الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 242/من برجنا العاجي

مجلة الرسالة/العدد 242/من برجنا العاجي

بتاريخ: 21 - 02 - 1938


يدهشني في حياة الملكة فكتوريا تلك الإرادة التي استطاعت بها أن تفصل بين (واجبها) كملك تحكم، وبين (قلبها) كامرأة تحب. إنها كانت مشغوفة بزوجها الأمير (ألبرت)، ومع ذلك أقصته أول الأمر في قسوة عن دفة الملك وشئون الحكم، وهو الرجل الذكي الواسع الاطلاع، فكانت تدرس هي معضلات الدولة وتتركه هو يقتل الوقت بالقراءة وعزف الموسيقى. آه! ما أحوجني أنا إلى مثل هذه المرأة التي تتركني أقرأ وأكتب وأسمع الموسيقى، وتنصرف هي إلى حمل المسؤوليات وحل مشاكل العيش. . . شيء آخر يعجبني في تلك الملكة العظيمة: إنها كانت تقرأ. إني أحب الملوك والقادة الذين يقرأون. تلك هي الوسيلة التي بها يعرفون حاجات شعبهم. لقد قرأت فكتوريا بعض قصص (ديكنز) التي يصف فيها شقاء الطبقات الفقيرة، وأحست وهي في أبراج قصرها ما يعانيه ألوف من البشر يطؤهم ظلم أرستقراطية جامحة بعرباتها الفخمة وخيولها المطهمة، فأدركت من خلال سطور ذلك الأديب كيف أن في بلادها عالماً آخر مهملاً يئن من الجوع والبؤس ولا يلتفت إليه أحد. فتركت الملكة الكتاب وقامت صائحة مرتاعة لم يهدأ لها قرار حتى مدت يدها إلى أولئك المناكيد، فرفعت عن أعناقهم نعال الفئة الباغية، وأطلقتهم يعيشون في هواء الحرية والرخاء كما يعيش الآدميون. في مصر والشرق أيضاً بغي وبغاة، وظلم وظالمون من جميع الأنواع؛ وفيهما كذلك فقر وشقاء وجهل وظلام في كل ركن من الأركان. ولقد يسألني سائل: أين هو الأديب الذي يصف كل هذا البلاء، ويصور هذه الدنيا التعسة المهملة التي لم تمتد إليها يد إصلاح منذ أجيال؟ جوابي على هذا السؤال بسيط: هات لي من يقرأ، أحضر لك من يكتب. إن الطاهي لا يوجد إلا إذا وجد الآكلون. إن الشرق لن يتغير حتى يعلم قادته كيف يملئون أدمغتهم بكل ما يمكنهم من فهم حال شعوبهم. إن ربان السفينة لا يركب البحر قبل أن يعرف بعض أسرار الريح والماء ونجوم السماء. فلنرج دائماً ممن يمسك بالزمام أن يمسك أيضاً بالكتاب

توفيق الحكيم

بين الوطنية والأممية

للأستاذ ساطع بك الحص مدير الآثار بالعراق

الوطنية من أهم وأقوى النزعات الاجتماعية المتأصلة في النفوس البشرية، ومع هذا فهي لا تسلم من أعداء وخصوم، يسعون إلى كسر قوتها وإزالة تأثيرها. . . إنني سأتحدث إليكم عن أهم أعداء الوطنية وأخطر خصومها. . .

عندما أقول (أعداء وخصوم) لا أقصد بقولي هذا (الأشخاص والأفراد) بل أقصد (الميول والنزعات). . لا أقصد الأشخاص والأفراد الذين يعادون وطنهم، ويخونون أمتهم. . بل أقصد الميول النفسية والنزعات الفكرية التي تعاكس الدواعي الوطنية، وتوجه العواطف والأعمال إلى اتجاه يخالف اتجاهها. . .

إن أهم وأعم الميول النفسية التي تعارض الوطنية وتعاديها بهذه الصورة هي (الأنانية). . . لأنها توجه النفوس نحو المصالح والملذات الذاتية، وتحملها على تقديم هذه المصالح والملذات على كل شيء. . في حين أن (الوطنية) - بعكس ذلك - تدعو إلى (الإيثار) و (التضحية)، في سبيل الوطن والقومية. . إنها تطلب من كل شخص أن يحب وطنه ويخدم أمته بكل ما أوتي من قوة، وأن يضحي بشيء كثير من راحته وهنائه في هذا السبيل، حتى أنها تطلب منه أن يوصل هذه التضحية إلى درجة (بذل النفس والحياة) عند اللزوم. .

