مجلة الرسالة/العدد 243/بين الوطنية والأممية
→ عبرة السيرة | مجلة الرسالة - العدد 243 بين الوطنية والأممية [[مؤلف:|]] |
ليلى المريضة في العراق ← |
بتاريخ: 28 - 02 - 1938 |
للأستاذ ساطع بك الحصري
مدير الآثار بالعراق
- 2 -
تصوروا أيها السادة أن هذا المفكر الذي استرسل في التحمس إلى القومية الألمانية بهذه الصورة العجيبة، كان قد ظل بعيداً عن التفكير في الوطن والوطنية حتى نكبة (يه نا) الأليمة. . . إنه تجاوز العقد الرابع من عمره، ولم يكتب كلمة واحدة عن الوطن والوطنية، مع أن أبحاثه الفلسفية كثيراً ما كانت تتناول مسائل الحياة الأخلاقية والاجتماعية. . . بل بعكس ذلك، أظهر ميلاً واضحاً نحو النزعة العالمية حتى أنه في أحد الدروس التي ألقاها في الثانية والأربعين من عمره - احتقر (الذين يرون وطنهم في الأرض والأنهر والجبال)، فقال: (إنني أسأل: - ما هو وطن الأوربي المسيحي المتمدن حقيقة؟ - هو أوربا بوجه عام، والدولة الأوربية التي تشغل الصف الأعلى في سلم الحضارة على وجه أخص. . .) وكان يشير فيخته في قوله هذا إلى الدولة الفرنسية نفسها!
إن المدة التي مرت بين نشر هذه الكلمة وبين حدوث واقعة (يه نا) كانت عبارة عن تسعة أشهر فقط! وأما المدة التي مرت بين نشر هذه الكلمة وبين إلقاء الخطب الوطنية التي بحثت عنها، فلم تتجاوز ثلاث السنوات!. . . فإن الوقائع التي حدثت خلال هذه المدة القصيرة اضطرت فيخته إلى الانتقال من الفكرة العالمية المتساهلة إلى النزعة الوطنية المتشددة، وجعلته من أشد المتعصبين للقومية الألمانية، ومن أقوى وأنشط الداعين إليها
وأما (آرنت) فقد اشتهر بأشعاره الوطنية التي أيقظت في نفوس الألمان روح الحماسة والتضحية، وأوقدت في قلوبهم ضرام النخوة والحمية في تلك الأيام المملوءة بأنواع المصائب والنكبات
فاسمحوا لي أن أسوق إليكم نموذجاً من أشعاره الحماسية قال:
(أعطوني وطناً حراً، وأنا أرضى أن أفقد كل شهرتي، فيصبح اسمي منسياً، لا يذكر في غير داري ودار جاري. . .
(أعطوني بقعة أرض في جرمانيا، يستطيع فيها العندليب أن يغرد دون أن يرمى بسهم فرنسي. . .
(أعطوني كوخاً حقيراً يستطيع أن يصيح ديكي فوق حاجزه، دون أن يقع فريسة في يد فرنسي. . . وأنا أصيح عندئذ مثل الديك وأغرد مثل العندليب بكل فرح وسرور،. . . ولو أفقد كل ما ملكته يداي، فلم يبق لي شيء يستر جسمي غير قميص بال. . .)
تصوروا أيها السادة أن هذا الشاعر الذي أظهر مثل هذا الشعور الوطني الرقيق بهذا الشكل الطريف، في هذا الشعر الحماسي، وفي مئات من أمثاله. . . هذا الشاعر أيضاً كان بعيداً عن فكرة الوطن والوطنية - بتأثير النزعة العالمية السائدة حوله إذ ذاك -
حتى حروب نابليون. . . إنه اعترف بذلك هو نفسه، فقال: (إنني عرفت وطني في ثورة الغضب، وأحببته في ساعة النكبة، وآمنت بأنه لا بشرية بلا أمم، ولا أمة بلا وطن حر. . .)
أعتقد أن هذين المثالين يكفيان لإظهار التطور العميق الذي حدث في الآراء والنزعات في البلاد الألمانية عقب استيلاء الفرنسيين عليها، في العقد الأول من القرن التاسع عشر. .
