مجلة الرسالة/العدد 243/ليلى المريضة في العراق
→ بين الوطنية والأممية | مجلة الرسالة - العدد 243 ليلى المريضة في العراق [[مؤلف:|]] |
في معرض الآراء ← |
بتاريخ: 28 - 02 - 1938 |
للدكتور زكي مبارك
- 11 -
وصلت طلائع من كتائب المؤتمر الطبي في صباح اليوم. فليكن من هواي أن أتسمع أحاديث الأندية في المساء
لم يصل إلى فندق تايجرس غير طبيب واحد. وقد قضيت معه لحظة ففهمت أنه خالي الذهن من الغرض الصحيح لعقد المؤتمر الطبي في بغداد. وليس هذا بمستغرب من مثله، لأنه بولوني لا يعرف ما يساور شعراء العرب من المعضلات الوجدانية. وقد حاولت أن أفهمه أن المؤتمر إنما يعقد في بغداد لمعاونتي على مداواة ليلى فلم يفهم إلا أن اسم ليلى قد يكون اسماً لمرض من الأمراض. وما علينا إذ لم يفهم البولونيون!
لم يعرفني أحد من أطباء فلسطين وسورية ولبنان، فالذين قرءوا (مدامع العشاق) يحسبونني فتى لا يجاوز الثلاثين، والذين قرءوا (الأخلاق عند الغزالي) يحسبونني شيخاً يصافح الثمانين؛ وهم جميعاً يعتقدون أني مطربش لا مُسَدَّر، فدخولي بينهم بالسدارة يوهمهم حتما أني من فتيان العراق
وكذلك استطعت أن أسرق أحاديثهم في فندق استوريا من حيث لا يشعرون
تحدث طبيب منهم قال: ما كنت أحسب الزمن يسمح بمثل هذا الجنون؛ وما كنت أظن أن الجمعية الطبية المصرية تدعو أطباء العرب لعقد مؤتمر طبي يختبر حال ليلى المريضة في العراق. ولولا لجاجة زوجتي ما حضرت، فهي ترى التخلف عن هذا المؤتمر تحدياً للجنس اللطيف
واعترضه آخر فقال: هي فرصة طيبة لمشاهدة ليلى. وهي أيضاً مواساة للطبيب المصري الشهير زكي مبارك الذي هجر وطنه وأهله في سبيل الوجدان، ومن الواجب أن يكون بين أبناء العرب أطباء يتخصصون في طب القلوب
وقال ثالث: الذي يهمني هو مشاهدة ليلى ثم دعوتها لشرب كأس أو كأسين في فندق الفرات
وقد ضج الحاضرون بالضحك والقهقهة وكادوا يجمعون على طرافة هذا الإسفاف
كنت خليقاً بالحزن على ما صار إليه أدب الناس، ولكني حزنت على نفسي. حزنت حت غلبني الدمع
فهؤلاء الذين يتصورون أن العافية لا تطلب لليلى إلا لتصلح لمعاقرة الكأس، هؤلاء تقدموا وتأخرت؛ هؤلاء تفردوا بالفوز وتفردت بالخيبة. وهل كنت أقل سفها منهم حتى يفوزوا وأخيب؟
إن خراب عيادتي في شارع المدابغ، وتدهور عيادتي في شارع فؤاد، وحياتي المشردة بين القاهرة وباريس وبغداد، كل أولئك النكبات ستهد من عزيمتي، أنا الطبيب المسكين الذي أضاعه الأدب فلم يعد يصلح لغير طب القلوب، في زمن خلا من القلوب
لن أسمح بخروج ليلى، ولن يراها أحد من أعضاء المؤتمر الطبي بعد الذي سمعت
ولكن هل كان ما سمعت هو كل السبب في حماية ليلى من أهل الفضول؟
الحق أني مريض بالغيرة. مريض، مريض لا يرجى له شفاء.
