مجلة الرسالة/العدد 237/القصص
→ رسالة العلم | مجلة الرسالة - العدد 237 القصص [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 17 - 01 - 1938 |
أقصوصة من هـ. ستاكبول
أحلام فضية
للأستاذ دريني خشبة
من نجوة (بون بك) يشرف الناظر على مرأى عجيب من رؤوس الأيك النائم في الغابة، والحياة الدائبة الصاخبة في الوادي، وأبراج (تور) المنطبعة في أديم الأفق، والشعاب الملتوية بين الدوح الجبار. . . ثم. . . هذه الرقائق من الفضة تنساح في مجرى اللوار، راقصة على رنين النواقيس من فيروفلاي، مضطربة تحت أقدام أرليان، متلاشية في لا نهائية البعد مما يلي المنبع. . . في شعاف السِّفِنْ.
ومع ذاك، فلم يكن فوق بون بك غير سنديانات أربع، منهن دوحة جدة، عظيمة الجذع ذاهبة الأفنان، وإن يكن قد نخزها الزمان، ونامت قرونه في الكهف الكبير الذي احتقرته في أصلها. . . ثم شجيرات حفيدات تينع في الربيع، وتنضر في الصيف، وتتجرد فيما سوى ذلك من فصول السنة. ولم تغير الثورة شيئاً من معالم هذا الغاب، على كثرة ما غيرت من معالم فرنسا، فهذا هو العم العجوز المتداعي (جين كابوش) ما يزال يقطع الخشب من الغابة ويُحمّله إلى شاتود نيفر، وما يزال يعالج الشجر ويصيد الأرانب، ويؤدي الأعمال التي كان يؤديها أبوه وجده من قبل، والتي كان يؤديها آباؤه الأولون. . . وإن له لآباء أولين يتلاشون في لا نهائية الأزل، كما يتلاشى اللوار في ظلام السِّفِن. . . فإذا قدر لك مرة أن تلقاه في أحد شعاب الغابة، لقيت رجلاً من القرون الغابرة لا يعرف عن زماننا شيئاً، ولا تربطه بالعصر الحديث رابطة؛ وكذلك تلقى بنته الجميلة الساذجة العذراء ماري، التي إن حدثتها حدثت قطعة من الغابة لا تدري ما وراءها. . . على أنها مع ذاك تصبيك وتفتنك، وتسحرك بجمالها العميق الملغوز، وتتأرج في نفسك وقلبك كما تتأرج البنفسجة الفيحاء، لا تدري من أين يسبيك جمالها.
أما أبوها - العم جان - فقروي - لا، بل ريفي قح، يحسبه من يلقاه نابي الذوق، جافي الطبع، لأنه لا يعرف قوانين التقاليد التي تفرضها حياة المدن على سكانها، ومن هنا عدم تمييزه بين طبقات الناس، فهم جميعاً سواء عنده، حتى رئيس الجمهورية الذي كان يجوب غاب فيروفلاي مرة، فلقيه فحياه؛ وكان جان يحتسي كأساً من الخمر، فلم يلتفت للحاكم الأعلى حتى أتى على النُّطف الأخر في الكأس، وبعد أن مسح فمه بكمه، وتجشأ وتمتّق، قال للرئيس: (أجل، أعرف أنك الرجل الذي يختاره الفرنسيون ليمثل دور الملك في باريس!). وماذا تنتظر من جَمّاع أحطاب وإنسان غاب أن يقول غير هذا؟
وربما كان للأسطورة التي تناقلها آل كابوش أباً عن أب، وجداً عن جد، في طويل الأزمان والآباد، أثر في هذه العنجهية التي تبدو أحياناً في أخلاقهم. ذلك أنهم كانوا دائماً يفخرون أن ملك الغابات في الزمن القديم كان رئيس قبيلتهم. . . فإذا كلم جان رئيس الجمهورية بهذه اللهجة، فأحجى بالرئيس أن يشكر الله، لأنه فرد عادي جداً إذا قيس بجان سليل ملوك الغاب!!
