مجلة الرسالة/العدد 242/القصص
→ وحي الشاعرية | مجلة الرسالة - العدد 242 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 21 - 02 - 1938 |
من الأدب الإيطالي
حياة جديدة
من دومنيكو ماريا ماني
للأستاذ دريني خشبة
رآها أنطونيو فشغف بها حباً، وكانت نظرته الأولى إلى وجهها المشرق الجميل الرائع فاصلاً عظيما في حياته التي جد بها الظمأ، ففجأها وابل من كوثر الحب، فرويت، ولكنه وا أسفاه كان روى أحر من قاتل الظمأ، وآلم لنفسه من شديد الجواد
وأحبته جينفرا، وكانت تقضي لياليها مثله مؤرقة مسهدة، تفكر في روحه الشاعرة الحلوة التي تطل عليها من عينيه الحبيبتين وقلبه الذي يرسل إليها نبضاته الموسيقية على أجنحة الأثير. . .
ولبث أنطونيو يجد في ميادين الحياة ليبني دعامة مستقبله على لبنات من مادتها، حتى إذا تقدم إلى والد جينفرا تقدم وفي يديه حفنة من ذهب قارون لا تطمئن ألباب الآباء إلا إليه، ولا تطب إلا به، ولا تقيس العيش إلا بمعياره. . . وكان يعمل دائباً وفي عينيه صورة جينفرا ما تفارقهما، وفي قلبه المعمود تمثالها المعبود ما يبارحه، حتى إذا تصرمت سنون أربع طوال كالدهر وتقدم إلى والدها دلجي امييرا يخطب إليه ابنته، رده الأب الجبار رداً لا رحيماً ولا كريماً، لأن فتى من أسرة أجولانتي يقال له فرانسيسكو كان قد تقدم إلى الرجل يخطبها على نفسه، فقبل الرجل يده، من غير أن يستشير ابنته، ومن غير أن يقيم للحب الذي صهر فؤادها وزناً، مع علمه به، ورثائه لها من أجله. . .
وكانت المادة التي عمل أنطونيو على اكتسابها جهده سبب رد الوالد التاجر إياه، لأن أسرة الفتى فرانسيسكو كانت أسرة جاه ويسار ومجد، وإن يكن الفتى نفسه من هذا الشباب القُنَّع الذي لا خير فيه، وإن يكن قلب جينفرا لم يجزه إلا صدوداً، ولم يشعره إلا جفاء وسلواناً
ولكن ما قيمة أن تأبى الفتاة في هذا العصر العنيف الظالم ما لا يأباه أبواها من أمر لا يعنيهما بقدر ما يعنيها، لأنه أمر حياتها ولأنه أمر سعادتها أو شقوتها؟ لا! لا قيمة لاعتراض الفتاة. . . وهي مرغمة على أن تقر صاغرة ما اختار لها أبواها. . . وإن كرهت. . . فلابد إذن من أن ترضى جنيفرا بهذه الزيجة لأنها صفقة من صفقات قارون، وصفقات قارون رابحة مطلقاً، لأنها تمشي بالفتاة على أرض من ذهب، وإن تك في قلبها جحيما من لظى ولهب، وهكذا زفت جينفرا المسكينة إلى زوجها المفروض عليها. . . وهكذا انتصر العالم الفاني على العالم الباقي، وصرع شيطان الأرض ملاك السماء، وتسلط التراب على الروح فعفر وجهها الحر الكريم
وذهبت الفتاة إلى زوجها جسما بلا روح، ودمية من اللحم والدم والعظم ليس لها قلب، لأن روحها وقلبها مع رجل آخر غير هذا الرجل. . . مع أنطونيو لا مع فرنسيسكو. . . مع الحبيب الذي منحها وجوده، وجعلها علة بقائه، مع الشاب الذي ثوى ملء جوانحها يضرمها بإخلاصه، ويؤججها بآماله التي انهارت في الأرض، وثبتت في السماء. . .
