مجلة الرسالة/العدد 243/في معرض الآراء
→ ليلى المريضة في العراق | مجلة الرسالة - العدد 243 في معرض الآراء [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 28 - 02 - 1938 |
للأستاذ أديب عباسي
أعتقد أنني أنصف الأستاذ العقاد وأختار اختياراً عادلاً إذ أقتبس الفقرات التالية من مناقشته لردى السابق، فأحاول مناقشتها فيما يأتي من هذه الكلمة. قال الأستاذ:
(ومن طرائف المناقشات أن تأتي هذه المناقشة من الأستاذ أديب عباسي تعقيباً لما أسلفنا في مقال الحدود الحاسمة الذي قلنا فيه إننا قد نستغني في الحدود والتعريفات عن الإحصاء والاستقصاء لما هو معلوم غني عن البيان من ضرورة الاستثناء في كل قاعدة. فإذا قال الإنسان إن النهار مضيء وإن الليل مظلم فليس من الواجب بعد ذلك أن يحصي أيام الغيم ولا الأغوار المحجوبة التي تظلم بالليل والنهار)
(فقد حدثت كشوف جغرافية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولكنها كلها لا تخرج عن المتممات التي تأتي بعد الفراغ من الأسس والأركان واستقرار البناء على نظامه الأخير)
(فلما انتهت كشوف القرن السابع عشر انتهى الخلاف في الأشكال والظواهر وانفتح المجال للبحث في الحقائق والبواطن أو لمعرفة الإنسان نفساً بعد أن عرفناه تركيباً ووضعناه في موضعه من عالم الأحياء الظاهرين)
(ولقد ذكر الأستاذ (أديب) كشوف الكواكب وكشوف الذرة وأمواج الأثير. . . التي حدثت بعد القرن السابع عشر ولا تزال تحدث في هذه الأيام)
(ولكن ما شأن هذه الكشوف وما نحن فيه؟ وأين هي من الحاسة الاجتماعية التي تعلق بها القصص وأبطال الرواية وأبطال السياحات. . .؟)
قلت أخشى أن يجرنا الخوف من (الحدود الحاسمة) إلى الترخص في الدقة العلمية والضبط الفكري وهما السمتان اللتان تتسم بهما اليوم جميع مباحث العلم وكثير من مباحث الأدب والفلسفة أيضاً. نحن لا ننكر أنه يجب أن يُستغنى في الحدود والتعريفات عن الإحصاء والاستقصاء - كما يرغب الأستاذ العقاد - فلا نعير الاستثناء بالاً كبيراً، ولكن على شرط ألا يبلغ هذا الاستثناء الحد الذي ينقلب التعريف عنده أو الحد من الضد إلى الضد
فما قول الأستاذ إذا صارحناه أن هذه الاكتشافات الجغرافية التي جاءت (بعد الفراغ من الأسس والأركان واستقرار البناء على نظامه الأخير تكاد - في رأينا - تفوق في إثارة الحس الاجتماعي الذي ينوه به الأستاذ تنويهاً قوياً اكتشافاتِ القرن السابع في الأمريكتين وأفريقيا وآسيا جميعاً؟
ماذا كانت حوافز الارتياد والاكتشاف الصحيحة في القرن السابع عشر، ثم كانت النتائج القريبة والبعيدة لذلك؟ قبل أن نحاول الإجابة عن هذا السؤال نقرر أن الكشوف الجغرافية يجب ألا تقدر تقديراً هندسياً ولا تحسب بكذا ألوف وملايين الأكيال والأميال إذا أردنا تقدير الأثر النفسي أو الحس الاجتماعي لها في نفوس الرواد والقاعدين وراءهم من شعوبهم أو غير شعوبهم