وكان مرض الغيرة خف بعض الخفة في سنة 1927 ثم عاد فأضرعني
وتفصيل ذلك أني جلست أصطبح في قهوة الروم في باريس، فرأيت فتاة فصيحة العينين تجالس رجلاً فانياً، فأخذت أداعبها بنظراتي؛ وكنت فتى فصيح العيون يرسل بعينيه إشارات وخطابات وبرقيات إلى من يشاء؛ وكانت الفتاة تفهم عني فتعبس تارة وتبسم تارة وفقاً لسياق الحديث. ورآها ذلك الشيخ موزعة بين الابتسام والعبوس، فسألها فلم تنكر، فأشار إلي أن أقترب فاقتربت، فقال بلهجة صارمة: ماذا تريد؟
وقد أزعجني السؤال، وتخوفت العواقب، فقد كنت في كل أدوار شبابي أبغض الذهاب إلى إدارة الشرطة، ولو لتأدية شهادة؛ وتلطف الله عزت قدرته فستر عيوبي، وأعفاني من ذل الاستجواب في مراكز البوليس. تباركت يا إلهي وتعاليت! فلولا لطفك لأذلتني شماتة الأعداء
وكنت في تلك الساعة أتصور بشاعة الذهاب إلى إدارة التحقيق فاضطربت وتلعثمت
وأعاد الشيخ سؤاله: ماذا تريد؟ خبرني ماذا تريد؟
فجمعت قواي وقلت: سيدي، أنا شاب من الشعراء، أنا من سلالة العباس بن الأحنف؟
فهدأ الشيخ قليلاً وقال: ومن العباس بن الأحنف؟ فأجبت: هو الذي يقول:
أتأذنون لصبٍّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر لا يضمر السوء إن طال الجلوس به ... عف الضمير ولكن فاسق النظر
وترجمت له البيتين ترجمة مقبولة فابتسم وقال: ومعنى ذلك أنك تحب أن ترى وجه هذه الفتاة وتسمع صوتها؟ فقلت: إن سمح سيدي! فقال:
ففهمت إشارته ودنوت فزاحمت بركبتي ركبة الفتاة
رباه! متى تعود أيامي!
وأفهمني الشيخ أنه شاعر سويسري، وأنه لا يرجو من هذه الفتاة إلا أن تكون مصدر الوحي. وتلطف فقال إنه يسمح لي بمصاحبتها حين أشاء
فقلت: عفواً، يا سيدي، فجيبي يعجز عن تكاليف الحب
فقال: لك الحب، وعلي التكاليف
فأهويت على يده فقبلتها قبلة ما سمحت بمثلها لشيوخي في الأزهر الشريف
وكانت فرصة عرفت فيها أن الغيرة لها حدود
ولن أنسى ما حييت عبارات ذلك الشيخ الجليل فقد كان يسألنا بعد كل نزهة: ماذا صنعتم يا أطفالي؟ فكنت أقول مثلا: رأينا بارك سان كلو، وطربنا لجمال الطبيعة هناك
فيقول: ثم ماذا؟
فأجيب: ثم رجعنا
فيقول في ألم وسخرية: وهذا كل ما صنعتم؟!
وتفهم الفتاة ما يريد الشيخ فتقول: أؤكد لك يا مولاي أن المسيو مبارك ليس من العقلاء. وكان يدهشني أن يستريح الشيخ لهذا التصريح فأمضي وأقص ما افترعنا من المغامرات
رباه! متى تعود أيامي!
ولم يدم هذا النعيم غير أربعة أشهر، ثم سافر الشيخ والفتاة إلى جنيف، وعاد مرض الغيرة يساورني من جديد. وسأكون بالتأكيد من أشرف صرعاه
ولكن هل تكون هذه الغيرة ضرباً من الغباوة والحمق؟
لا، لا، وإنما هي فيض من المروءة والشرف، فقد قضيت دهري وأنا أحقد على من يهينون الجمال. ولهذا سبب معقول؛ فالمرأة التي تجود عليك بابتسامة يكون من حقها عليك أن تحفظ معها الأدب في السر والعلانية. والمرأة تعطي كثيراً جداً حين تجود بابتسامة.