وذهب أنطونيو يبكي من أعماقه، وينشد النظرة الخاطفة من حبيبته في الكنائس والمسارح والمجتمعات، ويقسم جهد أيمانه أن يعيش على ذكراها، وألا يتصل بأنثى من بنات حواء مادامت جنيفرا قد أفلتت من يديه. ولم لا؟ أليس بحسبه أن يعرف أن قلبها له، وأن جسمها لزوجها الذي لم يكن لها يد في اختياره، ولابد من الرضاء به؟ ثم أليس بحسبه أن يكون وفياً لها مادامت قد أرغمت على شيء لا يستطيع أحد أن يرغمه هو على مثله؟!، وما الفرق بين أن ترغم جينفرا فتتزوج، ولا يرغمه أحد فيتزوج؟ إنه إن فعل فإنها تفضله؛ وإن لم يفعل عاش كما عاش المحبون المخلصون من قبل، وعاش خالداً في القديسين الخالدين
في سنة 1400 نكبت أكثر المن الإيطالية بطاعون عظيم ذهب ضحيته أكثر سكانها، وكانت قرى بأكملها تصبح خلاء من أناسيها وحيوانها، وكانت فلورنسا الجميلة، عروس المدائن الإيطالية في ذلك العصر من أكثر البلدان ضحايا وشهداء
ولم تسلم جينفرا من هذا الوباء، بل تعذبت به طويلا، وكلت حيل الأطباء في سبيل إنقاذها، فأسلموها للمقادير، وانصرفوا عنها يائسين. . ولم تمض أيام حتى وقعت فريسة لنوبات جنونية كانت تعصف بها عصفاً شديداً، وتعذبها عذاباً مبرحاً، وتذيب من حولها قلوب ذويها أسفاً عليها. . . وأغمي عليها مرة إغماءة قاسية فحسب أهلها أنها أسلمت الروح. . .
وسواء أحسبوا ذاك أم لم يحسبوه فإنهم كانوا قد ضاقوا بمريضتهم ذرعا، وملئت قلوبهم منها ذعرا، لأن أنفاسها وباء، وبزاقها داء، وأنينها لهم أنين، وحملها عبء إن كانوا قد استطاعوا حمله أياماً فأنهم عليه مع هذا الجنون غير صبُر
وكان الناس لا يتورعون أن يدفنوا مرضاهم أنصاف أحياء خشية استفحال الوباء، فلما أغمي على جينفرا، وطال عليهم إغماؤها، وقر في قلوبهم أنه الموت، فجهزوها مسرعين، وحمل تابوتها طائفة من القسيسين فهرولوا به إلى مدفن العائلة، وكان قبواً عظيما تحت الأرض بعيداً من المدينة، فدفنوها فيه في احتفال بسيط؛ ووقف زوجها وأهلها وعارفو فضلها يذرفون عبراتهم على ثراها. . . ثم انصرفوا. . . وأقبل أنطونيو المحزون يبكيها بدوره، ويسكب عليها شئونه لا كما يسكبها غيره من الناس، بل كما ينبغي أن يفعل العاشق الصب وسد الناس قلبه تحت الثرى والصفاح
كذا فليجل الخطب، وليفدح الأمر، وليبك أنطونيو روندينللي!
لقد وقف المسكين على ثرى معبودته، وعند قبوها الهائل، وراح ينثر بقايا روحه على جدثها الطاهر العزيز. . . ثم جلس في ذهول وفي شبه إغماء، وانطلق يحلم بماضيه الجميل، ويرسل عينيه وراء سجفه الشفشافة ليراه جالساً إلى جينفرا يناجيها، ويتحدث إليها حديثاً كقطع الروض، ومنضور الورد، ويقبلها تلك القبل الحالمة الناعمة فوق ثغرها وفوق نحرها وفوق ذراعيها. . ثم يفيق المسكين. . . فيراه جالساً يبكي. . . فوق قبرها. . . وهي تحت هذا الجندل المركوم والتراب المهيل جثة هامدة ساكتة صامتة، لا يتحرك لسانها، ولا تنفرج شفتاها، ولا يتفتح الورد في خديها، ولا ينبعث النور واللألاء من جبينها ووجنتيها فيحس كأنما روحه تساقط مع أنفاسه الباردة لتثوي مع جينفرا تحت التراب.
ويقف أنطونيو فجأة ويحدج القبر بعينيه الباكيتين، ويقسم أنها ليست فيه!. . . ليكن! قد يكون ما يعني روحها. . أو. . ذكرياتها.
