الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 242/حدود الحق والواجب

مجلة الرسالة/العدد 242/حدود الحق والواجب

مجلة الرسالة - العدد 242
حدود الحق والواجب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 02 - 1938


للأستاذ عبد الرحمن شكري

مفتش التعليم الثانوي

إني أرى أن رقي كل أمة لا يقاس بما فيها من مسببات الرفاهية والثروة أو معدات القتال إذا كان احترام حدود الحق والواجب غير شائع بين أبنائها. فإنها إذا فقدت هذا الاحترام فقدت العروة الوثقى التي تعتصم بها للمحافظة على مسببات الثروة والرفاهية وللانتفاع بمعدات القتال والدفاع. وإذا عرضنا حياة الأمم وتاريخها الاجتماعي وجدنا أن مسببات الثروة لا تلبث أن تزول إذا كان نظامها الاقتصادي غير مؤسس على احترام حدود الحق والواجب. إنها قد تزدهر فيها الثروة حيناً، وقد يؤجل لها الخراب المحتوم زمناً ربما طال، وربما يغرها طول هذا الزمن الذي تستمر فيه رفاهيتها وثروتها بالرغم من ضياع احترام أبنائها لحدود الحق والواجب؛ وما طول تأجيل خرابها إلا لما يزال فيها من العناصر الصالحة والقوة المدخرة من عهد الماضي الصالح، كالقوة التي تدفع المرء إذا نزل من سيارة سائرة فيسير هو أيضاً بعد نزوله منها؛ وقد تكون خطوات سيره قليلة أو كثيرة، ولكنه إنما يسير إلى الأمام مدفوعاً لا مختاراً. وكذلك الأمة التي تنزل عن احترام حدود الحق والواجب إذا تقدمت فإنما يكون سيرها سيراً آلياً لا فضل لها فيه، ولا يلبث أن ينتهي، إلا إذا أدركتها أسباب جديدة تدعوا إلى استمرار سيرها. وينبغي ألا نستبطئ أو نستعجل انتهاء تقدم مثل تلك الأمة التي فقد أبناؤها احترام حدود الحق والواجب، فإن خطوات الأمم أطول مدى من خطوات المرء الذي ينزل من سيارة سائرة؛ وقد تستجد أمور تزيد خطوات سيرها إلى حين، وكلما كانت السيارة التي ينزل المرء منها أسرع في سيرها كانت خطوات المرء الذي ينزل منها أكثر.

وهذه الظاهرة تشاهد في أمور مختلفة من أمور الأمم، فهي إذا فقدت احترام حدود الحق والواجب لم يكن الخراب مقصوراً على حالتها الاقتصادية، بل هو يشمل أيضاً خراب الأسرة وخراب التعليم وخراب كل شيء. وكثيراً ما نرى في التاريخ جيوشاً أقل عدداً وعدة تهزم جيوشاً أكثر عدداً وعدة من جيوش أمة فقد أبناؤها احترام حدود الحق والواجب. وهذا لا ينفي انتصار الفريق الأكثر عدداً وعدة إذا ظفر الفريقان المتحاربان بقدر متكافئ من احترام حدود الحق والواجب

ولكن القارئ غير الملم بحقيقة الأمر ربما يظن أن انتصار جيوش الدول الأوربية على جيوش الدول الشرقية كان دائماً بسبب كثرة حظ الجيوش الأوربية من عدد القتال وآلاته الحديثة. نعم إن الأمر كان كذلك في معارك كثيرة، ولكنه لم يكن دائماً على هذه الحال. ففي واقعة بلاسي في الهند كان جيش سراج الدولة أكثر عدداً وعدة، وكان قد اشترى من الفرنسيين مدافع وأسلحة كثيرة، ولكنه - بالرغم من ذلك كله - دارت عليه الدائرة

وفقدان احترام حدود الحق والواجب يفسد أيضاً أداة الحكومة وأداة التعليم، ويفسد صلات أعضاء الأسرة الواحدة كما يوقع بين الأسرة والأسرة؛ وهذا الفساد وهذا الخراب لاشك من مظاهر التدهور مهما كان في الأمة من مسببات الثروة أو مظاهر الحضارة والتفكير والأدب. فمن المعروف في التاريخ أن مظاهر الحضارة والتفكير والأدب والفنون قد تزدهر حتى والأمة على حافة التدهور؛ وقد تستمر وهي آخذة في التدهور فنحسب هذه المظاهر نضوجاً، وإن كانت نضوجاً فهي نضوج العطن العفن كالفاكهة التي تعطن من كثرة النضج

ولقد كانت في أواخر مراحل الدول الإغريقية والرومانية والفارسية والعربية مظاهر كثيرة من مظاهر الحضارة والأدب والفنون حتى بعد أن أخذت في التدهور