والعاشق في جميع أحواله أقل تضحية من المعشوق، لأن العاشق يأخذ والمعشوق يمنح، والفرق بين الحالين بعيد. ولكن أين من يفهم المعاني؟
وقد أهلكني مرض الغيرة وأفسد جميع شؤوني وكاد يرزأني بالخراب. ولولا عناية الله لكنت اليوم ممن ينبذهم المجتمع ويتحاماهم الأهل والأقربون
فقد كان لي صديق من كبار الموظفين؛ صديق فيه شيء من الظرف وأشياء من السخف. وكان هذا الصديق يجب أن يطوف بي على رفيقاته من حين إلى حين؛ وكنت أعرف ماذا يريد؟ كان يريد أن أتعلم التسامح لأطوف به على رفيقاتي حين يشاء. وكنت أعرف ما يضمر وأسكت، لأني كنت أحب أن أقف على أمراض المجتمع لأحاربها عن علم لا عن جهل
وفي ذات يوم ابتدرني بهذه العبارة في لهجة جدّية:
- يا دكتور زكي، يا حضرة الفيلسوف، أما تحب أن تعرف رأي إخوانك فيك؟
- رأي إخواني؟ وماذا يرى إخواني؟ فما كنت إلا خير صاحب وأكرم رفيق
- أنا؟ أنا بخيل؟ وكيف وكان إخواني يغامرون ما طاب لهم الهوى، اعتماداً على الجيب الملآن، جيب الرجل الذي يجوع ليشبع الرفاق؟
- هم لا يتهمونك بالبخل من الناحية المادية، وإنما يتهمونك بالبخل من الناحية الغرامية
وعندئذ شعرت بأني مقبل على خطر فقلت:
- وماذا يريد إخواني؟
- يريدون أن تطوف بهم على رفيقاتك
فقلت: ليس لي رفيقات
فقال: يا سيدي، يا سيدي، على منطق الدكاترة!
فقلت: أؤكد لك ولسائر الإِخوان أني لا أعرف غير الكتاب والقلم والدواة والقرطاس
فقال: تعجبني حين تتخذ من حياتك العلمية ستاراً لحياتك الغرامية!
فقلت: أتحداك أن تذكر اسم امرأة واحدة يتصل بها غرامي
فقال: هل تنكر أن لك علاقات مع السيدة (. . .)
ونطق السفيه المجرم باسم امرأة مصونة أفديها بروحي. فلطمته لطمة أطارت ما كان وقع على صدره من أغربة الأحلام والأماني
فنظر إليّ في تخاذل وقال: وَحْش!
فقلت: ولا يؤدب الأوباش غير الوحوش
وأراد أن يجمع ما تناثر من أشلاء شجاعته ليقابل العدوان بالعدوان، فنظرتُ إليه نظرة ساخت بها روحه، فانصرف وهو يقول: طوِّل بالك!
وقد طوّلت بالي، وكنت أتوقع أن يعود بعد ساعة أو ساعتين وفي يده مسدّس، ولكنه لم يعد أبداً
ثم عرفت بعد حين أنه انتقم مني على طريقة أمثاله من الأنذال، فكان يرسل خطابات مجهولة إلى الدوائر التي تؤذيني أن أُذكر عندها بالقبيح، فتلطخت سمعتي بالمنكرات في أقل من أسبوعين
رابه! ماذا نعاني في سبيل المروءة والشرف؟
ومشيت يوماً في شارع فؤاد أروِّح عن نفسي قليلاً برؤية اللؤلؤ المنثور، اللؤلؤ الذي يتوهج بذلك الشارع في الأصائل والعشيات، فلقيني صاحب قديم فقلت: من أين قدمت؟
فقال: كنت في منزل (. . . باشا)
فقلت: وكيف حاله؟ فقد طال شوقي إليه
فقال: لم أجده في المنزل، وإنما جلست مع زوجته لحظة، جلسة بريئة بالطبع
فنظرت إليه نظرة ساخرة وقلت: أتريد أن توهمني أنك كنت تملك الفجور وعففت مع أنك أضعف من الخصيان؟
وخلاصة القول أني أتهم المجتمع، وأرى من النذالة أن نعرض بناتنا وأخواتنا وزوجاتنا للناس. ولا يضايقني أن يغضب صديقي الدكتور إبراهيم ناجي وهو يكرر كلمة المرحوم زكي باشا إذ قال: إن زكي مبارك عاش في باريس ما عاش وظل مع ذلك فلاحاً من سنتريس
نعم، فلاّح، ثم فلاح، فإن شاء أبنائي أن يثوروا على أبيهم الفلاح فليحملوا إن استطاعوا رذائل المجتمع. أما أنا فقد نجوت ولله الحمد، فكانت زوجتي ترفض أن تستقبل أخاها الشقيق وأنا غائب. ويسرني أن أسجل اعترافي بالجميل لزوجتي الفلاحة التي سارت سيرة أمها وجداتها فحفظت قلبي سليما من الهموم التي تزلزل عزائم الرجال
وإذاً فلن تخرج ليلى ولن يراها أعضاء المؤتمر الطبي
كذلك صممت ولن أرجع عما صممت
ومضيت إلى دار المعلمين العالية فإذا خطاب بالبريد الجوي وعلى غلافه:
(وزارة المعارف العمومية)
(مكتب الوكيل)
وزارة المعارف ومكتب الوكيل؟ وبالبريد الجوي؟
يا فتاح يا عليم!