ثم يمضي إلى المدينة، ويذهب إلى منزله مصدوع القلب، ذائب النفس، خفق الأحشاء، ليس أسمج في عينيه من هذه الدنيا الكريهة الغادرة!
لم تكن جينفرا قد ماتت كما وهم القوم، بل كانت مغمى عليها إغماء شديداً. . . وليت أنطونيو ما فارق ثراها، حتى يسمع صوتها الضعيف داخل القبو بعد إذ انصرف بلحظات.
لقد هبت المسكينة من غفوتها في العالم الآخر، فجاهدت كثيراً حتى نهضت من تابوتها، وسرعان ما عرفت مصيرها فلم تذعر ولم تنزعج مع ما كانت تضيق به من برد المقبرة وهوائها المرطوب، وريح أكتوبر القارسة
ثم أنشأت تعالج التخلص من تلك الأكفان التي لم تخلق للبوس هذه الحياة الدنيا، وكانت تسبح بأسماء الآلهة والقديسين وتتوكل عليهم فيما هي فيه من الضيق، وكانت شعاعة ضئيلة من أشعة القمر تنسرق إلى القبو من شق صغير فيه، فكانت لها في شدتها وحرجها كبسمة الأمل الحلو الذي ضاعف جهادها في سبيل الحياة. . . واستطاعت بعد لأي أن تخلص من بعض أكفانها، وأن تخطو في ضعف وإعياء نحو باب القبو. . . وتهالكت على نفسها حتى صعدت فوق الدرج. . وهناك جلست لتستريح لحظة، وتستجم لما أمامها من العمل. . . حتى إذا أحست في ذراعيها قوة أعملتها في الحجارة التي كانت تسد باب القبو، والتي كانت تتماسك بطبقة رقيقة من الملاط، كانت ما تزال لينة رطبة، فسهل على جينفرا إزالة بضعة منها، بحيث أحدثت ثغرة تكفي لخروجها في شيء من الصعوبة، وقليل من العناء
وشجعها ما كانت فيه من هلع على نفسها داخل القبو، وما نالته من الظفر فاحتملت قر الليل وصرير الريح ووحشة الوادي، وجعلت تخطو بقدمين متخاذلتين في الطريق المقفر إلا من أشعة القمر، المنجرد إلا من عشب هنا وعشب هناك، حتى وصلت إلى المدينة. . .
لله ما أروع هذا الشبح الساري في ضوء القمر يدب على التراب المندى بقدمين عاريتين، وفي أكفان حريرية كأنفاس البخار تصاعد من النبع!
ولله هذا الوجه الشاحب الذي برز الساعة من ظلال الموت وحدود الفناء، وجعل يتدَهْدَى في طرقات المدينة حتى بلغ دَايْ كالْزَاجُولي!
لقد كان فرنسيسكو جالساً يستدفئ بالقرب من النار المتأججة في المدفأ، ووجه عابس وجبينه مقطب، وعليه من بداوات الأسى وعلائم الحزن ما كان ينبئ عما في قلبه من ثورة الوجد على عروسه التي لم يعش في كنفها الوارف أكثر من أشهر ثلاثة ثم قضت. . . وفاز بها الطاعون دونه! وكان يهم أن يخلع ثيابه، ثم يمضي لينام، لولا أن سمع صوتاً خافتاً وراء الباب، ونقراً خفيفاً ضعيفاً على الباب، فذهب ليرى من الطارق بليل؟
لله ما كان أروع القمر الساري في ملكوت الله وهو يلقي أشعته على الشبح الواقف لدى الباب!
لشد ما ذعر فرنسيسكو. . .