ما كان أجمل الأصيل فوق البون بك وقد جلست ماري الساذجة فوق العشب الحلو، تحت السنديانة الكبيرة، تعمل بإبرتيها في جورب الصوف الخشن الذي كانت تبيع ما تصنع منه في نهاية كل شهر لبازين العجوز تاجر الملابس في بورجه! لقد كانت تتحدث إلى عنْزِها المربوطة في جذع السنديانة كلما ضجرت من العمل، كما كانت تغنى بصوتها الرنان الجميل فتغمر الغابة المنتشية بألحانها، وتمتلئ أجواء الوادي الساكن بأغنياتها الطورينية الحبيبة، التي لم تعرف النوتة، ولم تأخذ طريقها إلى البيان، بل احتفظت بريفيتها المقدسة لتخرج من فم ماري، كما تخرج موسيقى الملائكة من قدس السماء!
ما كان أجمل الأصيل فوق البون بك حين جلست ماري فوق عشبه، وقد أخذ الخريف يواسي الناس بأنفاسه الربيعية، وقد راحت مارجوت - العنز السعيدة - تقضم الحشيش الحلو مرة، وتصغي إلى غناء ماري أخرى. . . وماري، فيما بين هذا وذاك تعمل أناملها في الجورب الذي أوشك أن يتم، لتتم به الاثنا عشر جورباً، ولتنطلق بها فتاة البون بك إلى التاجر بازين فتتسلم منه ثمنها، وتعود بالحلوى والفطيرة فتملأ فم مارجوت!
لقد جلست ماري تعمل وتغني، بينما كان السادة الباريسيون أصحاب الفيروفلاي، وأصحاب قصرها المنيف المنيع الذي تأخذه العين في أفق الغابة فترى منه أبراجه الشواهق، يصيدون الأرانب في المتائه والمسارب، ويطلقون بنادقهم على القنافذ والثعالب، فتتردد طلقاتها في أذن ماري، وتثير في قلبها الصغير شتى الهواجس والأفكار. . .
(الإبرتان الشقيتان!!) هكذا كانت الفتاة تفكر. . . (لا بأس، صبراً يا بازين صبراً، هاقد أوشكت أفرغ من هذا العناء الذي تشتريه مني بفرنكات معدودة لا تكاد تكفي ثمناً لمسح حذاء واحد من سادتنا. . . أوه! يالك من عقدة خبيثة! اذهبي إلى الشيطان! ألا ما أصعب إصلاح العقدة المختلطة! إنها كاللغز الذي لا يمكن حله! ما هذه الطلقات النارية يا سادة!! ارحموا الثعالب والأرانب، وارحموا أبي جان المسكين! ماذا يصيد هو إن لم تبقوا على أرنب واحد! هذا بلاء والله! أوه! وا رحمتاه لك يا أبي! إن صيد أرنب أو أرنبين أيسر عليك من قطع عسلوج واحد مع فرق ما بين الأجرين! الأغنياء! الثروة التي لا يحصيها عد!. . . . . . الخ. . .).
وسمعت الفتاة صوت بوق يُدَوّي في آفاق الغابة شغلها عن إبرتيها، وعن غنائها، وعن مارجوت. . . وعن كل شيء. . . حتى عن هذه السلسلة غير المنتظمة من الأفكار الفضولية التي كثيراً ما تزدحم بها رؤوس الناس، لأتفه ما يثيرها من الأسباب.
وأرسلت عينيها في شعاب الغابة مرة، وفي مسايل اللوار أخرى، فرأت السادة الأغنياء قد فرغوا من صيدهم، وقد حمل خدمهم أحمال القنص على خيول ضخمة، وانطلق الجميع يعدون نحو القصر المنيف، كما تعدو السمادير أمام العين العشواء، وكما تنطلق أحلام النائم في كل صوب. . . حتى غابوا عن بصرها.
