مجلة الرسالة/العدد 242/المثل الأعلى للشاب المسلم
→ التاريخ في سير أبطاله | مجلة الرسالة - العدد 242 المثل الأعلى للشاب المسلم [[مؤلف:|]] |
مهداة إلى جماعة دار العلوم العليا بمصر ← |
بتاريخ: 21 - 02 - 1938 |
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
هذه هي الصفة الأولى للشباب، وهذا هو المثل الأعلى فيها. تزوج ثم أحب زوجتك، وأوْلها قلبك، وامنحها عاطفتك. أما الصفة الثانية فهي البطولة، وحظ الشباب المسلمين فيها أوفى من حظوظ شباب الأمم. وعلى الشباب المسلمين واجب أضخم، ذلك أن المصلحين كانوا يتلفتون قبل عشرين عاماً فلا يرون حولهم إلا ظلاماً لا تسطع في ثناياه بارقة أمل، ونوماً (أو قل موتاً) لا ترى في خلاله أمارة حياة، وخيبة مستمرة في السياسة والعلم والعمل؛ ثم انجلت الحرب العامة عن جسم واحد، حاول الأقوياء الغالبون أن يخالفوا فيه سنة الله ونواميسه في كونه، فيجعلوا الرأس يحيا وحده، واليدين تعيشان وتفكران على استقلال، والقلب يصبح إنساناً برجلين؛ فقرروا أن تكون هذه الحكومات الكثيرات المضحكات في بلد مجموع سكانه أقل من نصف سكان لندن، فكأنهم جرَّبوا ألا يكون الواحد ربع الأربعة، بل يكون كل واحد أربعة كاملة!
كان المصلح يرى ذلك كله ولا يرى إلى جانبه ما يبعث في النفس أملاً أو يحيي فيها رجاء، فكان يتشاءم ويقنط؛ ولكن الزمان يا سادتي قد تحوَّل، وختمت يد القدرة المجلد الثاني من تاريخ الأمة الإسلامية، ذاك الذي سجلت فيه عصر الانحطاط والتأخر، وافتتحت اليوم المجلد الثالث من هذا التاريخ لتسجل فيه عهد البعث والتقدم. إن المصائب التي اشتدّت وآلمت، وتتالت وتعاقبت، قد نبَّهت وأيقظت، وحذرت وأنذرت، فأفاقت شعوب هذا الشعب الإسلامي مذعورة تفتش عن طريق الحياة، وتبحث عن سبيل العمل؛ وظهرت بوادر يقظة قوية، ونهضة شاملة، ولكن (يا سادتي) ينقصنا الإيمان بهذه الحقيقة الواقعة فليكن اجتماعنا هذا تبشيراً بها ودعوة إليها. يجب أن نؤمن بهذه النهضة إيماننا بوجود أنفسنا، ويجب ألا يبقى فينا متشائم
لقد نهضنا، ولكن القافلة تجتاز اليوم أشدّ مرحلة من الطريق، وأخطر مغارة في هذه البادية. كانت القافلة تسير نائمة يقودها أدلاء جهلوا الطريق، وحادوا بها عن المحجة، وتنكبوا بها الصراط المستقيم، فلما سمعت صوت القدر على لسان أولئك الأعلام: الأفغاني، ومحمد عبده، والقاسمي، والشيخ طاهر، والألوسي، وسعد، ورشيد رضا، وشكيب أرسلان، والرافعي وأمثالهم - أفاق منها من أفاق، فنهض وفتح عينيه من لم ينهض، وقال كلٌّ كلمته، فوقعت المعركة بين الداعين المصلحين والأدلاء الجاهلين، وانقسم الناس بينهم انقساماً؛ فكانت بلبلة، وكانت جلبة، وكان اضطراب، ولكن القافلة تمشي. . . تمشي على الطريق لأنها أفاقت، ومن أفاق وانتبه لا يتبع دليلاً جاهلاً
إن هذه النَّبتة على قوتها مختفية بين مئات من الأعشاب الجافة التي بقيت من الموسم الماضي، إنها ستشق طريقها من بينها وتحيا من دونها، لأن النبتة الجديدة أمُّ المستقبل: نصيبها الغد، وتلك الأعشاب بنت الماضي فستذهب مع الأمس إلى غير ما رجعة. إن صوت النهضة الجديدة، صوت الحق، ضائع الآن في الصيحات التي تُدوّي اليوم في الأسماع صدى للأصوات الماضية لا يلبث أن يخفت، لأن الصدى ينتهي، أما الصوت فإنه يبدأ