لكنه ركع أمام الشبح، وأخذ يرسم علامة الصليب بسبابة مرتعشة، ونظرات مغضية، ثم نهض فتوسل إلى الروح الكريم أن يذهب. . . فلما لم تتحرك جينفرا مما دهاها من الدهش. . . أغلق فرنسيسكو الباب، وأحكم رتاجه. . . ومضى إلى فراشه وبه رجفة تزلزله زلزالاً عظيماً. . . ثم نذر أن يتصدق على روح زوجته ما وسعه ذلك، وأن يقيم على جدثها الطاهر ما لم يؤد لها من قُدَّاسات
وبكت جينفرا ما شاء لها أن تبكي، ثم جعلت تجَمْجم وتقول: (وَيْ! أذاك هو مدى ما أحببتني يا فرنسيسكو؟! وي! لابد أنني كنت عبئاً عليك، ووزراً تنوء به، وتود لو تخلصت منه! وا أسفاه! أين أذهب يا ربي؟ أأفلت من ظلام القبر لأموت من البرد والضنى والجوع في أشعة القمر؟). وذكرت أن بيت أبيها قريب فانقلبت. . . وشرعت تخطو. . .
ولم يكن أبوها هناك. . .
وكانت أمها في الطابق العلوي، توشك أن تمضي إلى سريرها فتنام. . . فلما سمعت همس جينفرا وصوتها الخافت المستنجد أطلت من النافذة لترى من الطارق. . .
وكان الشبح المريض المهزول يتكئ على مصراع الباب مما به من ونى وإعياء؛ ولم تَسْتَرب به الأم المحزونة، فقالت له وهي تتوسل إليه: (انصرفي في سلام أيتها الروح. . .!) ثم أغلقت النافذة، وانكفأت إلى فراشها لتصل أحزانها على جينفرا. . .!
وعرت الفتاة رعشة من الحسرة لا من البرد، فشدت ذراعيها، وذهبت على وجهها لا تعرف أيان تمضي. . . ثم خطر لها أن تلجأ إلى بيت من بيوت أعمامها، فلم تصل إليه إلا بعد أن جلست مرات ومرات تستريح وتستجم، وتمزج دموعها وأحزانها بضياء القمر الذي كان يبدو كأنه يبكي لها ويرثى لحالها، ويحوطها بغلالة دافئة من قمرائه
وا أسفاه عليك يا جينفرا! لقد وقفت بباب عمها فلم تلق أطيب مما لقيت في المرات السابقة، ثم وقفت بباب عمها الثاني، فعمها الثالث، ثم بباب خالها، فخالها الآخر، فأبواب جميع أقاربها، فكانوا يردونها على أنها روح سارية، ويغلقون أبوابهم جميعاً دونها
واعتزمت آخر الأمر أن تلجأ إلى مستراح سان بَرْتولوميو لتنام فيه أو لتموت فيه، ولتستريح من هذه الدنيا التي تجهمت لها، وعبست بألف وجه من وجوه أقربائها. . . وما كادت عيناها الحزينتان تغمضان كما تغمض النرجسة الذابلة، حتى خطر لها أن تنهض من فورها، وتمضي إلى بيت حبيبها الوفي، أنطونيو روندينللي، وإن تكن بينها وبينه مسافة طويلة، ضاعفها ضربها في المدينة أضعافاً مضاعفة. . .
ثم هجست في ضميرها بكليمات باكيات فكأنما كانت تقول: (ولكن!. . . ماذا انتظر من رجل لقي الويلات مني ومن ذوي؟ وماذا عساه يصنع لي وقد ذادني كل أهلي عن منازلهم؟ يا رب! وحق أسمائك ما خنته! وحق ربوبيتك ما ضيعت موثقه!)
وذهبت تدلف إلى بيت أنطونيو وتهدج، حتى كانت لدى الباب، فوقفت تسمع إلى دقات قلبها، قبل أن تصغي إلى نقرها فوقه
وفتح أنطونيو الباب. . . ولم يكد يقع بصره عليها حتى تقدم نحوها بدافع غريب قوي من الحب، أو من الشجاعة، ولم يتقاعس كما تقاعس ذووها، ثم طفق يحملق فيها ويقلب فيها عينيه من إخمصيها إلى زؤابة رأسها، فلما أيقن أنها هي، تنفس صعداءه، وقال: (أأنت حقاً جينفرا؟ أم أنت روحها القديسة المطهرة؟) ولم ترد عليه، بل أرسل الحب ذراعيه القويتين إليها، فاحتملها كالطفلة، ثم أخذ يصيح من الجذل، داعياً أمه وخدمه ليزف إليهم البشرى، ولكن سرعان ما ارتد هؤلاء من الفزع حين أقبلوا ليروا فيما دعاء أنطونيو لهم، لما رأوه يحمل فتاة كالشبح في أكفان!!