وعادت ماري إلى إبرتيها بعد إذ ثابت إلى نفسها. . . وبدأت تعمل وتغني من جديد! ولم تكد تفعل حتى سمعت صوتاً حنوناً يهتف بها، فأرسلت عينيها في كل حدب، ولكنها لم تر أحداً. . . وارتبكت هذه المرة، وحاولت أن تعمل، ولكن العقد اختلطت أكثر من ذي قبل، وعاد الصوت الحنون يهتف وينادي. . . ونظرت ماري، وبحثت بعينها في كل مكان، فإذا بنبيل من السادة الصيادين يناديها في السفح البعيد، ويشير إليها بيده الآمرة أن تذهب غليه.
لم تتحرك ماري، بل ظلت ساكنة صامتة. . . وكأنما غيظ النبيل من سكونها، فغمز حصانه الكبيرة غمزة فأنطلق يطوي النجوة صعداً في غير مبالاة، كأن الدنيا بأسرها ملك له ولأجداده الخيول من عهد عاد! حتى الخيل تعرف الصفاقة أضعاف ما يعرف النبلاء!
لقد كان رجلاً عملاقاً له مهابة وفي عينيه نُبْل، وله لحية خفيفة فوق صدغيه قد وخطها الشيب فجعلها سنجابية حائلة كلون السحب في أوائل الخريف. . . وكان عريض المنكبين بارز الصدر واسعه، عظيم القامة، يشغل الناظر إليه عما يلبس من غريب الثياب التي تتخذ للصيد في غاب فرنسا. . . فلا خافية النسر التي راح النسيم يداعبها فوق مفرقه، ولا الجوارب الجلدية وما فوقها من أخفاف، ولا هذه السراويل الفضفاضة التي تغطي ظهر الجواد، ولا تلك القفازات اللامعة التي تحجب يديه، ولا هذه النياشين التي تتوهج فوق صدره، والقلائد الذهبية التي تتحوى حول عنقه. . . لا شيء من هذا أو ذاك قد بهر عيني ماري كما بهرها هذا الجسد الهرقلي، وذاك الوجه الصارم، والرجل العملاق!
واقترب الجواد بمن عليه. . .
وتبسم النبيل وكأنما كانت الدنيا كلها تبتسم معه، وحيَّا ماري، ثم قال:
- (قصر فيروفلاي يا جميلتي! قصر فيروفلاي! أتستطعين أن تدليني عليه، أو تعلميني الطريق التي أسلكها لأبلغه؟ لقد ضاعت سبيلي في شعاب غابتكم المضلة، فهل لك في أن تصحبيني، يا غادة؟).
لقد نظر النبيل إلى ماري فحمد الله والصدف أن ضلت سبيله، ليلقى هذه الجنّية الريفية الحسناء في هذا الأصيل الجميل من أصائل الخريف، وفوق هذه النجوة الناضرة المطلة على الغابة الشاسعة جميعاً. . . ولقد كان يبلع ريقه مرة بعد أخرى وهو يكلمها، وكان يكلمها بعينيه الجائعتين، أكثر مما كان يكلمها بلسانه اللاهث الظامئ، وكان يحس قلبه وهو يخفق ويخفق، كأنما يبتغي أن يثب إلى عينيه ليشبع من مرأى ماري هو الآخر!! يا لسحر الجمال! لقد عجب النبيل كيف عاش عمره الطويل المفعم بلا حب، وفي الدنيا العريضة مثل هذه الفتاة التي تسجد تحت قدميها القلوب!! لقد جعل جسمه يرتجف فوق الجواد، وجعل يقلب عينيه في الفتاة التي انعكست على وجهها آراد الشمس الغاربة فصبغته بالذهب، وتركت في جبينها وخديها سَفْعاً من اللهب يشبه الشفق، يزيده فمها الصغير الخبيث اشتعالاً!
- (أوه يا سيدي! إنه هناك وراء هذا الدوح، وهو قريب جداً من هنا. . . أنظر. . . هاهي ذي أبراجه تلوح وراء الغصون العارية. . . ثم هاهي ذي الطريق واضحة بينة!).
