مجلة الرسالة/العدد 246/مظاهر الحكم في مصر الأموية
→ قتيبة الباهلي | مجلة الرسالة - العدد 246 مظاهر الحكم في مصر الأموية [[مؤلف:|]] |
التصوف الإسلامي ← |
بتاريخ: 21 - 03 - 1938 |
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كانت لمصر في العصر الأموي بعض مظاهر عامة لا يستطاع إغفالها كظهور الروح القومية بين المصريين، وعلى الأخص بعد كتابة الدواوين بالعربية في عهد الوليد بن عبد الملك ابن مروان سنة 87هـ بعد أن كانت تكتب بالقبطية، وما انطوى عليه هذا العمل من إقصاء القبط عن كثير من مناصب الدولة، وكانوا يقومون بجباية الخراج، وإليهم تسند الوظائف الكتابية؛ مما أدى إلى إحياء روح القومية عند القبط، ودفع بهم إلى الصياح والقيام في وجه الولاة، وما كان أيضاً من اشتداد العمال في جمع الخراج وظهور روح العصبية بين القبائل العربية، وكان لهذا العصر مزاياه ومظاهر حضارته، فقد امتاز بعض ولاته بعطفهم على القبط، فسمح مسلمة بن مخلد (47 - 62هـ) لهم بأن يبنوا كنيسة في الفسطاط
ولقد ولى مصر في هذا العصر رجال عرفوا بالكفاية والدراية وحسن السياسة فنشروا العدل بين الناس، وأتوا بضروب من الإصلاح تشهد بمبلغ اهتمامهم بترقية الزراعة والصناعة وفن العمارة وغيرها
ومن بين هؤلاء مسلمة بن مخلد فقد بنى بالروضة مقياساً للنيل وداراً للصناعة، ورد الروم على أعقابهم حينما نالوا البرلس، واهتم ببناء المساجد وإصلاحها، فأمر في سنة 53هـ بجامع عمرو ابن العاص فهدم وبني من جديد، وأمر في السنة نفسها بابتناء منارات المساجد كلها
ولقد وفى شروط النيابة عن الإمام فكان يقيم الصلاة بنفسه طول مدة ولايته، ونظم الآذان فكان مؤذنو الجامع العتيق يؤذنون الفجر إذا مضى نصف الليل، فإذا فرغوا من آذانهم أذن كل مؤذن في الفسطاط في وقت واحد، وأمر ألا يضرب بناقوس عند آذان الفجر.
وكان عبد العزيز بن مروان من أحسن الولاة الذين حكموا مصر في هذا العصر. جاء في صحبة أبيه مروان حين جاء لاسترداد هذه البلاد من عامل عبد الله بن الزبير، وبقي فيها شهرين. ولما عزم مروان على العودة إلى الشام جعل صلاة مصر وخراجها إلى ابنه عبد العزيز، وكان بعض المصريين في ذلك الوقت على الشنآن لمروان ولبني أمية، فخاف عبد العزيز عاقبة مقامه في هذا البلد وأفضى بذلك إلى أبيه، فرسم له هذه الخطة المثلى التي ينبغي أن يسير عليها، فيتألف قلوب المصريين على اختلافهم. وتبين له أن هذا الأمر لا يمكن تحقيقه، إلا إذا أسرهم عبد العزيز بجوده وإحسانه، وجذبهم إليه بالمودة ولين الجانب والبشاشة، وبين لكل زعيم أنه من خاصته، وبهذا وحده يتفانى الجميع في خدمته، ويجمع الكل على طاعته. يقول الكندي قال عبد العزيز: (يا أمير المؤمنبن، كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أمية؟) فقال له مروان: (يا بني عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك، واجعل وجهك طلقاً تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره يكن عيناً لك على غيره وينقاد قومه إليك. وقد جعلت معك أخاك بشراً مؤنساً، وجعلت لك موسى ابن نصير وزيراً ومشيراً وما عليك يا بني أن تكون أميراً بأقصى الأرض. أليس ذلك أحسن من إغلاقك بابك وخمولك في منزلك؟)