أتكون وزارة المعارف أرادت أن ترجعني إلى مصر للتفتيش بالسنة التوجيهية والعياذ بالله؟
أتكون وزارة المعارف فكرت في إلغاء انتدابي لمداواة ليلى المريضة في العراق؟
ومرّت بالبال خواطر كثيرة، إلا خاطراً واحداً، هو أن تكون وزارة المعارف فكرت في تسديد ما عليها من الديون. وهل في الدنيا إنسان يبادر بتسديد ما عليه من ديون بلا طلب وبلا إلحاح؟ إن ديوني على وزارة المعارف ديون ثقيلة؛ ولن تدفعها إلا يوم يشهد معالي الوزير أو سعادة الوكيل بأنني رجل مظلوم لن يصل إلى مناصب تلاميذه إلا بعد أعوام طوال
ثم تشجعت وفضضت الخطاب فإذا سعادة العشماوي بك يخبرني بأنه قادم مع أعضاء المؤتمر الطبي، وأنه يسره أن يراني وأن يرى المصريين المقيمين بالعراق
ولكن لماذا اختصني سعادة العشماوي بك بهذا الخطاب؟
أغلب الظن أن يكون بعض الدساسين كتب إليه أني لا أؤدي الواجب في خدمة ليلى، فهو يريد أن يرى بعينيه ما صنعت في خدمة ليلاي
وإذاً فسيكون من الحتم أن تخرج ليلى لحضور حفلة الافتتاح
فما هذه المشكلات التي تثور في وجهي من حين إلى حين؟
من حق العشماوي بك أن يرى ليلى، ومن حقي أن أحجب عنه ليلاي
وأشهد أني قضيت يومين في درس هذا الموضوع الخطير. وكنت لا أعرف بالضبط: هل أغار على ليلى؟ أم أخاف على العشماوي بك؟ والحق أني أغار على ليلى وأخاف عليه، أما غيرتي على ليلى فهي مفهومة لا تحتاج إلى شرح؛ وأما خوفي عليه فيرجع إلى اعتقادي أنه من أرباب القلوب. وربما جاز لي أن أصرح بأنه كان من عبيد الجمال في صباه؛ وإلا فكيف أتفق أن يكون دائماً من أنصار الآداب والفنون؟ وهل يعطف على الأدب والفن غير أرباب القلوب؟
ثم مرّ بالبال خاطر سخيف؛ ولكن لابدّ من تدوينه في هذه المذكرات. ألم أقل أني أدوّن عيوبي قبل أن يدوّنها الكرام الكاتبون؟
أنا مفتش بوزارة المعارف المصرية؛ ومن واجبي نحو نفسي أن أحّسن علاقاتي بوكيل الوزارة. أستغفر الله! فما أردت إلا أن أقول سعادة الوكيل. ولا تؤاخذني يا عشماوي بك فما أقصدك بالذات. وسعادة الوكيل يستطيع أن يكتب مذكرة يقول فيها إنه ثبت أن مواهب الدكتور زكي مبارك أعلى من مستوى التفتيش، وإنه لابدّ من تحويله إلى منصب مناسب بالجامعة المصرية
وهنا وجه الخطر، فمناصب الجامعة لا تنفعني، لأني لا أستطيع أن أشفي بها ما في نفسي من مرض السيطرة، لأن السيطرة في الجامعة مقصورة على العمداء، والظروف الحاضرة لا تمنحني العمادة ولو في كلية الآداب، لأن العمادة تتوقف على شرطين: أصوات الأساتذة، وموافقة الوزير. والأساتذة لن يعطوني أصواتهم أبداً، لأني جرحتهم جميعاً في جريدة البلاغ؛ والوزير الحاضر وهو معالي بهي الدين بركات باشا لن ينسى أني هجمت عليه في مقال نشرته بجريدة المصري. ومن المحقق أنه لن ينتقم مني، ولكن من المحقق أيضاً أنه لن يتحمس لإنصافي فيراني أصلح الناس لمنصب العميد
لابدّ لي على أي حال من أن أبقى مفتشاً بوزارة المعارف. وهل في الوزارة منصب أعظم من منصب المفتش؟ إن لي في هذا المنصب ذكريات تقضي بأن أخاطر في سبيله بكل شيء إلا ليلى، إلا ليلى، إلا ليلى
منصب المفتش منصب عظيم جداً، فمن كان في ريب من ذلك فليسمع:
دخلت المدرسة التوفيقية صباح يوم، فهالني أن أرى مظاهر القلق في جميع الصفوف، فقلت للناظر: ما هذه الجلبة؟ فقال: إن التلاميذ يتطلعون من النوافذ ليمتعوا أنظارهم بطلعة سعادة المفتش. فقلت في تعجرف: هذا أدب ما بعد الحرب، وكان الواجب أن يقهرهم الخشوع. فقال الناظر: الرأي لك يا سعادة المفتش!