هذا كولمب أعظم المكتشفين، أي إحساس اجتماعي وأية معانٍ إنسانية كانت تحفزه إلى الكشف والارتياد؟ أنقول: لقد جهز كولمب مراكبه وأعد عدته وغامر مغامرته استجابة لما كان يجيش في نفسه ونفوس قومه من حب الاطلاع على الشعوب المجهولة والأقطار المأهولة الضائعة وراء الاطلانطيك، فيستطيع أن يصحح للناس آراءهم الخاطئة في هاته الشعوب والأقطار؟ أم الأصح أن نقول: إن كولمب غامر مغامرته ليصل إلى الهند التي لم تكن مجهولة إذ ذاك، ويفتح طريقاً للاتجار وتبادل السلع معها، غير الطريق القديم، فقاده وهمه إلى أرض جديدة وشعوب جديدة غير أرض الهند وغير شعوبها؟ فأية حاسة اجتماعية في هذا، وأي معنى من معاني التواصل الإنساني الصحيح؟
ثم هذه الشعوب التي كانت وراء كولمب؟! ألم يحف كولمب ويوشك أن يدب اليأس المرير إلى صدره في الانتقال من عاصمة إلى عاصمة من عواصم أوربا يستجدي مناصرة الأمراء والملوك قبل أن تمن عليه إيزابيلا بما منَّتْ ومكنته من المضي في مغامرته؟ قابل هذا بما يلاقيه الرائد اليوم من العطف والتشجيع المادي والأدبي من جميع طبقات الشعب، فتدرك أي فرق ثمة بين العصرين!
هذا ولينظر الأستاذ العقاد ما أصاب كولمب بعدها من حمق الغفلة، ولؤم المنافسة، ليدرك أي المعاني الإنسانية وأي الحواس الاجتماعية، وأي الشكر لهذا الفتح العظيم قد أثار كولمب في صدور قومه!!
قد يقول الأستاذ العقاد: ليس من الضروري أن تكون الغاية ما ذكرنا من حب التواصل الإنساني والاستجابة لدواعي الغريزة الاجتماعية، ويكفي أن تجيء النتيجة كذلك في هذه المغامرات والكشوف. أحسب أن الأستاذ يعفيني هنا من الإجابة الطويلة. فهو لا ريب يعلم علم اليقين النتائج المحزنة التي أفضى إليها اكتشاف كولمب ودي جاما ومجلان لأمريكا وغيرها من الأقطار المجهولة، ويعلم أن الذهب والفضة والقتل والتحريق والتدمير والاسترقاق والاستعمار كانت النتائج الأولى لذلك الاكتشاف؛ فأية حاسة اجتماعية هنا وأي تواصل صحيح بين الناس؟!
قابل بين أغراض الاكتشاف وحوافزه ونتائجه هذه في القرن السابع عشر، وبينها في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فترى كيف يجب ألا نقدر الاكتشافات الجغرافية، من حيث الحس الاجتماعي، تقديراً هندسياً.
فأنا أرى أن ارتياد القطبين والمعيشة بين الإسكيمو ودراستهم درس العطف والفهم الصحيح لقيمة الحياة البشرية، وأرى أن اختراق رمال الربع الخالي والاطلاع على نماذج الحياة الأولى في البادية العربية أجل وأسمى في الأغراض والنتائج الإنسانية من كشف الأمريكتين وأفريقيا والهند جميعاً. وأرى أن الفتاة التي تقضي السنين في إحدى جزر الباسفيك تدرس الحياة الجنسية لأهل تلك الجزيرة وتكتب كتاباً رائعاً تقول فيه: إن هذا الشعب الذي لا يزال على الفطرة أكثر إنسانية وأعظم مدنية في ممارسة الغريزة الجنسية من أرقى الشعوب الأوربية. هذه الفتاة في رأيي أعظم في مجال إثارة الإحساس الاجتماعي والتقدير الصحيح لمركز الرجل المتمدن من جميع الرواد القدماء
هذا ويجب ألا يفوتنا أن عصرنا وحده هو عصر الارتياد الجغرافي الزماني؛ فالباحث الأثري اليوم بمعوله ومجرفته في رمال مصر وربى فلسطين وصحراء العراق يفعل ما لا يفعله ملاح أو رائد من الرواد القدماء