ولذلك نستطيع أن نقول: إن الأنانية تعمل على الدوام عملاً معاكساً لدواعي الوطنية. . . فالوطنية لا تستطيع أن تنمو وتقوى دون أن تتغلب على الأنانية المعادية لها

غير أن الأنانية لا تعادي النزعة الوطنية وحدها، بل تعادي جميع الفضائل والنزعات الأخلاقية، على اختلاف أنواعها. . فكسر قوة الأنانية ليس من الأمور التي تتطلبها النزعة الوطنية وحدها، بل هو من الأمور التي تتطلبها سائر النزعات الأخلاقية بأجمعها

فنستطيع أن نقول لذلك: إن خلال النضال العنيف الذي يحدث بين الوطنية والأنانية لا تبقى الوطنية بدون أنصار. . . بل إنها تجد لنفسها عدة أنصار من سائر النزعات الأخلاقية التي تشترك معها في هذا النضال. . .

غير أن هناك بعض النزعات التي تعادي الوطنية دون أن تعاكس سائر الفضائل الأخلاقية؛ فالوطنية لا تجد لنفسها أنصاراً من تلك الفضائل خلال مناضلة مثل هذه النزعات، فتتحمل أعباء هذا النضال بمفردها بطبيعة الحال

أما منشأ هذه النزعات المعادية للوطنية فهو الآراء والمذاهب الفلسفية والاجتماعية التي تعتبر الوطنية من (النزعات البالية المضرة) فتدعو الناس إلى نبذها والتخلص منها

لعل أقدم هذه الآراء والمذاهب هي الفكرة التي تعرف في بلاد الغرب باسم الـ (كوزموبوليتيه) بمعنى (مواطنية العالم) - أو بتعبير أقصر (العالمية) - هذه الفكرة تدعو الناس إلى الترفع عن (النزعات الوطنية الخاصة) وتطلب إليهم أن ينزعوا إلى (حب العالم) دون أن يفرقوا بين مختلف الأوطان

أما الملاحظات التي تستند إليها (فكرة العالمية) فيمكن أن تلخص بهذه الكلمات:

ما لفرق بين الأوطان المختلفة؟ ألم تكن كلها من أجزاء الأرض التي نعيش عليها؟ وما قيمة الحدود التي تفصل الأوطان بعضها عن بعض؟ أفلم تكن كلها من الأمور الاعتبارية التي أوجدتها الوقائع الحربية أو المناورات السياسية؟ وما الفرق بين الأمم المختلفة؟ ألم تنحدر كلها من أصل واحد؟ أفلا يجدر بالإنسان - وهذه هي الحال - أن يسمو بأفكاره وعواطفه فوق الأوطان وفوق الأمم، فيعتبر الأرض بأجمعها (وطناً) كما يعتبر أبناء البشر بأجمعهم (مواطنين)؟

لقد مر - في الحقيقة - في تاريخ حياة البشرية عهوداً طويلة، كانت فيها (الرابطة الوطنية) ضيقة محدودة لا يتعدى نطاقها أسوار بعض المدن. كما كانت فيها الرابطة القومية محدودة المدى، لا يتجاوز تأثيرها حلقات بعض القبائل. فقد شهد التاريخ (الدور) الذي ارتفعت فيه الحدود من بين المدن التي كانت متحالفة، وانتفت فيه الضغائن من بين القبائل التي كانت متعادية. . . فتوسعت فيه فكرة الوطنية والقومية إلى ما وراء حدود المدن ونطاق القبائل، فوصلت إلى الحدود التي نشاهدها في الحالة الحاضرة. إن سلسلة التطورات التي حدثت بهذه الصورة إلى الآن، تدل على أن هذا التوسع سيستمر على الدوام، فسيأتي يوم تندمج فيه الأوطان المختلفة بعضها في بعض، إلى أن يصبح (العالم) (الوطن المشترك) لكل الناس، كما تمتزج فيه الأمم المختلفة بعضها ببعض إلى أن تصبح (الإنسانية) بمثابة (القومية المشتركة) بين جميع أبناء البشر. وأما (النزعة الوطنية) التي نعرفها الآن فستزول حتماً بتقدم البشر وتسامي العواطف، وستترك محلها لعاطفة إنسانية، وأخوة شاملة. . . فيجدر بالمفكرين أن يسبقوا سائر الناس في استقبال هذا التطور الجديد، فيسموا بأنفسهم - من الآن - فوق الوطنيات الخاصة ويعملوا بهذه الصورة على تعجيل حلول عهد الإنسانية الحق. . .

هذه هي سلسلة الآراء والملاحظات التي تستند إليها فكرة (الكوزموبوليتية)، (فكرة العالمية). . .

