد

وهاجر عمار - فيمن هاجر - مع النبي (ص) إلى المدينة فهبطها ضحى، فما تلبث حتى أخذ يشيد للرسول مسجداً يقيم فيه الصلاة في غير حذر ولا رقبة، وفي نفسه اللذة والطرب وهو ينشد: (نحن المسلمون نبتني المساجدا) ورسول الله يردد: (المساجدا) واندفع القوم يشد بعضهم أزر بعض يحمل كل واحد منهم لبنة لبنة غير عمار فهو يحمل لبنتين لبنتين، وراع القوم أن يجهد عمار نفسه فتنقل الحديث في همس: (إن عماراً يريد أن يقتل نفسه فهو يحملها فوق طاقتها!) وسمع النبي (ص) الحديث فراح ينفض التراب عن رأس عمار وهو يقول: (ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية!)

ولصق هو بالنبي ما ينأى عنه في سلم ولا حرب لأن قلبه وإيمانه لا يطاوعانه على أن يفعل. . .

ولحق النبي الكريم بالرفيق الأعلى فبكاه عمار - فيمن بكى - سحاً وتسكاباً، وفي قلبه - من أثر الفراق - جرح ما يندمل إلا أن يلحق بسيده، ثم هو لم يستشعر الوهن ولا الضعف في دينه

وارتد مسيلمة وقومه حين انفرجت الثغرة بموت الرسول فاندفع إليهم عمار - فيمن اندفع - ثائراً هائجاً يهدر يريد أن يؤدب قوماُ على عصيانهم، وحين وجد في المسلمين هوادة وفتوراً ارتقى هو شرفاً عالياً ثم أخذ ينادي وقد قطعت أذنه: (إلي، إلي يا معشر المسلمين، أنا عمار بن ياسر، أمن الجنة تفرون؟ هلموا إلي!) ثم اندفع إلى الصفوف يفرق ما اجتمع منها كأنه فتى في الثلاثين، وهو قد شارف السبعين من سني حياته

رحم الله عمر بن الخطاب فلقد كان بصيراً بأقدار الرجال حين أمر عمار بن ياسر على الكوفة وكتب إلى أهلها: (. . . أما بعد، فإني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً وعبد الله بن مسعود وزيراً ومعلماً، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما. . .)

لقد تأمر عمار على الكوفة فما أخذته كبرياء المنصب، ولا روعة الإمارة؛ ثم عزله عمر فما استولى عليه اليأس، وما حمل لأمير المؤمنين في قلبه حفيظة ولا حقداً، بل قال: (والله لقد ساءتني الولاية بقدر ما ساءني العزل) واندفع على سننه لا يجد الخور ولا الفتور إلى نفسه سبيلاً

يا عجباً! يا عجباً! يتغلغل الإيمان في القلب فيحجب الإنسان عن لذاذات الحياة ومباهجها لينقله إلى لذاذات ومباهج أخر هي لذاذات قلبه ومباهج دينه؛ ثم ينزع عنه أطماع الدنيا وشهواتها فإذا سواء لديه أن يكون له ملك لا ينبغي لأحد من بعده، أو يكون فقيراً لا يستطيع السبيل إلى اللقمة يقيم بها صلبه إلا بشق الأنفس ووقعت الفتنة الكبرى بين المسلمين، فانشقت العصا، وغدا كل حزب يزعمون أن الحق إلى جانبهم، فانضم عمار إلى عليّ وأصحابه وهو يقول: (تالله لو ضربنا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمتُ أنَّا على حق وأنهم على باطل) وراح يدفع عن الحق فما يهن ولا يستكين. وإنه في يوم صفين لعلى رأس رجال من أصحاب النبي كأنهم علم، إن تيامن تبعوه وإن تياسر تبعوه، وهو يحرضهم بقوله: (أتفرون من الجنة والجنة تحت البارقة. اليوم ألقى الأحبة: محمد وحزبه) وفي يده حربة ترعد وهو ينادي: (ألا مَنْ يبارز؟ ألا مَنْ يبارز؟)

(ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية!)

وشهد هذا اليوم مشهداً مروعاً من مشاهد الحرب تنفطر له الأكباد، هو قتل عمار بن ياسر! لقد رماه أبو العادية المزني بالرمح على حين غفلة منه فهو إلى الأرض. . . ثم أكب عليه آخر فاحتز رأسه في غلظة وجفاء. . . وانطلقا يختصمان لدى معاوية في رأس عمار وكل واحد منهم يقول: (أنا قتلته) علهما يصيبان أجراً. وعند معاوية عمرو بن العاص وابنه عبد الله ورجال من خاصته والمقربين إليه، فقال عبد الله: (ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: تقتله الفئة الباغية) وقال عمرو بن العاص: (والله إنهما ما يختصمان إلا في النار، ووالله لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة) فأربد وجه معاوية وهو ما يستطيع أن يدفع عن نفسه بعض ما أصابها، وفي قرارة نفسه أن جيشاً من أقوياء المسلمين وأشدائهم ما يقدر على أن ينال منه بعض ما يناله حديث عمرو بن العاص وابنه إن هو شاع بين جنوده

وهناك في العراء وقف علي بن أبي طالب عليه السلام بازاء جثمان عمار بن ياسر يقول وفي قلبه الأسى والحزن على أن فقد صاحب الرسول الله وحبيبه: (إن امرءوا من المسلمين لم يعظم عليه قتل ابن ياسر، وتدخل به عليه المصيبة الموجعة لغير رشيد. رحم الله عماراً يوم أسلم، ورحم الله عماراً يوم قتل، ورحم الله عماراً يوم يبعث؛ لقد رأيت عماراً وما يذكر من أصحاب رسول الله (ص) أربعة إلا كان رابعاً ولا خمسة إلا كان خامساً، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله يشك أن عماراً قد وجبت له الجنة في غير موطن ولا اثنين، فهنيئاً لعمار بالجنة. . .) وانطوت صفحة بيضاء ناصعة من صفحات الإسلام وانقض ركن من أركان الإيمان الثابت. . . فرحم الله عماراً

كامل محمود حبيب