الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 242/مهداة إلى جماعة دار العلوم العليا بمصر

مجلة الرسالة/العدد 242/مهداة إلى جماعة دار العلوم العليا بمصر

مجلة الرسالة - العدد 242
مهداة إلى جماعة دار العلوم العليا بمصر
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 02 - 1938


حلم!

في ملتقى العواصم

للأستاذ عبد المنعم خلاف

من مبلغ عني تلاميذ علم الإسكندري ومحبي شعر الجارم بمصر أني ظفرت بما لم يظفروا به وشهدت ما لم يشهدوا. . .؟ شهدت شيخ الأدب العباسي أستاذنا الجليل ومؤدب الجيل الشيخ أحمد الإسكندري الممتلئ بدنيا بغداد - يدب على أديم بغداد (ملتقى العواصم) ويناقل الخطو على مواقع أقدام الجاحظ. . . وعلى فمه ابتسامة عريضة شفافة أعرف معناها معرفة التلميذ معاني أستاذه. هي ابتسامة للأرواح والأطياف التي تطفر من رأسه الكبير لتعيش في جوها وملاعب وجودها الأول. . . أو هي ابتسامة الحاج إلى كعبة فكره ومعالم أنسه الروحي

ويشهد الأدب أني حين أدرس (العصر العباسي) في كلية دار العلوم بالأعظمية أو المدرسة المتوسطة الغربية، أستحضر صورة مجلسه في دار العلوم بمصر وإيمانه بهذا العصر وامتلاءه من علومه وآدابه وأخباره؛ ويشاء الله أن أراه في بغداد لأحظى بالصورة الكاملة للعالم والمعلوم

ومن مبلغهم أخرى أني رأيت للمرة الثانية قلب شاعرنا الموسيقي الممثل علي بك الجارم يرقص على الأجواء التي رقص عليها قلب النواسي والبحتري وابن الرومي وأبي تمام. . . في الضوء الذي بنوا منه أبياتهم الخالدة. . . ويسكب في أسماع أحفاد بابل سحر بابل. . . من الخمر التي عتقت ألفاً في دنانٍ من الأذهان. حادرة من إبريق إلى إبريق حتى رأيناها شيقةً ريقةً مترقرقة في فيه. . . ويهمس في أذن دجلة الراقدة، بصدى الأصوات البعيدة التي رفت عليها أيام أن كانت حدائق وبلابل وظلال وبنود، ومعسكر جنود، وسوامر إنشاد، وملتقى كل واد. . . وفي عينيه بريق وتحديق إلى السماء التي أوحت بكواكب الأشعار إلى مفرغي قلوبهم في قلبه، وباسطي اجتحتهم على خياله. . .؟!

إني رأيت ذلك كله. . . وكان لابد لي منه. . . كان لابد من الإسكندري ف العليا بمصر حتى أعرف العراق في عالم الفكر ذي الوقود الأبيض. . .

وكان لابد من الجارم حتى أعرفها في عالم القالب ذي الوقود الأحمر. . . وكان لابد أن أراهما معاً في بغداد حتى تتم الصورة ويشبع الخيال الجائع فيمزج الثلج بالنار!

ولقد سمعت الجارم العام الماضي في رثاء الزهاوي ولكن جو الرثاء لم يكن طليقاً أمام هذا الطائر الصداح

ثم كان صباح المؤتمر الطبي العربي في (بهو أمانة العاصمة) ببغداد، وجلس شاعرنا قلقاً في مجلسه من فيض شعوره (بجو الساعة) الذي قذف في قلوب الجميع، حتى أبناء العلم والمخابير والمباضع، شعلة الشعر والإحساس بالتاريخ الذي يسير في الدم. . والحاضر الذي يخلق الثقة، والمستقبل الذي ينادي إلى العمل. وجلس الإسكندري يتفرس ويقلب الصور ويستحضر البعيد. . . من ابن سينا والرازي والزهاوي، وجلست أرقبهما وأرصد طرفي عليهما وأتسلل بقلبي إلى قلبيهما فيرجع بالذكرى بعيدة وقريبة.

ثم ابتدأ الجو الروحي بكلمة فخامة رئيس الوزراء جميل بك المدفعي التي يسجل بها ويقول - وهو رجل مسئول - (ولاشك أن وحدة النزعة العلمية والأدبية هي في الوقت ذاته تمثل وحدة الفكر والرأي بينكم وتؤلف منكم أخوة من أمة واحدة عبثا حاولت الحدود والحواجز أن تفرق بين قلوبكم وأهدافكم. . .)