لاشك في أن هذه الآراء لا تخلو من قوة جذب وإغراء: لأنها تفسح أمام الأذهان مجالا واسعاً لأحلام الأخوة البشرية وأماني السلم الدائم، وتصور أما الخيال عالماً جديداً أرقى وأسمى من العالم الذي نعيش فيه الآن. . . فمن الطبيعي أن تستولي هذه الآراء - من الوهلة الأولى - على بعض النفوس التواقة إلى الكمال، ولو كان في الخيال. . .

فقد انتشرت الفكرة - فعلاً - انتشاراً كبيراً بين المفكرين في النصف الخير من القرن الثامن عشر. . . ولا سيما في ألمانيا، وحيث أصبحت النزعة السائدة في عالم الفكر والفلسفة. . فكان معظم الفلاسفة والأدباء - من كوته إلى لسينغ، ومن هردر إلى شللينغ - يقولون بها ويدعون إليها؛ فكان (كوته) - مثلاً - يترفع عن النزعة الوطنية، ويقول (وقانا الله إياها)، وكان (هردر) يعتبر الوطنية (من النزعات التي لا تليق بالمستنيرين والمفكرين). . .

ومما يجدر بالانتباه والملاحظة أن هذه النزعة الفكرية - مع انحدارها في الأصل من روح التشوق إلى الكمال - تتفق - في النتيجة - مع روح الاستكانة السلبية، وتكتسب لذلك قوة من ميول الأنانية الخفية. . .

لأن (فكرة الإنسانية والعالمية) نزعة أفلاطونية، لا تتطلب من الفرد عملاً فورياً وتضحية فعلية، في حين أن الوطنية نزعة واقعية تتصل بالحياة الحالية، وتتطلب من المرء أن يقوم ببعض الأعمال والتضحيات بصورة فورية؛ فالانصراف عن النزعة الوطنية، استناداً إلى (الفكرة الإنسانية) يكون بمثابة الانصراف عن الأعمال الإيجابية استكانة إلى الأوضاع السلبية. . ولهذا السبب يتفق هذا الانصراف اتفاقاً كبيراً مع روح الأنانية، التي كثيراً ما تتقنع بأقنعة خداعة تستر وراءها كثيراً من الميول النفعية. . .

لقد انتبه (جان جاك روسو) إلى هذه الحقيقة، فانتقد (الفكرة العالمية) بأسلوب لاذع، فقال: (إن بعض الناس يحبون أبناء الصين، لكي يخلصوا من الواجبات الفعلية التي تترتب عليهم من جراء حب أبناء وطنهم الأقربين)

وعلى كل حال يمكننا أن نقول: إن فكرة (العالمية) انتشرت في القرن التاسع عشر انتشاراً كبيراً بسبب تشوق المفكرين إلى الكمال الخيالي من جهة. . . وبدافع ميل الناس إلى التخلص من ثقل الواجبات الفعلية من جهة أخرى

وهذا الانتشار صار عظيماً في البلاد الألمانية بوجه خاص؛ أولاً: لموافقة الفكرة لروح الفلسفة السائدة بين مفكري الألمان عندئذ، وثانياً: لعدم اصطدامها هناك بنزعة وطنية قوية بسبب انقسام الأمان إلى دويلات كثيرة، واشتباك منافع هذه الدويلات وأمرائها اشتباكاً يحول دون نمو النزعات الوطنية والقومية نمواً سريعاً. . . إننا نجد في إحدى الكلمات التي كان قالها المفكر الألماني (شله يجل) دليلاً قاطعاً على ما أسلفناه؛ فقد قال: من العبث أن نحاول تكوين أمة ألمانية، فالأجدر بنا أن نأخذ بالفكرة العالمية، ونخدم الإنسانية. . .)

واستمر الحال في البلاد الألمانية على هذا المنوال حتى غزوة نابليون وهزيمة (يه نا). . .

ولاشك في أن الانهزام الهائل الذي مني به الجيش البروسي في واقعة (يه نا) كان من أبرز نتائج ضعف النزعة الوطنية وانتشار الفكرة العالمية. . . فإن الجنود كانوا ينهزمون من ساحة القتال تاركين أسلحتهم فيها دون أن يحاولوا استعمالها لصد غارة العدو الزاحف إلى بلادهم

غير أن كل ما حدث بعد ذلك بدد الأحلام العالمية والأماني الإنسانية التي كانت مستولية على النفوس. . . وأظهر لكل ذي عين بصيرة الفروق الهائلة بين (الوطن) الذي ينتسب إليه وبين غيره من الأوطان. . . وبين (الأمة) التي ينحدر منها وبين غيرها من الأمم. . .