وكانت ماري قد نهضت من مكانها وهي تقول ما تقول. وتشير بيديها، فينحسر الكُمَّان عن مرمر الذراعين اللدنتين، وطرف الثوب عن جزء من الساقين الجميلتين، فيجن جنون النبيل الجليل!
وفي الحق. . . لقد خفق قلب ماري هو الآخر، لأنه أحس بما ينبعث من عيني الرجل من الصبوة والشغف. . . وما كان يسيل في ألفاظه من الرقة والضراعة، وإن لم يعبر عنهما إلا بهذا الروح الذي يفهم من غير أن يرسم!!
ووثب الرجل من فوق جواده، ووقف قريباً من ماري، ثم راح ينظر في الأفق ويتعاشى ويقول:
- (أجل. . . هاهي ذي أبراجه! ولكن أنى لي أن أهتدي إليه في غابتكم المضلة. . . تعالي يا صغيرتي فدليني عليه. . . إني أخشى أن أبيت ليلي في الغابة مع أرانبكم وثعالبكم!
- (بكل سرور يا سيدي. . . لا أحب إلى من أن أفعل. . . هلم!
- وهذه العنزة؟ أتتركينها هنا؟
- (أوه! إن مارجوت ستنتظرني هنا يا سيدي! وأين تذهب ما لم أعد إليها. . . ثم هي مربوطة مع ذاك!
- (إذن هلمي!
وانطلقا نحو السفح، ثم مضيا في طريقهما. . . هي إلى جانبه، أو في ظله! وهو، وحصانه من ورائه، ينظر صامتاً. . . ساكناً.
وفكرت ماري في اللهجة التي كان يكلمها بها فشاع فيها نوع من الزهو، ثم اتسع خيالها فوثقت أنه أحبها، بل هو يكاد يعبدها، وكان هذا الإحساس يملأ الدنيا في عينيها سعادة، وفي قلبها بهجة. . . وعرفت من ثيابه ومن منطقه أنه ليس من هذه الجهة من جهات فرنسا. . . قد يكون ضيفاً على آل فيروفلاي. . . على كل حال هو ليس من هذا الإقليم. . .
وأخذ الرجل يخلق الأحاديث ليسمع صوت ماري. . . هذا الصوت الموسيقي العذب الذي كان يملأ سمعيه وينفذ إلى أعماق قلبه كأنه رنين القُبل! وكانت هي تجيب في ظرف وتيه وأدب، فتخلب لب الرجل، وتذيب نفسه الوامقة بما تكسر من مخارج الكلمات، وما توشي في أواخر الجمل، كأنها الربيع الفينان ينثر وروده ورياحينه في أكناف الحديقة!! ولقد كان القصر على بعد فرسخ أو نحوه من النجوة، ولقد كان قصراً عتيقاً من عهد شارل التاسع، ولكن الغابة كانت مع ذاك أقدم منه عهداً. . . بل كانت هي هي الغابة منذ كانت هناك غابات في جنبات فرنسا، ومنذ كان جد ماري ملكاً عليها في بطن الأزل!!
وذكرت ماري هذا الجد الملك، فسرى في أعطافها الكبر القديم الذي ما يفتأ يسري في أعطاف آبائها وأهلها. . . وللحال آمنت أنها جديرة بقلب هذا النبيل، وأنه سيكون فخوراً بها!!
ونظر النبيل إلى جنبات الغابة فتغيرت في عينيه صورتها الجافة الخريفية التي انطبعت فيهما منذ الصباح، وصارت جنةً فيحاء آهلة بالحور العين أمثال اللؤلؤ المكنون، منضورة بالورد عبقة بأريج الرياحين كهذه الجنة التي وعد المتقون! لماذا؟ لم يدر الرجل. . . لكنه كان يؤول كل ذلك بوجود ماري الجميلة إلى جانبه. . . ماري، التي غيرت نظرته إلى الحياة، فجعلتها مشرقة باسمة، بعد أن كانت قمطريراً كالحة، لا تصلح لهذا العبث الذي كان يقرأ عنه في الكتب، والذي سماه الشعراء بالحب. . .