نضيف إلى هذا أن دارون عاد من طوافه بقارات العالم بأعظم أداة من أدوات إزالة الجهل والغرور والاعتقاد بالكيان الأوحد المنعزل، حينما سوى بين الإنسان والإنسان، ووصل بين الإنسان والحيوان، ولم يكن هذا طبعاً في القرن السابع عشر
وأخيراً كشوف الكواكب وكشوف الذرة والأثير وسؤال الأستاذ: (ولكن ما شأن هذه الكواكب وما نحن فيه؟ وأين هي من الحاسة الاجتماعية التي تعلق بها القصص وأبطال الرواية وأبطال السياحات؟)
وهل قلت قط إن الكواكب أو الذرة أو الأثير تثير حساً اجتماعياً في النفوس؟ هل قلتها صراحة أو ضمناً؟ إنني أتهم نفسي وأعود إلى مقالي أقرأه حرفاً حرفاً فلا أجد شيئاً من ذلك وإنما أجد هناك أنني قلت: (ليست الكشوف الظاهرة قاصرة على الضرب في مجاهل الأرض واكتشاف أرجائها المجهولة، وإنها هنا لأنواع وضروب أخرى من الكشف الظاهري لا تقل روعة وشدهاً للخيال وصرفاً للإنسان من داخله إلى خارجه عن أعظم المغامرات الجغرافية). وقد سقت ذلك في معرض التدليل على أن بواعث الانصراف من الدخل إلى الخارج لا تكفي لتعليل ظاهرة الاختصاص وبروز الفروق في الأدب. فهذا عصرنا مليء ببواعث الانصراف من الداخل إلى الخارج كما كان العصر السابع عشر، ولكن علم النفس مع ذلك يتقدم باطراد، ولكن الرواية النفيسة التحليلية تحتل المكانة الأولى في مكتبة الأدب الحديث
وأحسب أن من الخير أن أعيد هنا ما كنت ذكرته في مقالي السابق تعليلا لظهور الدراسات الباطنة وما تلاها من تأسيس علم النفس التحليلي الذي تهداه أدباء الأجيال الحديثة في كتابة القصة النفيسة أو التحليلية فقد قلت هناك:
(إن هذه الدراسات الباطنة للنفس كانت مظهراً عادياً يتساوق مع المظهر العام لنشاط الفكر البشري في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فلما كشفت الكشوف الفلكية والطبيعية والكيميائية والفيزيولوجية، كشفت كذلك الكشوف في مجاهل النفس وخوافي الحس. فمذ اصطنعت الطريقة العلمية في البحث واخذ العلماء يجرون على أسلوب المشاهدة والفحص والاختبار اتخذت دراسة النفس خطة منظمة مجدية، فظهر أولا علم النفس العام وتلاه علم النفس التحليلي؛ ولكنا نعود ونقول إن هذه الدراسة لم يكن الحافز فيها والباعث عليها انتهاء الكشوف الظاهرة، وإنما كان الحافز عليها اتساع هذه الكشوف وسيرها على خطة علمية منظمة مجدية شملت الجماد والحيوان والإنسان جميعاً. . . الخ)
وأخيراً نحن نسلم للأستاذ العقاد بنظريته جملة إذ فسر لنا نشأة علم النفس العام والتحليلي بعده معزولين عن فروع المعرفة الأخرى في القرن السابع عشر وبعده، أما إذا اضطر أن يعيد علم النفس في نشأته وتقدمه إلى حظيرة العلوم الأخرى من حيث الصلة والزمن، فأحسب أن نظريته لا تسلم له مهما حاول أن يستفيد من (الحس الاجتماعي) و (الدراسة الباطنية) و (الدراسة الظاهرية)
وفي الختام آمل ألا أكون أثرت في صدر الأستاذ الكبير بهذا الكلام غير الشعور الذي يثيره طلب الحق ونشدان الصدق
أديب عباسي