الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 237/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 237/رسالة العلم

مجلة الرسالة - العدد 237
رسالة العلم
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 17 - 01 - 1938


ما بعد الطبيعة

للأستاذ محمد حسن البقاعي

كان علم ما بعد الطبيعة يعرف في القرون الأولى باسم (الفلسفة الأولى) وأول من أطلق عليه هذا الاسم هو أرسطو. أما مخترع كلمة (ميتافيزيك) فهو (آندرونيكوس من جزيرة رودوس. والسبب الذي دعاه إلى تسمية هذا العلم بما بعد الطبيعة هو أن الفلسفة الأولى جاءت في كتب أرسطو بعد الطبيعيات، فأطلق عليها اسم ما بعد الطبيعة.

أما موضوع ما بعد الطبيعة فهو درس الموجود من حيث هو موجود؛ فهي تتعمق في الأسباب وتبحث فيها أكثر من كل العلوم، أي هي تبحث في العلل الكافية لنفسها بنفسها والتي تنشأ عن كل المعلولات. ولقد حدد الفلاسفة موضوع ما بعد الطبيعة فقالوا: علم ما بعد الطبيعة يدرس الوجود المطلق وهذا الوجود يظهر لنا بصورتين:

1 - الصورة الطبيعية المادية 2

- الصورة المعنوية

فعلم ما بعد الطبيعة يدرس الطبيعة والنفس ومباحث الفكر والعالم الخارجي والداخلي وهو على نوعين:

1 - الكونيات العقلية وهو علم ما بعد الطبيعة الذي يدرس الطبيعة والمادة والحياة، فهو يبحث إذن في الطبيعة المادية.

2 - النفسيات العقلية وهو علم ما بعد الطبيعة الذي يدرس مسألة الفكر وطبيعته، والروح وماهيتها. فهناك إذن مسألتان: مسألة المادة ومسألة النفس؛ وهذان المبدءان يحتاجان إلى مبدأ يكون علة لهما وهو الإله جلّ شأنه. فعلم ما بعد الطبيعة يبحث في غاية الغايات وهو الله تعالى. ولنبدأ الآن بالبحث في المادة التي هي من الكونيات العقلية فنقول:

1 - المادة

كثيراً ما بحث الفلاسفة في المادة من القرون الأولى إلى العصر الحاضر، ويتلخص بحثه في نقطتين أساسيتين:

1 - الوصول إلى معرفة الأسباب التي تجعلنا نعتقد بوجود المادة.

2 - الوصول إلى معرفة حقيقة المادة بعد أن نقبل وجودها.

أما وجود المادة ففيه مذهبان: مذهب الرأي العام والحس السليم، ومذهب الفلاسفة. فالرأي العام يقبل وجودها لأنه كوجودنا، ولأن الحياة العملية تسمح لنا بالاتجاه في العالم الخارجي دون أن تخولنا حق الشك في وجوده. ففكرة المادة وطبيعتها لا يصعب على الرأي العام والحس السليم بيانهما بياناً واضحاً؛ فإننا نجدها مركبة من معان مألوفة. وكلنا نعتقد أن المادة هي جوهر دائم وراء الأعراض يتغير من صورة إلى أخرى دون أن ينعدم أو يزول. وإذا رجعنا إلى دستور العالم الكيميائي الفرنسي (لافوازين المسمى بمبدأ بقاء المادة القائل: (لا خلق ولا فناء في هذا العالم بل الكل في تحول) علمنا أن المادة تتحول من شكل إلى آخر؛ فالخشب مثلاً يتحول إلى رماد وغاز، ثم تتكاثف الغازات. . . وهكذا. فالمادة على كل حال موجودة لا تتلاشى. ونحن نعتقد أيضاً أن المادة غبر متجانسة، فهي تتصف بصفات مختلفة باختلاف الأجسام التي تتركب منها؛ فكل جسم له مادة لا تشابه مادة الجسم الآخر؛ فمادة الكبريت غير مادة الصوديوم، ومادة الصوديوم غير مادة النحاس، وهكذا. وهذه المادة عاطلة فهي لا تتحرك من نفسها لأنها غير قادرة على تبديل حالة سكونها بحركة، أو تغيير شكل حركتها التي هي خاضعة لها.