وهرول به أنطونيو إلى مخدعه فسجاها في سريره، وهتف بخادم فأحضرت الموقد ليدفئها بما بقي فيه من قبس، ثم دعا أمه فطمأنها، وجلست مع الفتاة في السرير تضمها وتجعلها في حضنها لتدفئها كذلك
وكان الهلع يغشى أنطونيو خشية ألا يشيع الدفء في كيان حبيبته البارد المرتجف، فتذهب ضحية القر؛ بيد أنه اطمأن حينما رآها تثوب، وكان فرحه بها أشد من حزنه عليها، عندما فوجئ بنبأ وفاتها، وجلس عند قدميها فوق أرض الغرفة يرعاها ويتولاها بعنايته، غير مطمئن إلى ما كانت تبذل أمه من التلطف بها، والحدب عليها
وانتعشت جينفرا، فهبت من السرير فجأة، ونزلت إلى الأرض، ثم أهوت على قدمي أنطونيو تقبلهما، وتريق عليهما دموع محبتها وشكرانها، وترجوه أن ينشر عليها جناح الطهر من وده وصداقته، وأن ينسى إلى حين ما أنها حبيبته، وإن تكن تعد نفسها خادمة له، وترتضي العبودية في كنفه. . . ثم ذكرت والدموع تحجب عينيها، ما كان من شجاعته عندما رآها أمام بابه، فلم يفر ولم ينزعج كما فر أهلوها وانزعجوا. . . وارتبك أنطونيو، وهم من مجلسه فركع أمامها، وراح يطلب صفحها عما عسى أن يكون قد بدر منه، مما أثر ظنونها. . .
ولم تستطع جينفرا أن ترد عليه بلسانها، فأخذت كفيه، وضغطت عليهما بكفيها الواهيتين، ثم انطلقت تغمرهما بالقبل، وتنضحها بالدموع. . . وكان التأثر قد بلغ من أنطونيو مبلغاً عظيماً، فراح يبادلها دموعاً بدموع، وينكر على نفسه أنه أدى لها يداً غير ما يقتضيه الواجب والمروءة والإنسانية، وأنه لم يكن ينتظر جزاءً على ما صنع إلا أن تتدفق الحياة في جينفرا العزيزة. . . المعبودة!
ثم سألها إن كانت تحب أن ينهض معها من فوره فيردها إلى ذراعي زوجها. قال:
(لا ترتبكي يا جينفرا. . . إن هذا واجب. . . إني أحضك عليه وإن يكن في قضائه قضاء علي. . .)
وامتزج بكاء جينفرا بجوابها فقالت: (كلا. . . كلا. . . كلا. . . لن أعود إليه. . . لا أود أن أراه. . . إني أوثر أن ألقى في دير فأعيش فيه ميتة، على أن أعود إلى فرنسيسكو. . . وفضلاً عن هذا. . فلقد فرق بيني وبينه الموت. . لقد مت في اعتباره. . ومشى في جنازتي. . . ووسدني التراب بيديه. . . وقبل ساعة كنت أطرق بابه، فلما رآني فزع وطردني. . . وأغلق الباب دوني. . . أرجوك يا أنطونيو. . . أرجوك ألا تردد اسمه أمامي. . . وإن أرغمني أحد على العودة إليه فسأشكو أمري إلى القضاء العادل ليفصل بيننا من جديد. . . سأقصد إلى كل محكمة. . . إلى كل سلطة دينية. . . لقد شهدوا جميعاً أنني مت، وصرحوا بدفني فدفنت حية، ولمه؟ لا لشيء إلا ليستريحوا مني؛ أفإن شاء القضاء السماوي أن أنهض في رمسي بمعجزة، وعدت إلى الدنيا ولم أمت في القبر أشنع موتة، جاءوا من كل فج ليناوئوني، ويحجروا علي من جديد؟!)