نستطيع أن نقول إن الفكرة العالمية فقدت قوتها ونفوذها في ألمانيا تماماً، وتركت محلها لروح وطنية متأججة، استمر اضطرامها طول القرن التاسع عشر. .
مع هذا لم تندثر تماماً في سائر البلاد، بل بعكس ذلك - وجدت في بعضها تربة صالحة لنموها - تحت شكل جديد، هي فكرة (السلم الدائم العام. . .)
فقد تألفت عدة جمعيات تدعو إلى السلم والتآخي، منذ سنة 1814، وأخذت تسعى لنشر مبادئها بين المفكرين والناس بصور ووسائل شتى: إنها أخذت تدعو إلى توحيد الأوطان؛ حتى أنها لم تتردد في بعض الأحيان في توجيه حملات عنيفة على الوطنية في سبيل هذه الدعوة. . إن فكرة السلم والتآخي وجدت بهذه الصورة عدداً غير قليل من الأنصار والمريدين، بين الأدباء والمفكرين ورجال الدين. . وصار هؤلاء يعقدون سلسلة مؤتمرات أممية. . بقصد نشر فكرة السلم والتآخي بين الأمم. .
غير أننا إذا تتبعنا سير انتشار هذه الفكرة، نجد أن هذا الانتشار لم يجر باطراد، على وتيرة واحدة - فإن الفكرة كانت تنتشر انتشاراً لا بأس به مدة من الزمن ثم تتقلص وهلة، عندما تصطدم بالوقائع، وتشهد حدوث حروب جديدة، فتبدد الأحلام المستولية على الأذهان، وتثير ضغائن جديدة بين الأمم. . .
نستطيع أن نجد خير مثال لذلك فيما كتبه وقاله الشاعر الفرنسي العظيم (فيكتور هوجو). انجذب هذا الشاعر إلى فكرة توحيد الأوطان، ونشر ألوية السلم على العالم. فاشترك في مؤتمرات السلم، وألقى في بعضها بعض الخطب، وأرسل إلى بعضها بعض الرسائل؛ وفي كل ذلك أظهر نزوعاً شديداً نحو السلم العام، وإيماناً عميقاً في أمر توحيد الأوطان. . وتخيل في إحدى خطبه العهد الذي ستتحد فيه الدول الأوربية بأجمعها، والعهد الذي ستتصافح فيه الولايات المتحدة الأوربية (مع الولايات المتحدة الأمريكية) من وراء البحار، وتوحد أعمالها لخير البشر العام. . . كما حلم في العهد الذي ستنتقل فيه المدافع إلى المتاحف، وستترك القذائف محلها إلى أوراق التصويت في ندوة عالمية، تكون السيادة فيها للمناقشة العلمية والرأي الحر. . . وتحت تأثير هذه الأحلام وجه الشاعر دعوة حارة لإزالة الحدود والفوارق من بين الأمم، قائلاً: إن رأس البلاء هو الحدود؛ لأن مفهوم الحدود يتضمن المخفر، والمخفر يتطلب الخفير، والخفير يستوجب الجيش، والجيش يدعو إلى الحرب. . . فلنحذف الحدود. . لكي نرى ألوية السلم سائدة على العالم، وروح الأخوة منتشرة بين البشر. . .
ومن غريب الصدف أن هوجو كان قد أرسل هذا البيان إلى مؤتمر السلم الذي انعقد في لندن سنة 1869، أي قبل نشوب حرب السبعين بسنة واحدة فقط! وما كادت الحرب تنشب بين فرنسا وألمانيا، حتى ترك الشاعر هذه الأحلام جانباً وأخذ يبدع سلسلة أشعار حماسية، تتأجج فيها روح وطنية ثائرة. . .
إن هذا الشاعر لم يكن من الشواذ في هذا الباب. بل ظهر له أمثال كثيرون في كثير من البلاد. . . فعدد غير قليل من المفكرين انجذبوا مدة من الزمن إلى فكرة توحيد الأوطان، ثم عادوا إلى النزعة الوطنية والقومية تحت تأثير الوقائع والحادثات. .