وأما الفلاسفة فقد ذهبوا في وجود المادة مذاهب شتى، حتى أن (زينون ده ليه ' أحد الفلاسفة الخياليين في القرون الأولى بحث في إثبات وجودها (وكأن ذلك يحتاج إلى إثبات) فقال: إن فكرة المادة لو حللناها لوجدناها مجموعة متناقضات لأن العناصر التي يتركب منها جوهر المادة كالزمان والمكان والحركة كلها متناقضة. فالحركة كلها تناقض وعلى ذلك فلا وجود للمادة أصلاً. وهو ينكر وجود الحركة كما ينكر معنى الزمان بالمعنى المعروف ومعنى المكان بالمعنى المألوف. وأدلته على إنكار الحركة كثيرة، منها أن الأرنب إذا لحق أرنباً آخر وكان بينهما مسافة وكانت سرعة الخلفي نصف سرعة الأمامي فإنه لا يلحقه أبداً، لأنه بحسب الحساب الرياضي يلحقه في اللانهاية؛ وهما لا يستطيعان أن يذهبا إلى اللانهاية. فترى أن بحثه أوصله في النهاية إلى إنكار وجود المادة. وكان (ديوجين) يعترض على زينون فيمشي ويقول: يا أستاذ؛ هاأنذا أمشي فلم تنكر الحركة؟

وقد بقيت هذه الأدلة إلى زمان (ليبنيز و (ديكارت على بساط البحث، ولكن (هنري برغسون رد عليه ردوداً كثيرة؛ كما أن حساب ليبنيز (النهاية الصغرى) ليس هو إلا رداً على زينون وأدلته الفاشلة. هذا وإن فيثاغورس وأفلاطون وتلاميذه يقررون أيضاً أن الوجود الحقيقي ليس وجود الأشياء المحسوسة بل هو وجود المعقولات فقط؛ لذلك فإن رجال الكهف (كهف أفلاطون) أي الناس كافة لا يرون إلا خيالات حقيقية. فقيمة العالم الخارجي في نظر أفلاطون الذي يعد في طليعة الخياليين هو هذه الخيالات. وقد أعطى أفلاطون للمعقولات وجوداً بالنسبة للعالم الخارجي المحسوس. لذلك فإنه يسمى خيالياً وجودياً.

أما في العصر الحاضر فقد ظهر أناس دافعوا عن الخيالية أمثال فيخته وهيكل. ولكن (بركليس) أخذ مذهب الخياليين وقال بعدم وجود العالم الخارجي مستنداً في تحليله إلى المعرفة التي توجد عندنا عن العالم الخارجي، ولكننا نعلم أن هذه المعرفة الموجودة فينا ناشئة عن الإحساس؛ وقديماً قال أرسطو: الإحساس أول العلم. فهذه الاحساسات التي هي أول العلم وأساسه هي شخصية وكيفية؛ ومجموع صفات الأجسام يمكن أن يرجع بالنسبة إلينا إلى هذه الاحساسات التي لولا وجودها عندنا لما استطعنا أن نطلع على الأجسام. فالجسم إذن هو مجموع احساسات إذا حذفت لا يبقى من الجسم شيء. يقول (بركليس) إنني لا أعرف الجوهر ولكني أعرف العرض. وهل ندرك الأعراض إلا بالاحساسات. فالاحساسات هي تغيرات نفسية تتأثر من الجوهر وتجعلنا ندرك الأعراض الناشئة عنها.

وقد قسم (بركليس) الأخوال الناشئة في الذهن والصفات الموجودة في الأجسام إلى قسمين: (1) الصفات الثابتة كالحرارة والطعم والنور (2) الصفات الأولى كالامتداد والمقاومة اللذين لا تدركهما إلا مصحوبين بصفات ثابتة مثل الحرارة والنور والطعم. فالأجسام كلها تستحيل إلى هذه الصفات الأولى والثابتة. ونحن لا ندركهما إلا بالاحساسات - كما تقدم - فكثير من معلولات النفس يبين لنا أن الإدراك والوهم متعاونان في الطبيعة وأنه لا يمكننا تمييز إحداهما عن الآخر. أضف إلى ذلك أننا عندما ندرك العالم الخارجي لا نستطيع في محاكمتنا أن يحصل عندنا منه إلا فكرة، والفكرة هنا كل الحقيقة. لذلك فأننا لا نمتزج في نفوسنا في كل إدراكاتنا. وهذا هو نفس دستور بركليس القائل , ' - أي الوجود هو الإدراك. فهل العالم الخارجي موجود لأننا ندركه أم ندركه لأنه موجود؟ فبحسب دستور بركليس موجود لأننا ندركه.