ولاشك أن فقدان احترام أبناء الأمة لحدود الحق والواجب يفسد عليهم مظاهر الحضارة والتفكير والأدب، ولكن هذا الفساد قد يعمل في السر عمل السوس ولا يظهر في أعظم أشكاله خطراً إلا في النهاية. وفي بعض الأحايين لا يحترس أبناء الأمة ولا يأخذون الحيطة والحذر لمنع أسباب التدهور اغتراراً منهم بكثرة المدارس، وأنواع التعليم، وكثرة الصناعات، ورواج التجارة وانتشار التفكير، وكثرة المؤلفات والمؤلفين، وازدياد الأرض المزروعة، وغير ذلك من مظاهر الحضارة ككثرة المباني الشاهقة الحديثة، والشوارع المنتظمة، والميادين الفسيحة، والسيارات الفخمة، ومهيئات الراحة والرفاهية، ودواعي الاطمئنان وما يجلب اللذة والسرور. . .

فإذا تنبه أحدهم إلى أمر ضروري وهو احترام حدود الحق والواجب وافتقده ولم يجده في النفوس بالرغم من كثرة المدارس والسيارات والعمارات والمنشآت وغيرها من وسائل الحضارة، وإذا حذرهم وقال لهم إن افتقاده لابد أن يؤدي حتماً إما آجلاً وإما عاجلاً إلى التدهور والخراب - عدوه متشائماً وخدروا عقولهم تخديراً بأن يحسبوا أن يحسبوا أن وسائل الحضارة هذه من مدارس وعمارات وميادين وسيارات وغيرها لابد أن تجلب لنفوسهم هذه الصفة الضرورية وهي احترام حدود الحق والواجب، إذا كانت حقيقة ضرورية لا غنى عنها إذا أريد تجنب التدهور لأنهم لا يستطيعون أن يتصوروا كيف أن كل مظاهر الحضارة هذه لا تحميهم من التدهور والخراب إذا افتقد شيء غير مرئي ولا منظور وهو احترام حدود الحق والواجب

وهؤلاء الذين يأملون أن تعصمهم المنشآت والعمارات والسيارات والمدارس والميادين وغيرها من التدهور، لأنها في ظنهم لابد جالبة هذا الشيء المطلوب، وهو احترام حدود الحق والواجب، ربما كانوا أقل ضرراً من الفريق الذي يتبجح ويقول إن الحضارة الحديثة مؤسسة على عدم احترام حدود الحق والواجب، وإن كان هذا الفريق يصوغ قوله في قالب آخر فيقول مثلاً: ينبغي ألا نيأس، فإن التفكير الحديث قد قلب الأخلاق رأساً على عقب، وألغى الأخلاق القديمة وجاء بأخلاق تناسب رجل المستقبل. أو يقولون: إن الإنسان الذي يريد أن يكون رجلاً ينبغي أن يحرر نفسه من قيود الأخلاق القديمة. كأن الفلسفة الحديثة يمكنها أن تعطل سُنة من سنن الحياة، وهي سنة تدهور الأمم إذا فقدت احترام حدود الحق والواجب

ومما يدعوا إلى الأسف انتشار هذه النغمة بين بعض المثقفين المفكرين الذين كان ينبغي أن يكونوا أكثر فهماً لحقائق الحياة الثابتة والذين يستطيعون أن يروا كيف سرت هذه الحقائق في الماضي في حياة الأمم، والذين ينبغي أن يفهموا أن ما يدعون إليه من الأخلاق الجديدة ما هو إلا عدم احترام حدود الحق والواجب ذلك الاحترام الذي إذا فقد تدهورت الأمة التي تفقده كما يشهد التاريخ

وهناك فريق آخر أكثر صراحة وأكثر أثرة وهم يفهمون حقيقة الأمر، ولكنهم يقولون: الطوفان بعدنا. ويريدون أن يستفيدوا من فقد احترام حدود الحق والواجب، وأن يعيشوا بهذه الفائدة قبل الطوفان

وهناك فريق آخر يدرك حقيقة الأمر، ويحاول أن يزيل الخطر وأن يصلح الأمر، ولكن بقوة مشلولة، لأن الله إذا أراد بأمة سوءاً شل إرادتها وقوتها، وهذه الطوائف الأربع هي الطوائف التي تكون في الأمة التي فقدت احترام حدود الحق والواجب.

وإذا نظرنا إلى بلادنا وجدنا مظاهر الحضارة من مدارس ومنشآت وعمارات وصناعات وميادين فسيحة وسيارات، ووجدنا من يظن أن هذه الأمور تعصم من التدهور الذي ينشأ من افتقاد احترام حدود الحق والواجب، ووجدنا أيضاً طائفة من هذه الطوائف الأربع، ووجدنا أيضاً. . . فقدان احترام حدود الحق والواجب، والشواهد على فقدانه لا يمكن أن تحصى فهي كعدد الرمال على شاطئ البحر

ولكني سأقص على القارئ حوادث تدل على أن فقدان احترام حدود الحق والواجب أمر قد تفشى حتى في نفوس أرقى الطبقات.