وصمتت جينفرا، وأكب أنطونيو يسكب عبراته تحت قدميها الجميلتين المرتعدتين، وما كانت دموعه تلك إلا دموع الفرح بما سمع من حسن توكيداتها
ولبثت جينفرا لدى حبيبها الأول الوفي
ثم حدث أن رأى فرنسيسكو أجولانتي غادةً هيفاء من ذوات اليسار فغزل بها وغزلت به، وأغرم كل بصاحبه، فعقدا النية على الزواج. . . وما أن علم أنطونيو بذاك حتى انتهز هو أيضاً فرصته، وجعل يسعى لدى فرنسيسكو حتى اشترى منه كل جواهر جينفرا، وهو لا يدري أنها حية ترزق، وأنها قد نجت من براثن الطاعون والفناء بإرادة السماء. . . وعادت من عالم القبور لتخلق خلقاً آخر
في صبيحة يوم من أيام الآحاد ذهب أنطونيو روندينللي من أعيان فلورنسة، ومعه السيدة جينفراد دِجلي أمييرا، وأمه العجوز الوقور المتضعضعة، وخادم من خدم قصره، إلى كنيسة المدينة الخالدة ليعقد على حبيبته جينفرا
وهناك في بهو الكنيسة الكبير، التقى هذا الجمع اليسير بجمع آخر حاشد غاية الحشد، فيه الفتى فرنسيسكو أجولانتي وأمه وملأ عظيم من ذويه وأصدقائه. . . ذاهبين للعقد على غادة فرنسيسكو الهيفاء الغنية المثرية، ولما يمض على دفن جينفرا ثلاثة أشهر أو نحوها. . . والمؤلم المبكي أن أمها الساذجة كانت من ضمن المحتفلات بزوج ابنتها السابق. . . فما كادت العيون والأرواح تتعارف حتى ساد بهو الكنيسة صمت كصمت القبور، ووقف الجمعان خاشعين خابتين، ينظر بعضهم إلى بعض ولا يصدقون ما يرون!
ترى! من يتقدم ومن يتأخر؟
ولم تنتظر جينفرا طويلا. . . بل تقدمت مسرعة نحو أمها التي أخذت تحدق فيها بصرها، وترنو إليها مسبوهة مشدوهة
(أحقاً هذه جينفرا ابنتي؟ لم يكن شبحاً ما رأيت إذن. . . ويلاه!. . . ولكن. . . كيف عادت إلى هذه الدنيا ياترى؟ وأنى لها هذا الشباب وتلك النضارة؟ إنها تميس في شفوف وأفواف) ولم تتركها جينفرا لتصل هذه السلسلة من أحلام اليقضة، بل قطعتها عليها قائلة:
(أما وقد ذهبتم بي إلى القبر فوسدتموني التراب بعد إذ شهد أطباؤكم بموتي، وبعد أن نثر القس زيته المقدس على جثماني معلنا بذلك أنني انتهيت من هذه الدنيا، فإني أعلن بدوري أنني لم أعد أمت إليكم بوشيجة، لاسيما بعد أن رفضتم جميعاً إيوائي حين عدت إلى دنياكم بمعجزة من معجزات القدر في حين قد آواني ملاكي أنطونيو روندينللي فأعادني إلى الحياة والحب، ولولا ذلك لقتلني البرد والمرض أمام باب من أبوابكم، ولعدت إلى القبر عودة لا رجعة لي بعدها إلى دنياكم. . . من أجل هذا كله أقرر أمامكم وأمام الحبر الجليل سيد هذه الكنيسة، وفي هذا المكان المقدس أنني أصبحت ملكا لحبيبي. . . وأنني إنما جئت اليوم ليشهد الله لنا. . .)
ثم ودعت أمها، وبعض الأعزاء من ذويها، وانفلتت إلى أنطونيو فضمته على مشهد من الجميع. . . وهنا. . . تأخرت جماعة فرنسيسكو حتى يروا بماذا يحكم الحبر الجليل. . . فوقف هذا. . . وهتف بأنطونيو ثم بجينفرا فباركهما، وكتب لهما، ودفع الصحيفة إلى أحد الرهبان فتلا ما فيها بما لا يزيد عما ذكرت جينفرا من الحجج. . . ثم دعا للكنيسة. . . وتم القداس البسيط فكان أروع قداس أبرم في كنيسة فلورنسا منذ أنشئت. . .
دريني خشبة