ويمكننا في مناقشة أدلة بركليس أن نقتصر على ذكر الاعتراضات التي وجهها الوجوديون على هذه الأدلة؛ فقالوا إن احساساتنا ناشئة عن الأشياء الخارجية وهي منتظمة، ومتفقة لأننا نرى ما يراه غيرنا، فنحن إذن متفقون بالأشياء التي نراها. فالقوانين التي تخضع لها احساساتنا تجعلها معقولة في نظرنا. وهذا ما كان يدعو (ليبنيز) إلى القول: (إن إدراكاتنا ليست إلا عبارة عن أحلام مرتبط بعضها ببعض، بل هي أحلام ذات إحساس. أي أنها منبعثة من وجود خارجي) فالوجوديون رفضوا بذلك نظرية الخياليين وقالوا إن العالم الخارجي موجود. . .

أما البحث في طبيعة المادة فتناول الفرضيات التي دافع عنها العلماء فيما يتعلق بماهيتها وذلك يتخلص في نظريتين عامتين:

1 - نظرية الميكانيكية

2 - نظرية الحركة

فالميكانيكية تستدل في دراسة الجسم الاعتباري الكيفي بالاعتبار الكمي. فكل التبدلات في الأجسام يمكن أن نرجعها إلى الميكانيكية وهي تتبدل بحسب تقدم العلم؛ وأول شكل للميكانيكية هو ما نجده عند ديموقريطس الذي يقول: إن العناصر الأولى في الجسم هي الجوهر الفرد (أتوم) وهو لا يُرى ولا يتناهى الجواهر الفردة من طبيعة واحدة ولكن لها أشكالاً مختلفة؛ ويتعدد هذا الجوهر الذي هو متين صلب لا يتبدل حاله ولا وزن له. فتتكون الأجسام، ولا يوجد في هذه الجواهر حرارة ولا لون ولا صوت. فهو يؤكد أنه لا يوجد شيء محسوس في هذه الحقيقة الوجودية التي سماها جوهر أفرد. لذلك قال: إن الجواهر لا كيفية فيها بل هي كمية؛ فهو يقربها من صفة حسية. ويمكن اعتبار نظريته هذه كتجربة أولى علمية لتوضيح الأشكال بصورة أولى ميكانيكية. ومن أشهر الفلاسفة الذين طبعوا على غرار ديموقريطس هو (أبيقور) فقد نسج في ذلك على منواله وزاد عليه بإعطائه الجوهر الفرد قوة الانحناء أي جعله يستطيع أن يغير الجهة التي يتحرك فيها إذ جعل فيه قوة خاصة.

والشكل الآخر للميكانيكية هو نظرية (ديكارت، وسبينوزا) اللذين يعتقدان أن جميع خواص الأجسام يمكن إرجاعها إلى الحركة. ومن هنا نشأت جملة ديكارت المشهورة (أعطني حركة وامتداداً وأنا أكوِّن العالم). ولكن هذا القول يحتاج إلى برهان بل إلى براهين. فديكارت يعتقد أن الحركة والامتداد هما العنصران الفعالان في تكوين هذا العالم؛ وقد أنكر بذلك قدرة الإله وأثبت الفاعلية لأحد مخلوقاته الذي لا يستطيع أن يغير حالة سكونه بدون قوة إلهية تسيطر على الامتداد وتهيمن على الحركة فتبعث فيهما الحياة. ويظهر لنا أن رأي ديكارت فاسد، وإن كان قصده بالامتداد العاري عن كل صفة حسية كالحرارة واللون أي هو الحيز الهندسي الذي لا يوجد فيه آتوم حسي بل هو الفراغ اللانهائي.

ولقد تطورت الميكانيكية بعد ديكارت تطوراً هاماً؛ ففي العصر الحاضر، ليس الجوهر الفرد كما كان عند ديموقريطس وأبيقور بسيطاً لا يتجزأ بل هو مختلف عن رأيهما كل الاختلاف. فمبدأ الاحتفاظ بالقوة وتناقض القدرة وخاصة تشعع الراديوم هو الذي جعلهم يعتبرون الآتوم مركباً من الإلكترونات السالبة التي تدور حول عقدة مركزية موجبة ومسافاتها كنسبة بعد الأرض عن الشمس. . . فإنهم يكادون يرجعون كل الأجسام إلى عنصر واحد، حتى أن (غوستاف لوبون) قال: إن هذه الآتومات تسبح في أثير سيَّال غير مادي تتكون منه جواهر الأشياء.