وقد عزّ عليّ أن يجاملني الناظر إلى هذا الحد، مع أنه أكبر مني سناً وعلماً، ولكن ماذا أصنع وأنا لا أخلو من لؤم، ومن حقي أن أستفيد من فساد المجتمع؟
ودخلت يوماً المدرسة الإبراهيمية فوجدت مدرساً كان من زملائي. وكان فيما أذكر أبصر مني بالدقائق النحوية والصرفية واللغوية، فأبيت إلا أن تعجرف عليه وأستطيل. وجدته يطلب من التلاميذ أن يتكلموا عن فوائد السينما، فقلت: لماذا لا تقول الخيالة؟ ورأيته يمرّ على كلمة (تطورّ) في دفاتر التلاميذ فلا يصححها، فحاسبته أشد الحساب فقال: إن الله يقول في كتابه العزيز (وخلقنا كم أطواراً) فقلت: نعم إن الله خلقنا (أطواراً) ومن أجل ذلك لا يصح أن (نتطور) يا أستاذ!
وقد هداني اللؤم إلى أن أقترح على وزارة المعارف أن تعهد إليّ التفتيش في المدارس الأهلية والأجنبية، لأن التفتيش في مدارس الحكومة يضايقني قليلا، إذ كان المدرسون في المدارس الثانوية قد ثبتت صلاحيتهم للتدريس منذ سنين؛ وأمثال هؤلاء لا يمكن قطع أرزاقهم بسهولة. أما المدارس الأجنبية والأهلية فيمكن فيها زعزعة مركز المدرس بإشارة أو إشارتين؛ وكذلك أستطيع السيطرة بلا عناء
ومن مزايا التفتيش أن يحفظ التلاميذ أشعاري بفضل (لباقة) المدرسين. وأذكر أني دخلت يوماً إحدى المدارس فأردت أن أختبر الطلبة في المحفوظات، فرأيت تلميذاً قيل إنه ابن وزير سابق. فقلت: أسمعني يا شاطر بعض ما تحفظ، فابتدأ يصيح:
قال سعادة الدكتور زكي بك مبارك:
يا جيرة السين يحيا في مرابعكم ... فتى إلى النيل يشكو غربة الدار
جَنَتْ عليه لياليه وأسلمه ... إلى الحوادث صحبٌ غير أبرار
فخشيت التورط في سماع شعري فأشرت على الطالب بأن ينشد شعراً غير هذا، فصاح:
وقال سعادته أيضاً:
نسيتم العهد واسترحتم ... من لوعة الحافظ الأمين
فأسكتّ الطالب وقلت للأستاذ: أليس لدى الطلبة محفوظات غير أشعار زكي مبارك؟
فقال: لقد أعطيتهم خمس قطع من أشعار زكي مبارك وثلاث قطع من أشعار علي الجارم، فحفظوا شعرك وصعُب عليهم حفظ شعر الجارم
فقلت: هذا عجيب، مع أن شعر الجارم لا بأس به!
وأنا موقن بأن الطلبة والأساتذة يسخرون منا، ولكن ما الذي يمنع من أن نستفيد من فساد المجتمع؟
والتفتيش سيكون قنطرة لعضوية المجمع اللغوي. ولكنه لن يكون كذلك إلا إذا عرفت كيف أستفيد. وأنا قد عرفت، ولله الحمد. وهل من الصعب أن أجلس في مكتب تفتيش اللغة العربية ثم انقد تقارير المدرسين؟ جاءني يوماً تقرير من الأستاذ الأول في مدرسة أسيوط الثانوية، فأخذت التقرير إلى البيت، وكتبت تقريراً بما في التقرير من أغلاط لغوية، ورجعت في اليوم التالي فحدثت جميع الموظفين بهذه الفضيحة، فلم ينقض اليوم إلا وأنا عمدة المحققين، وجهبذ المدققين
وكنت نسيت الموضوع الأصيل الذي كُتب من أجله ذلك التقرير ولكن لم يسألني أحد ماذا فيه
وربما كانت مدرسة أسيوط الثانوية لا تزال تنتظر رأي الوزارة في موضوع ذلك التقرير إلى اليوم، والصبر طيِّب!