فإن الذين كانوا انهزموا من ميدان القتال دون أن يستعملوا أسلحتهم لصد غارة الجيوش الأجنبية اضطروا - بعد بضع سنوات من تاريخ الواقعة - إلى الانخراط في سلك الجيوش المذكورة ليخدموا مآرب قائدها الخاصة. . . إنهم أرغموا على التجنيد وعلى العمل تحت إمرة قواد فرنسيين ليحاربوا - رغم أنوفهم - الدول والأمم التي أراد زعيم الفرنسيين الاستيلاء عليها دون أن يكون في كل ذلك أدنى مصلحة لهم ولوطنهم الخاص ولأمتهم الحقيقية. . .

وهكذا قد شاهد مفكرو الألمان بأعينهم أنه بينما كانوا يغطون في أحلام الإنسانية والعالمية استولت على بلادهم جيوش أمة بعيدة عن تلك الأحلام، ومتشبعة بروح الوطنية بأشد وأحد أشكالها، فأخذت تلك الأمة تسيطر عليهم وتستعبدهم، وتذيقهم أنواع الذل وتسوقهم إلى حيث تريد. . .

فكان من الطبيعي أن تنقلب الآراء والنزعات في ألمانيا انقلاباً هائلاً تحت تأثير الدروس القاسية التي ألقتها هذه الوقائع والنكبات. . وفي الواقع لم يمض على واقعة (يه نا) مدة طويلة، حتى تركت الفكرة العالمية محلها لحماسة وطنية شديدة ويقظة قومية جبارة. . . وهذه الحماسة الوطنية واليقظة القومية هي التي أدت إلى نهضة بروسيا المعلومة، وخلصتها من نير الفرنسيين ثم قادت الأمة الألمانية بأجمعها نحو الاستقلال والوحدة والقوة والعظمة. . .

ومن المفيد لنا أن نتتبع هذا التطور العميق فيما قاله وكتبه البعض من مفكري الألمان أنفسهم في ذلك العهد. . أود أن أذكر لكم مثالين بارزين: أحدهما من الحكماء وهو (فيخته) والثاني من الشعراء وهو (آرنت)

عندما يذكر اسم - فيخته - في ألمانيا، يتبادر إلى الأذهان الخطب الحماسية التي وجهها (إلى الأمة الألمانية) خلال أيام النكبات التي بحثنا عنها، تعتبر هذه الخطب من أهم عوامل النهضة في ألمانيا، ومن أقوى موجهات القومية فيها. . .

ألقى فيخته خطبه الأربع عشرة في مدرج جامعة برلين، عندما كانت الجيوش المحتلة تقوم باستعراضات متوالية في شوارع العاصمة البروسية وميادينها. . . تحتوي هذه الخطب على نظرات فلسفية في تاريخ حياة الأمة الألمانية، وأبحاث شيقة عن الحيوية الكامنة فيها وعن وسائل التربية التي تكفل تجديد حياتها. . . وكل هذه النظرات والأبحاث ترمي إلى غاية واحدة، هي استنهاض الهمم في سبيل بعث الأمة الألمانية، وإعادة بناء مجدها. .

إن خطب فيخته تنم عن روح وطنية متأججة، وتدعو إلى نزعة قومية متعصبة، ولاسيما الخطبة الختامية، فإنها تعتبر آية من آيات التحميس والاستنهاض. يوجه (فيخته) في خطبته هذه بعض الكلمات إلى الشباب، ثم إلى الكهول، ثم إلى رجال الدولة والمفكرين والأدباء، وأخيراً الأمراء، مصدراً كل واحدة من هذه الكلمات بقوله: (إن خطبي تستحلفكم وتبتهل إليكم. . .)

بعد ذلك يضطرم حماسة، فيقول لجميعهم: (إن أجدادنا أيضاً يستحلفونكم معي، ويضمون صوتهم إلى صوتي (ويأخذ في تصوير صوت الأجداد) بأسلوب حماسي جذاب. ثم يعقب ذلك بقوله: (إن أخلافكم أيضاً يتضرعون إليكم). ويشرح صوت الأخلاف بأسلوب مؤثر خلاب

وأخيراً ينهي الخطبة بكلمات تدل على شعوره بغرور قومي عميق: (. . . ولو تجاسرت لأضفت إلى كل ما تقدم قائلاً: إن القدرة الفاطرة أيضاً تستحلفكم وتستنهضكم. . . لأنه لم يبق على وجه الأرض أمة حافظت على بذور قابلية التكمل البشري بقدر ما حافظت عليه أمتكم المجيدة. . . فإذا سقطت الأمة الألمانية سقط معه الجنس البشري بأجمعه، ولا يبقى له أدنى أمل في السلامة. . .)

(يتبع)

ساطع الحصري