يستند أصحاب هذه النظرية إلى الإحساس، فقد قال أحدهم (هلمولتز) إن الإحساس نسبي؛ فكثيراً ما يكون المؤثر واحداً وتختلف الحساسية ويختلف الإحساس وبالعكس. فالاختلافات الظاهرة في العالم الحسي ناتجة إذن عن اختلافات الحس الموجود. لذلك قيل: إن عنصر الأشياء هو واحد؛ ولهم أدلة أخرى يصلون بها إلى إثبات وصف الحادث وهي التجارب التي قام بها (هوبكنس) و (دوفريل) و (آراغو) وهي مسألة الاهتزاز والانتشار للنور. ولكنه ظهر أخيراً أن النور يكون بالتموج.

وعندما ظهرت هذه الأدلة قبلها العلماء في بادئ الأمر ظناً منهم أنها منتجة. ثم انتقدها كثيرون وأثبتوا بُعْدَها عن كنه الحقيقة. فدليلهم الذي يعلنون به أن القدرة في العالم لها كمية ثابتة لا يسمح لنا بإرجاع كل القدرة إلى قدرة واحدة. وأول شيء يجعلنا نحجم عن قبول رأي الميكانيكية هو وجود بعض الحوادث التي لا يمكن أن تنعكس، فلو كانت ميكانيكية لانعكست. فالشمس مثلاً تشرق من الشرق وتغرب في الغرب فهذه لا يمكن أن تنعكس؛ وهذا دليل واضح على وجود قوة تحركها في هذا الاتجاه. وقد انتقد (ليبينز) رأي ديكارت فقال: إذا قبلنا أن الامتداد يجوز أن يكون فيه حركة أو سكون، فلو فرضنا جسماً مثل (ج) تحرك في هذا الامتداد وصادف جسماً آخر (ب) في حالة السكون، فهذا الأخير لا يبقى ثابتاً بل يتحرك، ولكن حركته ليست نفس حركة (ج) بل يقاومه بكتلة، وهذه الكتلة تنقص من سرعة الجسم (ج). نستنتج من ذلك أن الامتداد والحركة ليسا كافيين، ولو كانا كافيين لما كان يجب أن ينقص من سرعة (ج) وحركته.

إذن يوجد في المادة شيء غير الحركة والامتداد وهو القدرة المدخرة التي هي عبارة عن قوة تتصف بها الأجسام ولا يمكن الاستغناء عنها فهي قوة كامنة تسمى (الموناد فهي جوهر روحي تتكون من الأجسام وبواسطته يمكن تعليل المقاومة.

أما كل من دافع عن نظرية القدرة فإنه يستبدل أجزاء الآتوم بالقدرة وهي الحقيقة الجوهرية الكامنة في قلب كل الأشياء. فقد قال (أوسفالد): عندما نصاب بعصا فبماذا نشعر، أبا العصا أم بالقدرة؟ بالطبع نشعر بالقدرة التي هي الشيء الإيجابي الثابت الموجود في كل الأشياء. وهي ليست واحدة في جميع الأجسام؛ بل تتصف بأشياء مختلفة متناسبة مع شخصياتها وخواصها النوعية. والصعوبة في ذلك هي أن قوة تصدر هذه القدرة هل هي مركبة من عناصر بسيطة بقوة الإرادة كما يظن (هوكسلي على أن القدرة الفعالة لا يمكن أن تعتبر إلا كحالة شعورية فقط؛ وهذا يمكن أن يظهر غريباً. ولكن إذا حاول الإنسان أن يهتم بما يفهمه عن القوى المتجهة الواحدة منها نحو الأخرى يرى أنه يدركهما كأنهما يتحركان الواحد نحو الآخر بسرعة ما. وعند ذلك لا يتصور إلا الحركة تاركاً القوة جانباً. وأما أن يتصور كل جزء كأنه مصحوب بشيء يشابه حالته كحالة الإرادة وهو يعلم هذه الجهة. ونحن نشك أن صعوبة التفكير بالقوة شيء غير مقابل بالإرادة. فليبيز إذن يقترب من الحلول الأخيرة عن طبيعة المادة.

(انتهى بحث المادة)

دمشق محمد حسن البقاعي