وكان لي أسلوب في مضايقة المدرسين، أسلوب بديع؛ ولكني لم أبتكره مع الأسف، وإنما ابتكره شيوخٌ لنا من قبل. كنت آخذ كراريس التلاميذ إلى البيت، وأدرس موضوعاً واحداً من كل كراس. أدرسه بدقة وأمامي المعاجم والمراجع لأبين ما فات المدرسين من أغلاط، وأنسى أن المدرس لا يستطيع أن يستثير المعاجم في كل كراس. ولكن ماذا يهمني؟ المهم أن يشيع في بقاع الأرض أني محقق مدقق لأكون خليفة العوامري بك على الأقل، وذلك مغنم ليس بالقليل، وهو بفضل هذه الحذلقة مضمون
ومن عادتي أن أدعو المدرسين الذين أفتش عليهم (للتفضل) بانتظاري في المدرسة بعد خروج التلاميذ، وأكون تغديت وأخذت نصيبي من القيلولة، ويكون هم قد اكتفوا بما تيسر من الشطائر الجافة، وقضوا الوقت في التحضير والتصحيح، وتكون النتيجة أن أقدم عليهم بعافية، وأن يتلقوني وقد نال منهم الإعياء، فأُرغي وأزبد ما شاء التعسف، ويصدهم التعب عن درء الشر بالشر فيسكتون قلت إني أفضل المدارس الأهلية والأجنبية على المدارس الأميرية لأستطيع قطع الأرزاق حين أشاء. ثم تبينت وأنا راغم أن الأرزاق بيد الله، وأني لا أملك إيذاء مخلوق، وأن اللؤم الذي تنطوي عليه نفسي لن يضر أحداً غيري، فقد ذهبت للتفتيش على المدرسة المرقسية بالإسكندرية. ذهبت إليها في يوم مطير يحبس موظفي البنوك في البيوت. وكان أهم ما صنعته في ذلك اليوم أن أعدّ الغائبين، ثم كتبت إلى الوزارة تقريراً مزعجاً أقول فيه إن المواظبة منعدمة في المدرسة المرقسية، وإن ستة أسباع التلاميذ كانوا غائبين يوم حضرت للتفتيش
وما كان الغائبون (ستة أسباع) ولكني رأيتها كلمة لم يكتبها أحد من قبل. وما فضل التجديد إن لم أبتكر بعض التعابير؟
وقد أرسلت الوزارة تستجوب المدرسة، فكتبت إدارة المدرسة إلى الوزارة أن اليوم الذي غاب فيه التلاميذ كان يوماً مطيراً عاصفاً، وأن الزوابع هدمت بعض مباني الشاطئ وأغرقت ثلاث سفائن، وأن حضرة المفتش يعرف ذلك ويذكر أنه تزحلق ثلاث مرات في الطريق، وأن منظره في ذلك اليوم كان يخلق الإشفاق في أقسى القلوب
ودعاني وزير المعارف يسألني، فقلت يا معالي الوزير: أنت تعلمت في فرنسا وزرت جميع الممالك الأوربية. فهل رأيتهم يرون المطر من الأعذار؟ والإسكندرية كلها مرصوفة الشوارع، ومن الواجب أن نشدد في المواظبة لنخلق في الجو المدرسي طوائف جديدة من التقاليد
ويظهر أن الوزير استراح إلى تذكيره بأيام الشباب في فرنسا واستظرف كلمة التقاليد فقال: أحسنت أحسنت! ويشهد الله أني لم أكن يومئذ من المحسنين
أما التفتيش في المدارس الأجنبية فلي فيه نوادر تضحك الثواكل، وربما جاءت مناسبة لسردها في هذه المذكرات
والحاصل - كما يقول أهل بغداد وكما كان يقول الأزهريون - الحاصل أنني أريد التلطف مع سعادة العشماوي بك لأبقى مفتشاً وأنتقم من المدرسين الذين يهمّون بنقد مؤلفاتي وأشعاري في الجرائد والمجلات
وهو سيسأل عن ليلى، فلا بأس من أن يرى ليلى. وما أظنه سيخطفها من يدي، ولكن مرض الغيرة تعاودني أعراضه من حين إلى حين
