الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 236/أناشيد صوفية

مجلة الرسالة/العدد 236/أناشيد صوفية

بتاريخ: 10 - 01 - 1938


جيتانجالي

للشاعر الفيلسوف طاغور

بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب

- 64 -

أي شراب مقدس تريد أن ترشف - يا إلهي - من كأس حياتي المترعة؟

يا شاعري، أفيلذك أن ترقب خلْقك من خلال عينيَّ، وأن تقف عند أذنيّ صامتاً تتسمع لحنك الخالد؟

إن دنياك عبارات تضطرب في خيالي، وإن مرحك يبعث فيها النغم الموسيقي. لقد نزلت علي عن نفسك في رضا لتستشعر حلاوة كمالك فيّ

- 65 -

تلك التي تستقر دائماً في أعماق حياتي، في تباشير الصباح اللامعة المضيئة، تلك التي ما ترفع النقاب عن وجهها أبداً في ضوء النهار، تلك - يا ألهي - هي هديتي أزفها إليك ملففة في لحني الأخير

لقد تساقطت حولها عبارات الاستعطاف كليلة؛ ورحت أستميلها عبثاً بكلمات فيها الشوق والحنين

إنني أضطرب في أنحاء الأرض وهي ما تنفك في زاوية من قلبي، ومن حولها يشب ويخبو غالي حياتي وغثها

وهي قد سيطرت على خواطري وأفعالي، على غفوتي وأحلامي؛ غير أنها سكنت وحيدة وفي منأى عني

كنم من إنسان طرق بابي يسأل عنها ثم ارتد في يأس

ليس في العالم من توضّحها وهي ما تبرح في خلوتها تنتظرك

- 66 - إنك أنت السماء وأنت العش في وقت معاً

يا ذا الجمال، إن الذي في العش هو حُبك الذي يغمر الروح باللون والصوت والأريج

إن الصبح يسفر وفي يمناه سلته الذهبية وقد امتلأت بالزهور الجميلة يكلل بها وجه الأرض

والليل يسدل أستاره على المروج الممحلة وما فيها سوى أعشاب تعافها الأنعام، وعلى الطرقات الموحشة، وبين يديه جرته الذهبية وفيها رشفات باردة من الأمان، أتى بها من المحيط الغربي الساجي

ولكن هناك. . . هناك حيث تمتد السماء إلى اللانهاية فتجد الروح مكاناً فسيحاً ترفرف فيه، يتألق دائماً النور الأبيض فلا نهار ولا ليل، ولا شبح ولا لون، ولا. . . ولا حديث

- 67 -

إن شعاع شمسك ينطق إلى أرضي ممتد الزراعين، فيقف بإزاء بابي طيلة اليوم ليرتد إليك وبين يديه معاني عبراتي وأناتي وأغاريدي

في لذة النشوة لففت صدرك المرصع بالنجوم في ملاءة من السحب الندية استحالت إلى أشكال وطيات ثم بهرجتها بأصباغ ما تزال تتغير

إنها براقة متقلبة، رقيقة دامعة ومظلمة، لذلك أنت تتعشقها أيها الطاهر النقي، وهذا هو السبب في أنك تخيرتها لتغطي على ضوءك الساطع المهيب بظلها الرفيق

- 68 -

إن تيار الحياة الذي يتدفق في عروقي صباح مساء هو الذي يتحدر في أنحاء العالم فيهتز على نغم لحن جميل

وهو الحياة التي تخترق الأرض مرحة في نبات لا عداد له ثم تتفجر عن موج مضطرب من الأوراق والأزهار

وهو الحياة التي تهدهد في مهد محيط الحياة والموت، بين المد والجزر

إنني أستشعر الجلال في أطرافي من أثر لمسات دنيا الحياة؛ وكأن كبريائي وهي أثر خلجات الحياة في العصور الماضية، كأنها تضطرب في عروقي هذه الساعة - 69 -

أفلا يلذك أن تطرب لهذا اللحن الحلو، وأن تتقاذفك نشوته المروعة فتغمرك وتحطمك؟

إن كل الأشياء تندفع في طريقها فلا تستأني ولا تعقب، وما من قوة تستطيع أن توقف تيارها وهي تندفع في طريقها إلى الأمام

كن بازاء هذه الأشياء في ميعة حضرها: الموسيقا السريعة والأيام وهي تقبل لترقص حيناً ثم تدبر. . . إن الألوان والألحان والأريج تتدفق جميعاً في المجرى اللانهائي في نشوة الطرب. . . الطرب الذي يتناثر ويتضعضع ويفنى في كل حين

- 70 -

لأن أعزز نفسي وأبعثها في جميع النواحي، فإني أنشر على ضيائك أستاراً من الظل ذات ألوان، لأن نفسي كأنها هي فتاتك (مايا)

لقد أسدلت دونك حجاباً ثم أعلنت عن ذاتك في فنون كثيرة، ولكن هذا الانفصال الذاتي حل في جسمي أنا

وتردد صدى اللحن العنيف في أضعاف السماء في أشكال مختلفة من الدمع والابتسام من اليأس والامل؛ والموج يعلو ويهبط، والأحلام تتبدد وتتجمع، ولكن فيّ بعض نفسك

وعلى الستر الذي أقمت رسوم كثيرة صورتها ريشة الليل والنهار؛ ومن ورائها عرشك وقد نسج في منحنيات غامضة أخاذة ليس فيها الخطوط المستقيمة القفرة

إن المهرجان العظيم. . . مهرجانك وإياي قد هز آفاق السماء واضطربت نغماتك وإياي في أرجاء الهواء، وانطلقت تفتش عنك وعني كل الأجيال الماضية

- 71 -

إنه هو. . . هو الباطن، الذي أيقظ الحياة في نفسي بلمساته الخفية العميقة

إنه هو الذي نفث من سحره في هاتين العينين، ووقع في سرور على أوتار قلبي لحن الطرب والألم في وقت معاً

إنه هو الذي نسج خيوط (مايا) في أصباغ حائلة من الذهب والفضة. . . أصباغ زرقاء وخضراء؛ ومن بين ثناياها أطلت قدمه، وبلمسة لمساتها ذهلت عن نفسي إن الأيام تطلع علينا ثم تنطوي، وهو هو الذي يحرك قلبي في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة، وخفقات من الفرح والألم

كامل محمود حبيب