هذه النهضة واضحة، فآمنوا بها يا شباب، وانظروا إلى الحياة من ناحية الأمل المشرق الواسع لا من جهة اليأس الضيق القاتم
إن شبابنا متشائمون: اقرؤوا قصائد الشعراء من الشباب، إنها مليئة بالآلام، مغمورة بالكآبة، غارقة في الدموع. اسمعوا موسيقى الشباب كلها بكاء، كلها نحيب: يا لوعتي يا شقايا، ضاع الأمل من هوايا. . . فما لشعرائنا وموسيقينا الشباب لا يرون في الدنيا لذة ولا سروراً؟ لم يبصرون ظلام الليل ولا يرون بهاء الشمس؟ لم يفكرون في وحشة الخريف ولا يفكرون في روعته؟ لم ينتبهون إلى عُري الشتاء ولا ينتبهون إلى خشوعه؟ إن كلّ ما في الدنيا جميلٌ بهيٌ ولكن في عين الشاب الصحيح القوي. أما المريض، أما المسلول المحطوم، فلا يرى إلا الظلام. فيا شبابنا داووا نفوسكم من سُلِّ اليأس
لقد استدار الزمان كيوم ظهر الإسلام، واحتضرت الحضارة وكادت تأتي عليها مادية الغرب، فتذهب بها كما كاد يذهب بالحضارة الأولى تَفَسخ الحكومتين الكبيرتين فارس والروم. إن العالم اليوم بين حجري الرحا التي تطحن المدنية، وتتركها هباء منثوراً كما تكهن ولِزْ. العالم بين مادية الغرب وحياته الحديد الآلية وروحية الشرق الأقصى وفناء الهنود في ما وراء المادة، ولا سبيل إلى النجاة إلا بالنهج السوي نهج الإسلام فيا شباب المسلمين تجردوا لأداء الواجب، وإسماع العالم صوت الإسلام
إن هذه الدور الذي تجتازه اليوم أمم الشرق الإسلامي، يشبه دور البعث (الرونِسانس) في أوروبا، وعلى الشباب أكبر الوجائب في هذا الدور
على الشباب واجب علمي هو أن يبعثوا المكتبة العربية القديمة بحلل جديدة، وأساليب مستحدثة. إن في هذه الكتب الصفراء علماً جماً ولكنه مطمورٌ تحت أنقاض الأسلوب الماضي. في كتب الفقه مثلاً ما يستنبط من القانون الأساسي، والقانون الجزائي، والقانون المدني، والقانون الإدراي، وقانون أصول المحاكمات، ولكن هذه الكتب موضوعة على طريقة لا نسيغها اليوم، ولا نألفها ولا تصلح لنا ولا نصلح لها، وإن كانت تصلح كل الصلاح في عهد من ألّفوها، فيجب على الشباب أن ينقطع منهم فئة إلى دراسة هذه الكتب وتفهمها، ومعرفة ما فيها، واستخلاص موادِّها العلمية، وعرضها بشكل جديد
إن الأساليب (يا سادتي) أزياء، وقد تبدل الزي اليوم، فليأخذ الخياط الماهر هذا الثوب القديم، وليصنع من قماشه ثوباً جديداً، على ألاَّ يضيع منه خيطاً واحداً. إن من العار أيها السادة أن تترقى أساليب التأليف في كل العلوم ونبقى نحن، في علومنا، على ما كنا عليه. إن الذين كتبوا هذه الشروح وهذه الحواشي وهذه التقارير عظماء أجلاء، لأنهم أنتجوا شيئاً، وعرضوه على أحسن شكل يألفه عصرهم، وليس عليهم من ذنب، ولكن الذنب علينا، نحن الذين لا يؤلفون، ولا يشتغلون، ولا ينتجون، وإنما يعيشون عالة على أجدادهم كهذا النبات الطفيلي الضعيف الذي يتمسك بأقدام النخلة الباسقة
وإن على الشباب واجباً اجتماعياً هو أن يدرسوا الإسلام، ويكشفوا عن رأيه في هذه المعضلة الاجتماعية: إن العالم سيضيع بين الاشتراكيين والماليين الفرديين، ولا طريق إلى النجاة إلا الطريق الأوسط الذي يهبط عن خيالات الشيوعيين وأحلامهم التي لا تتحقق أبداً، ويترفع عن أفق الماليين الذين يستعبدون الناس بأموالهم، ويسخرون المجموع لمصلحة الفرد