هذه هي النصيحة الذهبية التي زود بها مروان ابنه عبد العزيز عند توليته أمر مصر. ولم يفت مروان أن يزيد ابنه من النصائح في وصية أخرى ما يكفل له الراحة والطمأنينة في هذا البلد عند رحيله إلى الشام، فلقد أوصاه بتقوى الله في السر والعلانية وبالبر بالفقراء، وبتنفيذ وعده إذا ما وعد ولو حال دون ذلك شوك القتاد، وأن تكون المشورة رائده قبل الفصل في أمور الدولة، وبذلك تلهج الألسنة بالدعاء له ويأمن الفتن والقلاقل
ولقد عمل عبد العزيز بنصائح أبيه فنجحت سياسته في مصر النجاح كله، وأتى في عهده بكثير من ضروب الإصلاح فبنى مقياساً للنيل، وزاد في الجامع العتيق من ناحية الغرب، وأدخل في شماله رحبة فسيحة وأقام على خليج أمير المؤمنين قنطرة عند الحمراء القصوى بطرف الفسطاط وكتب عليها اسمه وذلك سنة 69 هـ، واتخذ حلوان داراً لإقامته بعد أن أصيب بداء الجزام على ما يخالف قول المؤرخين من أنه انتقل إليها لتفشي الوباء في الفسطاط، وأنشأ بها بركة كبيرة ساق إليها الماء من العيون القريبة من المقطم على قناطر تصل عيون الماء بالبركة. وفي حلوان غرس عبد العزيز النخيل والأشجار وبنى المساجد والعمارات الفخمة. حتى قيل إنه بذل في سبيل ذلك مليون دينار ولقد بلغ من عنايته بفن العمارة والتماثيل أن ابتنى في الفسطاط حماما لابنه ذَبّان، وأقام على باب هذا الحمام تمثالاً عجيباً من زجاج على شكل امرأة وأطلق عليه أبو مرة، وباسمه تسمت القيسارية التي كانت ملكا لعبد العزيز باسم قيسارية أبي مرة، وكانت تعرف في زمن ابن دقماق (المتوفى سنة 711هـ) بحمام بثينة
نعم! لقد طالت ولاية عبد العزيز على مصر فأتيح له أن يأتي بكثير من الإصلاح، واستطاعت البلاد في أيامه أن تظهر بمظهر النشاط الأدبي والمادي. ولقد بالغ الشعراء فيما أتاه هذا الوالي من أعمال البر والإحسان والكرم، فقال بعض المؤرخين إنه (كان له ألف جفنة تنصب حول داره، ومائة جفنة تحمل على العجلات ويطاف بها على قبائل مصر. وفي ذلك يقول الشاعر:
كلُّ يومٍ كأنه يومُ أضحى ... عند عبد العزيز أو يومُ فِطر
وله ألف جفنة مترعاتٍ ... كلَّ يوم تمدّها ألف قِدْرِ
هذا وبالرغم من أن خراج مصر كان إلى عبد العزيز بن مروان، فقد قيل إنه لم يترك عند وفاته من المال غير سبعة آلاف دينار عدا أملاكه في حلوان، وقيسارية أبي مرة وما خلفه من الثياب والخيل والرقيق. فلا غرو إذا أجمع الناس على محبته ورضوا عنه وعن ولايته. ورثاه الشعراء أحسن رثاء فقال سليمان ابن أبان الأنصاري:
فمن ذا الذي يبني المكارم والعُلا ... ومن ذا الذي يُهْدَى له بعدَك السِّفر
فكنتَ حليف العرف والخير والندى ... فمتْن جميعاً حين غَيَّبكَ القَبْرُ
فبعدك لا يُرْجى وليدٌ لنفعةٍ ... وبعدك لا ترجى عوان ولا بكر
تلك هي مصر في فترة من حياتها الإسلامية الزاهرة في عهد عبد العزيز بن مروان من بني أمية.
حسن إبراهيم حسن