ولم تزل ماري تسلك بالرجل في هذا المنعرج وذاك المنعرج، ولم تسير به في متائه كثيرة، وتخطو به في فجاج كلهن مصائد وفخاخ نصبها أبوها للأرانب، حتى وقفا آخر الأمر لدى بوابة عتيقة. . . هي من غبر شك أعتق من القصر الذي تؤدي إليه وأذهب منه في البلى.
وكانت البوابة صغيرة واطئة، فصاحت ماري فجأة وهي تقول: (أوه يا سيدي! لن يستطيع حصانك أن يدخل من هنا. . . أوه! لقد نسيت، ليتني ذهبت بك إلى باب القصر!).
فتضاحك النبيل ثم قال: (ليس هذا شيئاً. . . إني سأربطه هنا، وهو ينتظرني كما تنتظرك. . . ما. . . ما. . . ما اسم عنزك؟).
- مارجوت يا سيدي.
- مارجوت! إي والله مارجوت. . . ولكن ما سنُّك يا عزيزتي؟
قال ذلك وقد أرسل أصابعه المرتعشة تربت تحت ذقنها الجميل وعينيه المشوقتين تسبحان في جمالها الريان!
- أنا؟ سني ست عشر سنة!
- ما شاء الله! سن فينانة! واسمك إذن!؟ وقال ذلك أيضاً بعد أن صعد آهة عميقة كادت تحرق بحرها صدره.
- ماري. . . ماري يا سيدي!
- ماري! ماري! وحسب!؟
- ماري كابوش يا سيدي!
- ماري كابوش. . . حسن جداً! ماري كابوش اسم جميل ظريف، بيد أنني سأطلق عليك من الآن اسم (زهرة الغابة!).
ثم تقدم فأخذ رأسها الصغير في يديه المتخاذلتين، وطبع على جبينها قبلة عميقة حارة، استودعها كل أماني حبه، ثم دس يده في جيبه وقال:
- (والآن. . . تقبلي مني هذا القليل. . . من. . . الذهب. . . للذكرى. . . لا للفائدة!) ولما نظر في حافظته لم يجد بها إلا قطعة فضية واحدة. . . وحدجته ماري بعينين جريئتين ثم صاحت في رقة وحب: (أوه يا سيدي! ليست بي حاجة إلى نقود فأذكرك بها. . . إني سأذكرك إلى الأبد. . . لن أنساك!) وامتلأت عيناها بالدموع فجأة. . . وأحست بقلبها يرتعد ويخفق. . . وودت لو استطاعت فهربت في شعاب الغابة، لولا أنها نظرت إلى الرجل فوجدته مثلها ممتلئ العينين بالدموع. . . وصدره يعلو ويهبط، آية على ما فيه من مثل ما في قلبها!
- ليس في حافظتي إلا هذه. . . لتكن تذكاراً مني على كل حال!
- تذكار أحتفظ به إلى آخر رمق في حياتي يا سيدي!
- (أوه! دائماُ يا سيدي يا سيدي! ناديني باسمي المجرد يا ماري! أنا أُدعى هنري. . .! ليت لي مثل سنك يا ماري! ليت لي مثل سنك!).
- حسبك قلب مثل قلبي يا. . . هـ. . . هـ. . .
- هنري. . .! ماري. . . ماذا بك. . .
وجعلت الفتاة تبحث الأرض بعينيها مرة. . . وتحدق بهما في وجه هنري مرة أخرى. . . ثم تناول الرأس الصغير مرة ثانية فطبع عليه قبلتين حملتا سر قلبه، وودعها وهو يقول لها:
- هنا يا ماري يجب أن نلتقي الليلة بعد أن يشرق القمر! وأومأت ماري برأسها الصغير.