لا ننكر أن بعضهم ظل متمسكاً بهذه الفكرة طول حياته، كما فعل (تولستوي) الشهير. . . فإنه ظل يدعي أن الوطنية من بقايا العهود الهمجية وأن من يعيش عيشة فكرية حقيقية لا يمكن أن يعترف بالوطن والوطنية. . . وظل يدعو الناس إلى نبذ النزعات الوطنية مهما كانت أشكالها، والى الامتناع عن الحروب مهما كانت الأسباب الداعية إليها. . . غير أن (روزفلت) الكبير أجاب على آراء (تولستوي) في إحدى خطبه بكلمة طريفة جداً قال:
(نعم، قد يأتي عهد - في أغوار عصور المستقبل البعيد - تفقد فيه الوطنية قيمتها وفائدتها. . . كما أنه قد يأتي عهد يندثر فيه نظام الأسرة فالزواج. . . غير أنه يجب أن نعرف جيداً أن الرجل الذي لا يفرق بين وطنه وسائر الأوطان - في المجتمع الذي نعيش فيه الآن - يكون عنصراً مضراً، كالرجل الذي لا يفرق بين زوجته وسائر النساء. . .)
إن دعاة السلم العام والأخوة البشرية الشاملة الذين ظهروا طول القرن التاسع عشر، وفي أوائل القرن العشرين، حتى الحرب العالمية - كانوا يتكهنون بقرب تحقق أحلامهم وأمانيهم. . . غير أن الوقائع والحادثات كانت تأتي على الدوام معاكسة لتلك الأماني والأحلام. . . كانوا يتكهنون بأن ساحات الحرب ستتحول إلى أسواق تجارية. غير أن الوقائع أتت بنتائج معكوسة لذلك تماماً، لأن الأسواق التجارية أصبحت مثاراً للحروب. . .
كانوا يقولون بأن المدافع ستنتقل إلى المتاحف. . . ولا ننكر أنه قد حدث شيء من ذلك، فإن المدافع التي كان يعرفها هؤلاء الدعاة انتقلت فعلاً إلى المتاحف؛ غير أن ذلك لم يحدث من جراء انتصار فكرة السلم العام، كما أنه لم يؤد إلى تقوية الفكرة المذكورة. . . بل إنه حدث من جراء اختراع أنواع جديدة من المدافع تفوق قوتها الحربية قوة تأثير المدافع القديمة مئات من الدرجات. . .
كانوا يوجهون أنواع السهام إلى (الحدود) التي تفصل الدول بعضها عن بعض؛ وكانوا يتمنون زوالها خدمة للسلم العام فقد حدث فعلا في الحدود التي كانوا يعرفونها، انقلابات عظيمة أدت إلى تبدل عشرات منها وزوال مئات. . . غير أن كل ذلك لم يحدث على أساس توحيد الأمم بأجمعها، ولا على أساس توحيد الأمم المتمدنة وحدها. . . بل حدث من جراء تحقيق النزعات القومية، وإعادة بناء الدول حسب مقتضيات تلك النزعات. . . فقد اتحدت الدويلات الكثيرة التي كانت تنقسم إليها بعض الأمم؛ فكونت دولة كبيرة أشد وطنية وأصلب قومية من جميع الدويلات التي اندمجت فيها. . . هذا ومن وجهة أخرى قد تجزأت بعض الدول الكبيرة التي كانت تتألف من أمم مختلفة النزعات، وانقسمت إلى عدة دول مستقلة؛ غير أن ذلك أيضاً حدث بتأثير النزعات القومية، وأدى إلى تقوية تلك النزعات. . .
تجاه هذه النتائج الفعلية فقدت الفكرة العالمية كل ما كان لديها من قوة؛ فأخذت فكرة السلم العالم ونزعة الأخوة البشرية اتجاهاً جديداً يختلف عما كان يقصده دعاة العالمية كل الاختلاف.