وإني على يقين أن للإسلام القول الفصل في هذا الباب، ولكن أحداً من العلماء لم يكلف نفسه عناء البحث عن رأي الإسلام الاجتماعي
وإن على الشباب المسلمين واجباً أخلاقياً، هو إنقاذ العالم المتردّي في مهاوي الرذيلة التائه في مهامه الظلام. ارفعوا منار الإسلام، وانشروا مكارم الأخلاق التي بعث نبيكم ﷺ لإتمامها
أليس من العجيب يا سادتي أن يُسأل النبي ﷺ عن المؤمن: هل يسرق؟ هل يزني؟ فيجيب باحتمال ذلك، وإن كان نادراً، فإذا سئل: هل يكذب المؤمن؟ قال: لا. أليس من العجيب أن يجعل النبي ﷺ الكذب ثلث النفاق، وإخلاف الوعد الثالث الثاني؛ ثم يكون في المسلمين اليوم أكذب الناس، وأخلفهم للمواعيد؟
أليس عجيباً أن يأخذ الإفرنج غير المسلمين أخلاقنا، فتكون لهم عادة وطبعاً، ويضيع المسلمون أخلاقهم؟
أليس عجيباً أن يقول الله في كتابه: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، ثم يكون المؤمن أذل الناس في نفسه وأضيع الناس لكرامته، ويكون المسلمون أمة ذليلة بين الأمم، لا عزة لها ولا كرامة؟
فيا شباب المسلمين تخلقوا بأخلاق الإسلام وانشروها بين الناس وأنقذوا بها العلم
أتحبون بعد هذا أن ألخص لكم المثل الأعلى للشاب المسلم؟
بسم الله الرحمن الرحيم:
والعصر، (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا) بالله وعلموا أنه الأول والآخر، وأنه المريد القادر، وأيقنوا أن كل شيء بإرادته، لا شريك له في ملكه، ولا شفيع عنده إلا بإذنه ولا يعلم الغيب إلا هو، فلم يغفلوا عنه، ولم يعبدوا غيره، ولم يقدسوا سواه، ولم ينتظروا النفع والضر إلا منه، وعلموا أن له جنداً لا نراهم وملائكة وجناً، وعوالم لا نبصرها، وآخرة وجنة وناراً، وسموات وعرشاً. . . وأنه بعث أنبياء وأنزل كتباً (وعملوا الصالحات) فأدوا حق الله عليهم من صلاة وزكاة وصيام وحج، وتقربوا إليه بالنوافل والأعمال الحسنة، وأدوا حق الناس فلم يتعدوا على أحد في ماله ولا عرضه ولا جسمه، وأدوا حق أهليهم ووالديهم ومن له فضل عليهم، وأدوا حق الأمة بالسعي في نجاحها وتقوية روابطها العامة، وضمان مصالحها المرسلة، والعمل على كل ما يرفع شأنها، ويعلي مقامها بين الأمم من علم أو فن أو صناعة أو زراعة، أو وعظ وإرشاد، أو تعليم وتهذيب، (وتواصوا بالحق)، أوصوا به نفوسهم، ووصوا به غيرهم، وتحروه في أمورهم، فكان الحق إمامهم ودليلهم ورفيقهم وقائدهم ولم يكونوا من أنصار الباطل أبداً، فلا يقبلون من المبادئ والعلوم والفنون إلا ما هو حق لا باطل فيه (وتواصوا بالصبر) على أداء الواجب وعلى التواصي بالحق، واجتناب الباطل والابتعاد عن الرذائل مع منازعة النفس إليها، وإقبالها عليها. هذا هو المثل الأعلى للشاب المسلم: إيمان كامل لا شرك فيه، وتصديق بكل ما جاء من عند الله على مقدار ما جاء عند الله، وعبادات منزهة عن البدعة، وعمل صالح ينفع الفرد والمجموع، ودعوة إلى الحق وتمسك به، وصبر على تحقيق هذا المنهج، وأداء هذه الواجبات
علي الطنطاوي
المدرس في كلية بيروت الشرعية