وشاع في أروقة وزارة المعارف أن العشماوي بك حضر قبل الموعد، فمضيت للبحث عنه فنادق بغداد فعرفت أنه لم يحضر. فتمنيت لو أسمع أنه عدل نهائياً عن الحضور مع شدة الشوق إليه
وفي مساء اليوم التالي سألت فعرفت أنه في المفوضية المصرية، فذهبت للسلام عليه فاستقبلني بالعناق، فعرفت أن الشر الذي ساورني كان من أوهام الظنون
وبعد لحظة دعاني إلى حديث خاص فقلت: لعله خير. فقال: كيف حال ليلى؟ لا تكتم عني شيئاً، فليس لك في وزارة المعارف صديق أخلص مني. إنهم يشيعون في مصر وفي العراق أنك لا تخدم ليلى بإخلاص، فهل هذا صحيح؟
فقلت: إنك تعلم يا سعادة الأستاذ أني لا أملك غير ذخيرة الإخلاص. وقد بذلت في سبيل ليلى ما بذلت، وعند الله جزائي
فقال: هذه مسألة هينة، وسيحكم فيها المؤتمر الطبي
فقلت: أي مؤتمر يا مولاي؟
فقال: المؤتمر الذي نظمته الجمعية الطبية المصرية لمعاونتك على مداواة ليلى المريضة في العراق
فقلت: وإذا كانت ليلى لا تريد أن ترى أحداً غيري من الأطباء؟
فقال: ليس الأمر إلى ليلى ولا إليك، فقد تكونان عاشقين يطيب لكما الاستشهاد في الحب. ويجب أن تفهم أن الحكومة لا تقبل أن يتحول الجد إلى مزاح
وارتفع صوت العشماوي بك، فأقبل عزام بك يسأل عما بيننا من خلاف. فلخصت القضية فقال: وما الذي يخفيك من أعضاء المؤتمر الطبي؟
فقصصت عليهما ما سمعت في فندق استوريا. فتأثر العشماوي بك وقال: الحق معك يا دكتور زكي. ولكن ماذا أقول حين أرجع إلى مصر وليس معي وثيقة رسمية عن صحة ليلى؟
وهنا ظهرت البراعة السياسية لوزير مصر المفوض في العراق فقال: تحضر ليلى حفلة الافتتاح وهي متنكرة في زي امرأة حضرية عرفت أزياء باريس، ويسلم عليها سعادة العشماوي بك نائباً عن وزارة المعارف، وفضيلة الشيخ السكندري نائباً عن المجمع اللغوي، وسعادة الدكتور علي باشا إبراهيم نائباً عن الجامعة المصرية، وبذلك ينفضّ الإشكال
ومررت على فندق مود فرأيت جماعة من الأطباء يتحدثون عن آمالهم في مشاهدة ليلى فقلت: موتوا بغيظكم إن كنتم صادقين
وتلفتّ فرأيت بهو الفندق يموج بكرام العراقيين الذين جاءوا للتسليم على العشماوي بك ومن بينهم أصحاب السعادة طه الراوي وساطع الحصري وتحسين إبراهيم وإبراهيم حلمي العمر فحدثتهم بما وقع بيني وبين سعادة العشماوي بك فقالوا: الرأي رأيك في هذه القضية، فأنت وحدك طبيب ليلى المريضة في العراق، ونحن لا نشير أبداً بتعريض ليلى لأعين الناس، ولو كانوا أطباء
إلى هنا سارت الخطوات بسلام
فما الذي سيجدّ في أيام المؤتمر؟ ما الذي سيجدّ؟
لُطفك اللهم ورحمتك، فإن قلبي يحدثني بأنْ ستقع غرائب يشيب لها مَفْرَق الوليد. قلبي يحدثني بأني مقبل على أيام تموج فيها الفتن والمعاطب، وما كان قلبي من الكاذبين
بغداد، بغداد!
خذي بزمامي، فأنا في يمناك طَيِّعٌ ذلول. وليكم ما يكون. فإني واثق بأن الله لن يفضح الشاعر المخلص الأمين
(للحديث شجون)
زكي مبارك