ثم يقف بعد فخامته الدكتور شوكة الزهاوي رئيس الجمعية الطبية العراقية فيقول: (إن من جملة ما يقوم به هذا المؤتمر من الأعمال الصالحة هو توحيد صفوف أطباء العرب وجمع آرائهم حول مكافحة الأمراض ومعالجتها بالطرق الفنية فضلا عن أنه يقرب الأقطار العربية من بعضها ويبعث على تكاتفها وتعاضدها في مختلف النواحي الحيوية، وأعد هذا المؤتمر خطوة مباركة منبعثة من الشعور المتقابل ونتيجة من نتائج الثقافة العامة التي أخذت تتغلغل في بلادنا العزيزة وفاتحة عهد حافل بالأماني السامية. . .)

ثم يعقبه سعادة علي باشا إبراهيم بخطابه الجميل الذي يقول فيه: (ولعمري إنه لأسبوع مبارك ميمون الطلعة بوقوف الأطباء في بغداد إبان وقفة الحج في عرفات نضم إلى دعواتهم المتصاعدة إلى السماء في رحاب رسول الله (ﷺ) دعاءنا أن يبسط على بلاد الناطقين بالضاد ظل رضاه ونعمته وأن يوطد بالاتحاد سؤددها وبالعلم عروشها ويغمر بالسلام والصحة ربوعها)

ثم يقف الدكتور كمال رحيمة فيرفع صوت سورية العربية المجاهدة العاملة بقصيدة عصماء برهنت على أن حرفة الأدب تتسلل دائماً إلى كل مهنة في سورية

ثم وقف الجارم يرسل قلبه في صوته المعهود الذي يخيل إلي أنه كله هاء عميقة. . . من فرط الشجو وإثارة النفس واستحضار المعاني الكامنة التي لا تظهر وتستعلن إلا إذا تلا لها ساحر رقية. . . أو عزف لها عازف برَنَّة. . . أو شدا لها شاد بحنة. . . أو خيل لها مخيل بريشة. . .

وقف يقلب وجهه في السماء والأرض والجهات الأربع في قلق وغيبوبة شاعر. . . ويمسح على أبصار الجمع بحركاته ويرسل نشيده، فيخيل إلينا من سحره أن كلماته أجسام تسعى. . . أو أمواج تطغى على قلوبنا فتملؤها بالذكرى الحادة، ثم بالفخر النافخ، ثم بالضحك المرسل؛ ثم بالعزم الممرِّس الدافع، ثم بالأمل القريب، فيخرج الدكتور زكي مبارك - طبيب ليلى المريضة بالعراق - عن طوره وعن حدود وقار الحفل فيستعيد ويطلب المزيد وبخاصة إذا جاء بيت فيه ذكر (الحسان) ووعود الحسان

ثم ينتهي الحلم السعيد بجوه الروحي وقلوبنا راقصة وأكفنا دامية؛ ويقبل الأدباء والأطباء على الجارم يطلبون منه ثمن دواء للأكف المتسلخة والقلوب الجريحة. . . ويقبل (طبيب ليلى) فيطبع على خدي الجارم بك قبلتين ذواتي رنين أدار الأبصار إلى مصدر ضجتهما. . . ثم ينقلب يفخر عليّ بأنه نال بهما ما لم أنل. . . ثم يرتد إلى الجارم بك يبشره بأنه من أول الداخلين إلى الجنة جزاء خدماته بشعره للغة القرآن. . . ولله في الدكتور زكي شؤون!

وكنت أرقب خلسة وجهي طبيبين أوربيين أخذا مجلسهما بجانبي، يستمعان في غير فهم إلى ما يقال، ويريان صداه صفق كف بكف وتلاقي هتاف بهتاف فاعرف ما يقول قلباهما الفقيران جداً إلى الشعور بمثل هذه الأخوة الملموسة المعلنة بين أبناء الشرق الإسلامي. . .

هنا الأخوة من غير دم. . . والواشجة من غير نسب. . . والحب من غير غرض. . . والتفدية من غير ثمن. . . والتلاقي من غير رياء. . . والكلام من غير خبئ يا أوربا!

هنا التاريخ لا يزال واحداً في العقول والقلوب واللسنة والأهداف حتى في وحدة الأمراض! كما يقول الدكتور شوكة الزهاوي خذاها مني يا أستاذي تحية في نشوة الذكرى وسكرة الآمال أنا اليقظان أبداً. . . الساهد القلب أبداً. . . العائش في التاريخ أبداً. . . تاريخ المجد والحياة! ومعكما السلامة

(بغداد)

عبد المنعم خلاف