والحادثة الأولى حدثت عندما كنت ناظراً لمدرسة ثانوية في الأقاليم، ورسب ابن أحد كبار رجال الإدارة وابن أحد كبار رجال البوليس في امتحان النقل. ويكفي أن نقول (أحد كبار الرجل) وكان رسوبهما في اللغة الإنجليزية، ورفض الأستاذ الإنجليزي مراقب تصحيح المادة أن يزيد درجتي الطالبين في الامتحان، والقانون يقضي أنه لا يمكن أن تزاد درجة إلا بواسطة مراقب التصحيح، والنظم الحديثة التي كانت سائدة وقت الحادثة تحرم على ناظر المدرسة أن يزيد هو الدرجة، فحاولت أن أطلع أحد الكبيرين على حقيقة الأمر، وعلى حدود حقوقي وواجباتي كناظر مدرسة، وعلى أن القانون يحرم عليّ زيادة الدرجة وإنجاح الطالبين، فقال أحدهم: أنا لا أفهم كيف أننا نتصرف في تطبيق قانون يتوقف عليه حياة الناس، ويتوقف عليه امتلاكهم لما يملكون، وأنت لا يمكنك أن تتصرف في تطبيق قانون (مدرسي) لا أقل ولا أكثر! ثم ذهب ولم يصدق قولي. والحادثة الثانية تشبه هذه الحادثة تمام الشبه، ولكنها حدثت في مدرسة قريبة من القاهرة، فقد رسب أيضاً طالب في اللغة الإنجليزية، ورفض المراقب زيادة الدرجة وإنجاح الطالب، وأبى أبو الطالب، وكان من الوجهاء العظام، إلا أن يحمل لي ضغينة شديدة وأن يثير ضدي غيره من الناس وإن كنت لا أملك وسيلة قانونية لزيادة الدرجة إذا رفض مراقب اللغة الإنجليزية أو غيرها من المواد إنجاح الطالب. كما أني ما كنت أملك وسيلة لمنع مراقب التصحيح من إنجاح الطالب لو أراد إنجاحه، ورأى أنه يستحق النجاح، وفي هذا العجز عن منعه من إنجاح الطالب ما يدل على العجز عن منعه من إسقاطه مادام يستعمل حقه القانوني ومادام الطالب يستحق التقدير الذي قدره له مراقب التصحيح

وقد اتضح لي أن أولياء أمور الطلبة في مثل هذه الأحوال يريدون أن يوسطوا بعض المشتغلين بالتعليم فيزيد هؤلاء النار أجيجا. وقد ذكرت الآن حادثة ثالثة حدثت في المدرسة الأخيرة وهي أن طالباً أهان أستاذاً فرفت الطالب بضعة أيام، فجاء إليّ والده وقريبه وهما من الأعيان ومعهما ثالث من المشتغلين بالعلم والتعليم، وحاولوا من غير تلطف بل بوجاهتهم ونفوذهم، وقبل أن يعرفوني بأنفسهم أن يحملوني على نقض ما أبرمت، ورأيت أني لا أملك حق السامح للطالب أن يهين أستاذه، فرضت، فحملوا لي الضغينة وكان أشدهم ضغينة ذلك المشتغل بأمر التعليم. وذكرت حادثة أخرى مثلها حدثت في مدرسة من مدارس الوجه البحري، وتدخل أيضاً أحد المشتغلين بالتعليم بخطاب شفاعة من القاهرة فتلطفت في رد طلبه، فحمل لي ضغينة العمر. والذي أعرفه أن الطلبة كانوا قديماً لا ينقمون العقاب المدرسي إذا عرفوا حسن نية موقعه، ولكن الحال قد تبدلت الآن لسوء قدوة الكبار. فإذا كان بين الطلبة من لا يحترم حدود الحق والواجب فقد لقنوا ألا يحترموه، بل لقنوا أن احترامه ضعة ومهانة. وكثيراً ما كنت أشاهد أن الطالب قد يتذمر من العقاب ولكنه يعود إلى الصفاء والولاء. أما الشفيع المخذول فإنه لا ينسى أبداً أنه قد رفضت شفاعته، وهذا كان قبل أن تسري طباع الكبار إلى الطلبة. ومن عجائب الدهر أن أشد الناس لوماً للطلبة وتعنيفاً لهم وذماً لسلوكهم في كثير من الأحايين أسوأ قدوة للطلبة، وهم على نفس الطباع والخصال التي يذمونها في الطلبة والتي سرت منهم إليهم، وهؤلاء هم الكبار على اختلاف طبقاتهم وأعمالهم.

عبد الرحمن شكري