هذا الاتجاه الجديد، هو الدعوة إلى التعاون والتضامن بين الأمم داخل نطاق الوطنية والقومية تماماً. فلتبق كل أمة متمسكة بوطنيتها على أن تحترم وطنية الأمم الأخرى أيضاً. فلتبق كل أمة مستقلة في شؤونها على أن تتعاون مع سائر الأمم في مختلف ساحات النشاط البشري من العلم والثقافة إلى الاقتصاد والمواصلات. . .
إن هذه النزعة الجديدة لم تكن من نوع التمنيات الخالية، بل هي من النزعات العملية التي أنتجت نتائج باهرة، وساعدت على تكوين (مؤسسات أممية) كثيرة. . . من (اتحاد البرق والبريد الأممي) إلى (مؤسسة التعاون الفكري الأممي). . . ولاسيما بعد الحرب العالمية. . .
فنستطيع أن نقول لذلك: (إن نزعة الوطنية خرجت سالمة ظافرة من الكفاح العنيف الذي حدث بينها وبين فكرة العالمية بأشكالها المختلفة. . .)
غير أن الوطنية - بالرغم من تغلبها على النزعات المعادية التي ذكرناها آنفاً - وجدت نفسها منذ مدة، أمام نزعة معادية أخرى، أشد خطراً من جميعها. هذه النزعة هي (الماركسية) - نسبة إلى مؤسسها (كارل ماركس) - وبتعبير آخر هي: (الأممية الشيوعية)
إن دعاة هذه (النزعة الأممية) لم يحملوا بآمال السلم العام، ولم يعللوا أنفسهم بأماني الأخوة البشرية الشاملة. . . بل على العكس من ذلك آمنوا بضرورة الحرب، واستعدوا لها؛ غير أنهم قالوا إن هذه الحرب يجب أن تكون من نوع جديد. يجب أن تنشب بين الطبقات المختلفة لا بين الأمم المختلفة. يجب على عمال العالم أن يتحدوا على اختلاف أوطانهم ليحاربوا الرأسماليين مهما كانت قومياتهم. . .
إن دعاة الأممية الشيوعية يريدون تغيير نظام المجتمع الحالي من أساسه، ويعتقدون أن ذلك لا يمكن أن يتم دون ثورة وحرب، ويقولون بأن هذه الثروة يجب ألا تتقيد بقيود الوطنية بل يجب أن تعمل ضدها. . .
يقول الماركسيون إن الوطنية من وسائط حكم الرأسمالية، هي من الأسلحة التي تستعملها الرأسمالية لخداع الصعاليك، واستخدامهم لأغراضها الخاصة فلا يمكن أن يتأسس النظام الشيوعي ما لم تهدم فكرة الوطنية الخداعة وتمحى الحدود التي تولدت منها. . . فالأممية الماركسية تدعو إلى نبذ الفكرة الوطنية، ومحاربة الرأسمالية، أينما كانت، وبأية واسطة كانت. . . لذلك تطلب إلى العمال أن يتحدوا دون أن يلتفتوا إلى الحدود التي أقامتها النزعات القومية الوطنية، ودون أن يتقيدوا بالروابط التي أوجدتها هذه النزعات، ولهذا السبب تبدأ دعوة الماركسيين كل يوم بهذه الصيحات:
(يا عمال العالم اتحدوا. . .)
تدعو الماركسية جميع عمال العالم إلى الاتحاد، لأنها تقول بأن وطن العامل هو المعمل وحده. . . وأما مواطنه الحقيقي فهو العامل الذي يكد مثله مهما كانت قوميته؛ كما أن عدوه الأصلي هو الرأسمالي الذي يستغله مهما كان الوطن الذي ينتسب إليه. . . فعدو العامل الفرنسي مثلا - ليس الجندي الألماني أو الإنكليزي أو الروسي - بل هو الرأسمالي، سواء كان من الفرنسيين أو الألمان أو الإنكليز أو الروس. . . فيجب على جميع عمال العالم أن يتحدوا لمحاربة الرأسماليين على اختلاف أوطانهم وقومياتهم. .
(البقية في العدد القادم)
ساطع الحصري