وانطلقت تعدو كالمجنونة في ظلام الغابة. . .
ولم تفتأ ماري تستعيد الذكريات الحبيبة التي لم تمضي عليها هنيهات. . . ولم تفتأ تردد هذه النداءات الجميلة (يا جميلتي. . . يا صغيرتي. . . أوه شيري!! يا عزيزتي. . . إلى هذه المترادفات التي يمتلئ بها قاموس الحب، وألواح الغزل الإلهية المقدسة. . .
هل هو حلم؟!
نبيل من أماثل نبلاء فرنسا يحب هذه الريفية الساذجة التي لا قيمة لها إلا مسحة من الجمال؟ هذا النبيل العظيم الذي يملك أن تكون له جنة من حسان باريس، تشغفه هذه القروية من بنات الغاب؟ بل هو حلم. . . بل هو حلم!
وعادت إلى البون بك ففكت رباط مارجوت، وحملت سلة أشغالها، وعادت أدراجها إلى كوخ أبيها مصدعة القلب، واجمة الروح، كاسفة البال، لا تفكر إلا في هذه اللحظة التاعسة التي لقيت فيها هذا النبيل. . أولم تلقه. . لأنها ظنت أنها كانت تحلم!
وأقبل أبوها فأعدت له عشاءه فالتهمه، ثم انبطح على فراشه الخشن فلم يلبث أن نام، وراح يغط في سبات عميق.
وجلست هي في غرفتها تجتر أحلامها، وتصور الحادث الأكبر الذي زعمته حدث لها. . . ولكن رنين القبل على. . . جبينها. .! كان ما يزال يرن ويطن. . والنداءات الغزلية كانت ما تزال تتردد في مسمعيها. . .
وانهزم الظلام فجأة فهبت إلى النافذة فرأت القمر ينبثق من الأفق الشرقي، ويكسو بنوره الأحمر البركاني جوانب السماء الرهبة. ثم ارتفع مليك الليل رويداً فابيض نوره، وجعل كلما ارتفع ينشر في الوجود أضواء ولآلئه. . . فاعتزمت ماري أن تخرج إلى موعدها. . . ولو كان حلماً حقاً. . .
وانسرقت الفتاة في ظلام الكوخ الذي كان يملأه شخير أبيها النائم رهبة ثم انفتلت إلى الغابة. . . الغابة الفضية الصامتة التي كانت حينذاك أشبه بمعابد الهنود، فجعلت تنسرب في شعابها وكلما تحرك غصن أو برز أرنب وجلت المسكينة وجلاً شديداً، وهي كانت تحرس الغابة في الليالي المظلمة من الذؤبان والسباع. ثم لم تزل تسير في هرولة. . . ولم يزل قلبها يخفق ويدق. . . ولم يزل خيالها يمتلئ بالمخاوف. . . حتى كانت عند البوابة القديمة!
وا أسفاه! تبدد الحلم الفضي. . . إن هنري ليس عندها! وتلبثت ماري تتنسم أثر هنري. . . لكنها لم تجد شيئاً. . . فعادت محطمة ذاهلة موهونة. . . واخترقت الغابة وهي لا تخشى من أشباحها شيئاً. . . إذ ما يهمها أن يفترسها الذئب أو يحرقها العفريت؟! لا يهم. . .
ورأت أنواراً ساطعة تنبعث من الكوخ. . . وسمعت فيه ضجة. . . فخشيت أن تدخل. . . وظنت أن أباها افتقدها فلم يجدها فولت هاربة.
ولكن هنري كان قد لمحها من نافذة كوخ أبيها، فانطلق في إثرها. . . ثم عاد معها إلى الكوخ لتعانق أباها الذي يقول لها:
- (هنيئاً لك يا ماري. . . هنيئاً لك يا هنري. . . لك أكبر الشرف يا بني أن تكون سليلة ملوك الغاب زوجتك!).
وهكذا تحقق الحلم الفضي!
دريني خشبة